ــ الرابط بين فني الشعر والسياسة متحول ومربك لا يوجد ثبات في العلاقة رغم أن نبع الاثنين قادم من عالم الكلمات. تفسير السياسيين للواقع مادي وبراغماتي وموجه من الداخل إلى الخارج، يفترض من السياسة أن تمتص العنف والفوضى من الواقع، غير أن العكس ما يحدث لدينا. أما تعاطي الشعر مع الشأن السياسي فنفسي ووجداني. الشاعر يتلقى ويرى فيما السياسي يخاطب ويتكلم. الشعر في وحدته يستضيف العالم الخارجي، يحضنه ويعيد صياغته بوعي مزدوج، حقيقي وخيالي. الصورة والخيال عقل الشعر، أما عقل السياسي فقائم على تلمس مادي مباشر. ثم إن الشعر بخاصة لا يعثر على صوته الفوري داخل الجماعة السياسية بشكل يحترم الذوق ورهافة الحس. النشاط السياسي مهموم بتحول وإحداث تغيير في العلاقات الاجتماعية والسياسة، يأخذ أحيانا لون الدم وقسوة الحديد. أي أنه موجه بفعالية عضوية آمرة أو آملة صوب كتل وقوى بشرية واسعة، أما الشعر فدوره أكثر بساطة وأكثر صعوبة في آن واحد. إذا كان خطاب السياسي نحو الكثرة والأغلبية، فإن صوت الشاعر صوت الأقلية المهمشة. يهتم الشعر بالذائقة وبأثر التعامل مع الكلمات والأحاسيس، وغالباً ما يصدر عن هم وجودي ونفسي. ولا يمكن للقصيدة أن تحول من مجرى الواقع. الشعر أضعف من أن يتجرأ على عمل من هذا النوع. إنه قدر فردي خاسر وخافت، قدر ضد القدر العام الرابح دوما والسليط. قدر الاختلاف ضد التماثل والنزف ضد التحجر. لكن القدر العام للكرد في سوريا ذو سمة شعرية، لمعانوة طيلة عقود، لذا يبدو سياسيوهم، للأسف، أقرب إلى شعراء يخطؤون استعمال فن الشعر في خلطه مع فن السياسة. لا شك أن القصيدة تتأثر بالواقع، غير أن ردها عليه رد جمالي. كان للجيل السابق على نحو ما صوت أعلى في الشأن العام. ربما لأنه بالأساس نشأ وانتشر داخل منظمات شبابية تابعة لأحزاب سياسية. أغلب الكتاب الذين تقل أعمارهم عن الأربعين غير مرتبطين بأحزاب سياسية، وهم الآن يبتعدون عن نشاط تشرف عليه الأحزاب، رغم كثرتها وقلتها. يكمن السبب في ضعف المستوى الفكري للأحزاب نفسها، لا في عزوف الشعراء عن التعاطي مع السياسة. لغة من كتب الشعر تحت ضغط الحاجة السياسية لغة فقيرة، ويمكنك مراجعة ما كتب داخل إطار الواجب السياسي للشاعر أو المثقف، ستجد نتيجة مخيبة: كيف يمكن للغة مجترة وفقيرة ووعي ضحل أن يصرخ باسم الجماعة ويدافع عن حقها في الحرية والبقاء. ألا يقتضي سمو الهدف سمو الوسيلة. الأفراد المميزون والمتواضعون أكثر قيمة ممن لا يجد في عمله خجلاً ولا تردداً، ولا عناء بحث أو جرأة طموح. ما ينقص السياسة هو الخيال الرحب، وما يؤلم الشعر هو الواقع الضيق والأفق الحبيس. يرغم السياسي الواقع على التقزم، ويرفعه الشاعر على جناح من الصبر الودود والرغبات المريرة. لو أن للشاعر قوة وسطوة الواقع السياسي لما كان شاعراً بالأساس. إنه يخون الواقع لفرط رداءته وقسوته وشراسته، وعبر الخيانة يجد ملاذه النقي والمنقطع عنه. ما تدعوه فصاماً ليس سوى هرب نبيل. تبنى السياسة على معرفة الواقع، فيما الشعر لا يعرفه فقط بل يخلقه كذلك. السياسي يبني الوقائع وسط الجموع التي لا تني تهدر صوتها، في حين أ ن الشاعر يخلقها عبر كلمات صامتة من لحم عزلته ودم حنانه.
*ربما ليس بالممدوح أن يتجلى تفكير المثقف منكم، على نمذجة ونشاط سياسي، لكن الأكيد، من خلال ما أتابع، أن الهم السياسي الكردي في سوريا، لا يلقى نفسه فما في نتاجكم، إلا ما ندر ؟
ــ لنفترض أن كتاباً أكراد سوريون شباباً، تناولوا السياسة عبر فن أدبي، وليكن الشعر، كما تناوله القوميون العرب في سوريا ” كتاب الحزب الحاكم وموظفو المهرجانات والخطب”. لنأخذ أمثلة ” سليمان العيسى مثلا”. هل يمكننا حينها النظر إلى هكذا نتاج على أنه مثال فني نموذجي عن نشاط سياسي لائق. سيكون المقابل الإبداعي سطحياً ومباشرا، مناسباتياً يعكس الحدث كما يعكس صراخ الطفل جوعه أو ألمه. لنأخذ مثالا آخر، على النقيض، نزار قباني كشاعر شعبي وجماهيري. هل يمكنك ربط النبرة العالية لنزار، نبرة الرفض والجموح والشكوى، بفعالية سياسية ثقافية مؤثرة. ماذا تبقى من كلمات العيسى وقباني؟! أيمكنك اعتبار صوت سليمان العيسى كشاعر بعثي قومي، أو نزار قباني كشاعر على النقيض من لغة وأسلوب العيسى، صوتاً فنيا عالي المستوى على الصعيد السياسي. ولنلتفت إلى تجربة أدبية عربية إنسانية وسياسية فريدة، أقصد تجربة أهم شاعر عربي في القرن العشرين، محمود درويش. بالتأكيد أن المقارنة ستفضي إلى بقاء فعالية درويش نظراً لسمو لغته وعمقها الإنساني. سليمان العيسى شاعر للسلطة والعقيدة المتحجرة، قباني شاعر الجماهير التي لم تجد صوتها في كتب العيسى، درويش شاعر الشعر الذي يكتب بعيداً عن السلطة وبعيداً عن الجماهيرية التي تصفق للرفض والتمرد اللفظيين. أثر العيسى وقباني يشبه أثر مسلسلات تلفزيونية حيث تظهر الذاكرة بشكلها الإعلامي التلقيني، ويتجلى الوعي ببعد درامي مسطح.قريباً سنرى نسخة تلفزيونية من تجربة درويش على يد الممثل السوري فراس إبراهيم. حينها سنرث الوعي الجمالي وقد استهلكته شوهته آلة الميديا النهمة. رسالة كافكا إلى والده مثال نادر عن القلق والحيرة والرفض تجاه سلطة الأب “سلطة رمزية تختصر قوة وبطش السلطات الاستبدادية”. إذا كان لنا من طموح، داخل إطار الواجب الإنساني في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، ونحن منهم، فليكن على وتيرة وعمق وثراء لغة كافكا. ليكن الرد فريداً، كما يليق بالضحية العاشقة أن تثأر من معشوقها بسبب الحب لا الكراهية.
*الكثيرون، وفي أحاديثهم الخاصة، يعزون تلك القطيعة مع الشأن العام، إلى نوعية هذه النخبة التي أنتجها المجتمع الكردي في سوريا، والتي تحمل بعض السمات المعينة ” نخبة منفعلة، نخبة تابعة لتيارات سياسية ما، نخبة شللية، .. الخ ” . أين أنت من ذلك ؟
ــ ليس لي اختلاط مباشر معهم. لم أنتم إلى أي تنظيم. لم يحدث أن تأثرت العامة بالسياسيين هم بشكل فعال. ما حدث في 12/3/ 2004، مثلا، لم يكن من قوة ولا تخطيط الأحزاب الكردية في سوريا. لك أن تعود إلى الدراماتيكية والعنف الذي صاحب تلك الأيام. ستجد ضعف السيطرة وغياب التنظيم الفاعل والموجه. كان الحدث والفوضى أكبر من قدرة الأحزاب على التحكم. ليست النخبة فقط منفعلة، السلطة كذلك منفعلة والجمهور العام. أنت تقرأ نشراتهم الحزبية وكتاباتهم. هناك ضعف قاحل. ثم إن الأحزاب نفسها تنسب إلى شخصيات محددة. لا انتماء إلى الأفكار، وفي هذا نشبه مضطهدينا أنفسهم. الخلافات شخصية وليست سياسية ولا تنظيمية. الفقر وسنوات الجفاف والاعتقال العشوائي والهجرة والبطالة والتعامل الأمني المتعسف أضعفت الجميع على السواء. يدعو الواقع العام هناك إلى أسى عميق. نتألم ولا يتحول ألمنا إلى قوة، نشكو ولا تصير الشكوى تحولاً في الفكر والعمل. الأفق ضيق، لذلك ربما يكون الخلاص فردياً، أي شعرياً إذا جاز التعبير. ليس من “أحمد ترك” كردي في سوريا، ربما لأن “البعث” ليس العدالة والتنمية. وإذا استفادت سوريا من التجربة التركية مع مواطنيها الكرد، يمكن للكرد السوريين أن يحلموا حينها. لا أحلام الآن. جغرافيتنا السياسية ممر، صدى لأصوات خارج حدودنا. لم نولد بعد. إننا أشبه بهجين سوريالي. حنيننا كردي عراقي، ومدانا البشري والجغرافي كردي تركي، ثقافتنا كردية سورية شفهية وطنية. إننا نقيم بين تفجرات العراق القوية وتحولات تركيا ومطبات علمانيتها العجوز، نقيم وسط الصدى المحلي الراكد، وهذه كلها تشكل مشهدا سورياليا معيقا ومحفزاً في آن واحد. لكن السوريالية تحول في الفكر والوعي وطريقة النظر. سننظر وننتظر في هذه الفسحة الضيقة من العالم العربي والإقليمي المريض. المرض وصفنا الجدير بنا، لأن الوباء عام وشامل. سنشفى، لا شك أننا في طور يفضي إلى الشفاء والعافية. لا يمكن للفطرة البشرية أن تعقد زواجاً أبدياً مع المرض.
* أحدى المعضلات الأساسية، لسوء فهم الجو الثقافي السوري العام، لأوضاع الأكراد في البلاد، ربما يعود إلى عدم قدرة النخب الكردية على التواصل مع هذا الجو العام بالقدر المطلوب، هل هذا يصح برأيكم، أم ثمة معضلة في الجو الثقافي السوري ؟
ــ ثمة سؤال محض مادي في هذا المقام، أين يمكن للنخبة الكردية أن تلتقي بنظيرتها العربية أو السورية بالعموم، في المقاهي مثلا ؟ حيث سعر فنجان الشاي بات يقارب الأربعة دولارات في مقاهي دمشق، هل هو المكان الصحي لجو ثقافي سليم . أم الجو الثقافي السليم يفترض وجود حريات جامعية يطرح فيها الكل وجهة نظر، ويستوجب وجود مركز ثقافية فعالة ودونما مراقبة أمنية، ووجود إعلام حر يقول فيه الكل همه، ووجود حرية معقولة لإنتاج المسرح والسينما وعرضهما، حقا أين سوريا من كل ذلك ؟ هناك جفاف يا سيدي، هناك عاصفة رملية فحسب . المشكلة ليست في النخبة العربية، التي لنا الكثير من الملاحظات عليها، لكن ثمة بها بشر جديرون بأنحاء قاماتنا، وليست المشكلة بالنخبة الكردية بكل معضلاتها، أضحك يا سيدي وقل ” الحق عالطليان”
أمس، في قلب دمشق، قرب نصب للقائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي، سألتني صديقة سورية عزيزة، عن عدد الكرد السوريين المجردين من الجنسية: هل تحمل بطاقة شخصية ” كانت تقصد الهوية السورية” أم إنك ” أجنبي”؟ كدت أضحك. ذكرني هذا بموظف من حلب سأل كردياً سوريا أثناء إجراء معاملة إدارية: أنت أجنبي، فقال نعم، فسأله : من أي دولة أنت، قال: يا رجل أنا سوري، أنا كردي من سوريا. لم يتحمل الموظف جوابه. أنت تمزح معي، أرجوك نحن في العمل، هذا ليس وقت مزاح. كيف تكون أجنبياً وسورياً وكردياً وعربياً في آن واحد. لم تعد الصديقة إلى ذاكرتها جيداً، ربما بسب كونها عاطلة عن العمل ومشوشة من جراء هذا التعامل اليومي.. نسيت إذن، أنني درست الحقوق في جامعة دمشق، وأديت خدمة العلم في الجيش العربي السوري، وعملت فترة في سلك المحاماة، وهو سلك وضيع. وتقدمت إلى مسابقة في وزارة الخارجية السورية لانتقاء موظفين دبلوماسيين. وكان من شروط القبول في المسابقة: أن أكون عربياً سوريا منذ أكثر من خمس سنوات. وحينما تقدمت بطلب إلى دائرة السجل المدني في عامودا، جاء الشرح التالي أسفل كتاب إخراج القيد المدني: يعتبر في عداد العرب السوريين وفق إحصاء العام 1962 ” الإحصاء الذي لم نتخلص بعد من آثاره لكونه ساريا ومراكما للمشكلة أكثر فأكثر مع الزيادة السكانية الطبيعية قرابة الخمسين سنة”. “في عداد … وفق…” موظف وزارة الخارجية وجد الصيغة لا تتوافق مع الشرط .. الخ. قبلت في المسابقة وحضر الامتحان السيد فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السورية. تعي الصديقة المحترمة أن عشرات الآلاف من الكرد السوريين مجردون الجنسية السورية. ثمة صنف آخر من الأجانب وهم ممن يدعون بـ ” مكتومي القيد”. أي أنهم بالمعنى القانوني في حكم العدم، إنهم غير موجودين على الإطلاق. يحتاج الأجنبي الكردي السوري إلى إذن خاص للزواج، ويعامل معاملة الأجانب، فلا توظيف ولا حق في العمل لا السفر ولا سند للملكية،ثم ليكمل إجراءات الزواج يحتاج إلى قرار من المحكمة الشرعية، ثم إلى موافقة أمنية، وعندما ينشأ عن الزواج طفل يعود إلى إجراء المعاملة نفسها. هذا جزء يسير من العفن المؤسساتي الحكومي والعقلية الإدارية الإقصائية التي تحرم الكرد السوري من حقوقه الشخصية الإنسانية الأساسية: العمل والسفر والملكية والزواج. كيف يمكن لهؤلاء أن يندرجوا في عموم المواطنين السوريين دون رهاب مجتمعي !!؟ . كيف يمكن لهم أن لا يفقدوا الصلة النفسية والمادية مع الأرض السورية. إنهم يقيمون في العدم، ولا ينسب إلى العدم سؤال ولا جواب.