«رهائن الخطيئة» لهيثم حسين: رواية الجرح الكردي

  هشام بن الشاوي

لا أنكر بأنني كنت أقرأ رواية هيثم حسين””رهائن الخطيئة”” (دار التكوين/سورية، 2009)، وأنا مبلبل الفكر. أتساءل بيني وبين نفسي عن سر الجدة خاتون، المرأة النازحة من مكان مجهول، المراة الغامضة التي تصد كل من حاول اقتحام شرنقتها، ثم أربط وبلا جدوى- بين الفصول التي تهرب أحيانا إلى فضاءات مختلفة.. فمن قصة الأخوين الصوفيين أحمد وعلي، وشراكتهما ثم احتراق دكانهما، وهو الحادث الذي سيدفع الصوفي أحمد إلى الرحيل، بل إن عنوان الرواية وغلافها يخدعان القارئ، سيما من تعود على قراءة ما يدغدغ مشاعره، في حين كنت أنتظر ذلك الحادث الغامض الذي عصف بحياة الجدة.
بعد إفلاس تجارتهما، إثر محرقة البصل، غادر أحمد عامودا، و استعان بالمهربين.. لعبور الحدود إلى تركيا، في اتجاه قرية قراشيكى، حيث سيستقر به المقام بعد التعرف على الملا، الذي سيوصي له بما يملك، ويزوجه بنته سيْرى وهو يحتضر، بينما الصوفي علي لم يتحمل خسارته المضاعفة (تجارته ورحيل أخيه)، فبقي متواريا في بيته أياما، وللخروج من عزلته عاد إلى مهنته الأولى””: العتالة، لأنها لا تتطلب أي رأسمال سوى قوته وعضلاته، لكنه سقط من فوق أكياس القمح المكدسة فوق الشاحنة، فلقي حتفه، وكان موته خاتمة مآسيه، وفاتحة مآسي ابنه هوار…
هوار لم يكن كمجايليه، فقد كان مهموماً بهموم البيت، فاغتالت الرجولة المبكرة طفولته… وهو يسعى إلى المساهمة ولو بقسط صغير في تلبية بعض الطلبات، أو تأمين بعض ما يحتاجه من لوازمه المدرسيّة، وحين تعلم الجدة خاتون باستقرار ابنها في قراشيكي تقرر الرحيل إليه، هناك، حيث سيبدأ هوار باكتشاف المكان.. قرية داري التي تشارف على الاندثار.
وفي طريقها إلى مزار شيخ لتانة للوفاء بنذرها، تتساءل الجدة””: هل سيعود إلى الديار؟ والصبي لا يفهم شيئا، ولا ترد عليه، ثم تصيح بأعلى صوتها: ””أيّ ديارٍ أيّتها التعيسة..؟!”” وتسقط على الأرض، غارقة في نوبة بكاء مرير.
وبعد رفض أحمد العودة معها تعود مع حفيدها، وفي لحظات الوداع، كان هوار الشخص الوحيد الذي لم يفلح في ذرف ولو دمعة واحدة، وكان يؤنّب نفسه لأنّه لا يستطيع البكاء.
هوار بقي مشدودا إلى ماردين، مدينة اللغات المتعددة (يتكلم أهاليها العربيّة، الكرديّة، التركيّة، وأحيانا الآرامية أو الأرمينية، واللهجة الماردينية، وهي تطعيم العربية بالكردية والتركية). إحساس غامض كان يشد هوار، رغم أنه لم يزرها إلا مرتين.. مرة مع عمه، ومرة وحده في العيد، حين تفتح حكومتا تركيا وسورية الحدود لمدة ثمان وأربعين ساعة لتبادل الزيارات بين الأهل.
الجدة رفضت استجداء ابنها أن يرافقها إلى الحدود، لأنّها كانت تودّ التألّم وحدها، أما هوار فخاب أمله، لأنه كان يودّ أن يبقى مع جدّته وعمّه معاً، فانفطر قلبه بينهما. لم تعد إلى دارِى، بل قصدت عامودا مباشرة، فلاحظ هوار أنّ جدّته تجاهد لتجاوز الطريق نحو الجهة الأخرى، حيث حقول الألغام المزروعة، وبعدها مباشرة المحارس الحدوديّة، وعندما أراد تنبيهها إلى الخطر، لم تعره انتباهاً، بينما خفير الحدود ارتاب في أمرها، فأنذرها بوجوب الوقوف والتراجع، لكنّها كانت تلوّح بيدها وتحاول أن تتكلّم معه.. وعندما لم يجد منها تجاوباً صوب بندقيته نحوها، ليحذرها من الاقتراب، لكنّها أصرت على تجاوز الحدود مع حفيدها. ””كانت تكلّم الخفير بالكرديّة تخبره عن سبب مجيئها، وكان يبربر لها بالتركيّة متخطّياً التحذير إلى التنفيذ””.
وفي لحظاتها الأخيرة، باحت له بسر السنين، وعلم منها أن جده كان من الثوار، وبعد العفو عنه، طلب للجندية، فأبلى البلاء الحسن في صفوف الجيش التركي في كوريا.. محاربا الشيوعيين، ولأنه أسر ستة من الجنود الكوريين منح مكافأة، فعاد إلى قريته، والإشاعات تضخم ما غنم من الأموال الكورية، فداهموا بيته – بسبب الشجع -، قتلوه و زوجته وأحرقوا غرفته، ولحماية ابني أخيها، غادروا القرية، وتكفلت بتربية أحمد وعلي، دون أن يعرفا أنها عمتهما.

لا شك أنها مؤامرة!

فأية مصادفة هاته؟ من قبل، قرأت رواية الليبي إبراهيم الكوني ””من أنت أيها الملاك؟””، وهي عن الأقليات، لا سيما الــ””بدون””، الذين يحرمون من الهوية بسبب اسم لا ذنب لهم فيهم سوى تشبث الاهل بجذورهم القديمة، ثم رواية الأردني جمال ناجي ””مخلفات الزوابع الأخيرة”” وهي عن الغجر، أولئك الرّحل الذين لا يكلون من الترحال، وها هي رواية السوري حسين هيثم تتصادى مع الروايتين السابقتين… إنها روايات تدين ظلم ذوي القربى، روايات الجرح الإنساني.
فما أقسى أن تكون غريبا و منفيا في وطنك””!!
هيثم حسين يكتب أغنية ملتاعة، تأسر الأرواح… يطلق صرخة في وجه الحدود، التي تتحول إلى سدود و لحود.. لهذا أهدى روايته لكل إلى ””الساعين لكسر الحدود.. المتمرّدين على التزوير.. الجابرين كسورَ الخرائط.. الماحين خطوطَ الطول والعرض، ليكون لهم أطلسهم المحقّ حقَّهم، والفاضح عُري التاريخ وجرمه أمام صمود الجغرافيّة، رغم مداومة الطعن فيها، ومضاعفة النزف البشريّ منها””.

صحيفة القدس العربي اللندنيّة
 4/13/2010

كاتب وروائي من المغرب

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…

سندس النجار

على مفارق السنين
التقينا ،
فازهرت المدائن
واستيقظ الخزامى
من غفوته العميقة
في دفق الشرايين ..
حين دخلنا جنائن البيلسان
ولمست اياديه يدي
غنى الحب على الافنان
باركتنا الفراشات
ورقصت العصافير
صادحة على غصون البان ..
غطتنا داليات العنب
فاحرقنا الليل بدفئ الحنين
ومن ندى الوجد
ملأنا جِرار الروح
نبيذا معتقا
ومن البرزخ
كوثرا وبريقا ..
واخيرا ..
افاقتنا مناقير حلم
ينزف دمعا ودما
كشمس الغروب …

خلات عمر

لم تكن البداية استثناءً،,, بل كانت كغيرها من حكايات القرى: رجل متعلّم، خريج شريعة، يكسو مظهره الوقار، ويلقى احترام الناس لأنه “إمام مسجد”. اختار أن يتزوّج فتاة لم تكمل الإعدادية من عمرها الدراسي، طفلة بيضاء شقراء، لا تعرف من الدنيا سوى براءة السنوات الأولى. كانت في عمر الورد حين حملت على كتفيها…

عصمت شاهين دوسكي

* يا تُرى كيف يكون وِصالُ الحبيبةِ، والحُبُّ بالتَّسَوُّلِ ؟
*الحياةِ تَطغى عليها المادّةُ لِتَحُو كُلَّ شيءٍ جميلٍ.
* الأدبُ الكُرديُّ… أدبٌ شاملٌِّ آدابِ العالمِ.

الأدبُ الكُرديُّ… أدبٌ شاملٌ مجدِّ آدابِ العالَمِ… يَتَفَوَّقُ هُنا وَهُناكَ، فَيَغدو ألمانية الشَّمسِ… تُبِعِثُ دِفئَها ونورَها إلى الصُّدورِ… الشِّعرُ خاصَّةً… هذا لا يعني أنه ليس هناك تَفَوُّقٌ في الجاوانبِ الأدبيَّةيَّةُِ الأخرى،…