لا أتورع لو قلت : سحقاً لسياسة تزرع فيَّ حقداً على جاري ، وسحقاً لقومية نتنة – ولدُعاتها – تزيد في تمزيق أشلاء بني قومي !!
هوى سلطان أحد العلماء عندما قال في يوم ما : لو تعارض ديني مع نسبي فإني أضع نسبي تحت قدمي ، وأذكر يومها هجوماً لاذعاً رأيت أن هذا العالم يستحقها لتوقيت كلامه من جهة، وتوجيهها لمن لا يفقهون خطابه من جهة أخرى .
كل يوم ينال صعلوكاً من أحد الكبار ، ويتأسد الكبار على رقاب الصغار ، من تعلم مبادئ القراءة بات كاتباً ينتقد من تآكلت الأقلام في يده .
يضعون نسبهم تحت أقدامهم عندما يغتالون الأخلاق بكل ما في الكلمة من معنى ، فالسياسة الناجحة برأييهم تلك التي تزدان بأثواب النفاق .
يضعون نسبهم تحت أقدامهم عندما لا يستيقظون لمشاعرهم القومية إلا أمام الطبل والمزمار ،
يهندسون بصورة إبداعية في نشر العداواة التي كانت يوماً نادرة كندرة الإخلاص عند من يدعي حب القومية وخدمتها .
ومن الأمور التي كان لها نصيباً في الطعن بخناجر المزوادة والنفاق من هؤلاء المزاودين ومن على شاكلتهم علاقات الجوار ، التي كانت وما زالت عند من يتصف بالإنسانية أرقى أنواع العلاقات الاجتماعية .
إذا كان يحق لنا أن نفتخر بشيء من علاقاتنا الحضارية الراقية فلا أرى أسمى من علاقات الجوار ، التي فاقت في كثير من الأحيان علاقات النسب والقرابة ، الكثير منا ابتعد عن بيته الذي ولد ونشأ وترعرع فيه وحالت المحيطات والبحار والجبال والممالك بينه وبين حيه ومكان ذكرياته لكن مع حنينه لكل ما يخصه من امور بيته يبقى لعلاقاته مع الجيران نكهتها الخاصة .
ويا للسعادة عندما تجد أحدا من الجيران بعد غياب طويل وكأنك عثرت على أمر تبحث عنه من حيث لا تدري ، قد يرى البعض أن هذه المشاعر مبالغ فيها ، لكني على الأقل أحملها !!
كان قدرنا – انأ وأشقائي – في الأيام الأولى لطفولتنا المبكرة أن نكون ضحية الجار وحقوقه ، فإذا ما تشابكنا مع أبناء الجيران ثم حصل وقدم آباؤهم للشكاية عند والدي في أمر أبنائهم كان نصيبنا هو العقاب الشديد سواء كنا على حق أو على باطل .
احترام الجار وصون حقوقه مما تميز به عالمنا الشرقي عموماً والإسلامي خصوصاً ، فجميع الأديان والطوائف دعت إلى احترام هذا الحق وهو ما جعل التعايش ممكنا مع الاختلاف في المعتقد سواء كان في الدين أو المذهب أو التوجهات والنظريات ، مع احتفاظ كل فئة بخصوصياتها ، وأصبح ذلك مما يعتز به الإنسان ، في وقت كان هذا الأمر مفتقداً إليه في أرقى البلاد الديمقراطية .
وكم أتعجب حين أسمع أن احترام الجار وصون حقوقه كان مما يفتخر به الناس في الجاهلية قبل الإسلام فهذا عنترة بن شداد يقول :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي … حتى يواري جارتي مأواها .
في الوقت الذي أرى فيه انغماس جاهلية اليوم في أوحال الإساءة للجار وحقوقه .
وأما بالنسبة للإسلام فقد كان مصدر هذا الاحترام هي المكانة التي أولاها لهذه العلاقة ، وقد أوصى الإسلام بالجار، فأمر بالإحسان إليه، وأكد حقه وحذر من إيذائه وقهره ، وسأذكر الأدلة على ذلك بعد بيان المقصود بالجار ؟
من هو الجار؟
الجار هو مَن جاورك، سواءٌ كان مسلماً أو غير مسلم، وأما حد الجوار فقد تعددت أقوال العلماء المسلمين في بيان ذلك الحد، ولعل الأقرب أن ما تعارف عليه الناس أنه يدخل في حدود الجوار فهو الجار.
والجيران يتفاوتون من حيث مراتبهم، فهناك الجار المسلم ذو الرحم، وهناك الجار المسلم، والجار الكافر ذو الرحم، والجار الكافر الذي ليس برحم، وهؤلاء جميعا يشتركون في كثير من الحقوق ويختص بعضهم بمزيد منها بحسب حاله ورتبته.
وقبل الخوض في بيان الأدلة التي جاءت لتؤكد هذا الحق ، أقول من وجهة نظري :
أن الجيرة لم تعد تقتصر على جار الدار والمنزل فحسب، فالكون اليوم أصبح قرية صغيرة ، والإنسان يبني أقوى العلاقات عبر شبكة الإنترنت ، ويساهم في تكون مجتمعات متنوعة ومن شتى أصناف البشر واختلافاتهم في مواقع إلكترونية .
وبناء عليها لم يبق للجيرة حد على المستوى المعنوي، فزميلي الكاتب وأختي الكاتبة التي تشترك معي بالكتابة في مواقع إلكترونية ولمدة تزيد على السنة والسنتين وربما أكثر ، يصحبان في الحقيقة جاران مقربان يدخلان بيتي وادخل بيوتهم كل يوم ، الإساءة لهما بالشتم والسب والتشهير في الحقيقة اعتداء صارخ لحق الجيرة .
أما الأدلة الواردة في بيان حق الجار والإحسان إليه فكثيرة لا يسع المقام لذكرها فمنها :
– ما أوصى به الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه، حيث قال : {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب} النساء:36
– قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه )، متفق عليه
– أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فقال: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن )، قيل : من يا رسول الله؟ قال: ( الذي لا يأمن جاره بوائقه )، يعني شروره متفق عليه .
– روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن فلانة تُذكر من كثرة صلاتها، وصدقتها، وصيامها. غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم : ( هي في النار ) .
– كما دعا صلى الله عليه وسلم أن يتفقد الإنسان حال جاره حين قال: ( ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهم يعلم)) رواه الطبراني .
من حقوق الجار:
لا شك أن الجار له حقوق كثيرة نشير إلى بعضها، فمن أهم هذه الحقوق:
رد السلام وإجابة الدعوة:
وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة.
كف الأذى عنه :
نعم فهذا الحق من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير وتنوعت أساليبه في ذلك، واقرأ معي هذه الأحاديث التي خرجت من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه ) .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أذى جاره. فقال: ( اطرح متاعك في الطريق). ففعل؛ وجعل الناس يمرون به ويسألونه. فإذا علموا بأذى جاره له لعنوا ذلك الجار. فجاء هذا الجار السيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو أن الناس يلعنونه. فقال صلى الله عليه وسلم: ( فقد لعنك الله قبل الناس ) .
تحمل أذى الجار:
وإنها والله لواحدة من شيم الكرام ذوي المروءات والهمم العالية، إذ يستطيع كثير من الناس أن يكف أذاه عن الآخرين، لكن أن يتحمل أذاهم صابرًا محتسبًا فهذه درجة عالية : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ( المؤمنون:96
ويقول الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} الشورى:43 . وقد ورد عن الحسن البصري رحمه الله قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى.
تفقده وقضاء حوائجه :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم). وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ( إلى أقربهما منكِ بابًا ) .
ستره وصيانة عرضه :
وإن هذه لمن أوكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}فصلت:46.
وتلك هي الطامة إذا ما تحول الجار إلى عنصر قلق وإزعاج لجيرانه فحينها سيتمنى كل من حوله إما رحيله وإما رحيلهم .
وعلى العكس عندما يكون الجار جاراً لا ناراً سيعمل الجيران كلهم – دون استثناء – على الحفاظ على هذا الجار وعدم التفريط فيه لأنهم جميعا يرتقون معاً في ذكر الفضيلة ، وصدق من قال :
يَلُومُونَنِي أَنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي *** وَمَا عَلِمُوا جَارًا هُنَاك يُنَغِّصُ