حدود للعمل
يقع محل المختار، الذي يختم كل ورقة (سند إقامة، شهادة وفاة، بيان ولادة،وثيقة زواج .. الخ) بمئة ليرة إذا كان المحتاج إلى الختم الرسمي من الخبراء بقيمة كل توقيع مختاري، و بمائتي ليرة – تصل أثمان التواقيع أحياناً إلى خمسمئة ليرة – إذا كان من السذج الغافلين عن أحوال سوق الأختام الرسمية وملابساتها العويصة، قبالة دار الهاتف حيث يعمل صبي معتوه كأجير موقت. والناس تدفع الثمن من دون تردد، فتسعيرة المختار، كالدولة التي عينته، ليست محل جدال. رغم كون الصبي أكثر ثقافة – عدا أن انتباهه شديد البطء – وألطف معاملة من مدير البريد ذي الفم العريض إلا أنه وحيد ومحروم الفؤاد. تعمل بدانته المفرطة وتأخره الشديد في الفهم، وتلعثمه الدائم على النظر إليه كمادة سانحة وطيعة للضحك والاستهزاء. يجيد الصبي اللغة التركية بطلاقة عدا الكردية لغته الأم والعربية لغة الأبوة التربوية الإجبارية، كما إنه صاحب أفكار جريئة في الكتابة المسرحية عدا كونه ممثلاً جيداً وهادئاً رغم حصوله فقط على فرصتي تمثيل رديئتين أدى إحداهما في المركز الثقافي المحلي حيث حضر أحد أيام الصيف المجنونة أحد ممثلي العاصمة المشمشية النائية وراء تراب البادية الناعم وسلسلة تلال جميلة، فترك خلفه أكثر من نصف زجاج نوافذ المبنى الثقافي أشلاء محطمة نتيجة تلهف وهيجان ساكني مدينتنا الأفاضل على التنعم برؤيته. باختصار، إنه شخص ذو خيال أقصد فتى دار البريد والبرق والهاتف – وإن كان معاق الذهن ضخماً، مفرط البدانة. ألا تصدر أضواء جملية أحياناً من أقبية مسكينة؟ ولكونه بلا سند عائلي يمنح اعتباراً حقيقياً لاستقلال الشخصية فقد ازداد تكتماً وعزلة. كما أن دار البريد دار خمول فظيعة. إنها أرض الموظفين الفقراء الراغبين بالهرب من العمل كل ساعة تسمح بالهرب، هذا إذا كانت ساعات بقائهم ملتصقين بالكراسي والثرثرة وتبادل أنخاب الشاي ذي الكؤوس القصيرة الدبقة من العمل والكدّ في شيء. إلا أنه استفاد من عاهته الولادية الأليفة وبطء فهمه في محيط مجتمعي محتقن ومنكمش الطموح يزيد حال المجانين بؤساً – بأن وجد فرصة للتوظف في بلدة شحَّ فيها كل شيء إثر المراسيم التشريعية الأخيرة التي حولتها إلى سكنى منكوبين معوزين. رغم أنه موظف مقت لا يحصل إلا على راتب لا يكفي مصاريفه لربع الشهر، فابتسامته البلهاء الواسعة تسع طيات حزنه. مثله شباب كثر، بل محامون وأطباء ومزارعون حطت بهم الحال إلى زرْيٍ لا يحد. هناك قدم فتى البريد الضخمة، الذي اعتاد التدخين أخيراً، داخل حذاء معوج على إسفلت الشارع الضيق الذي يفصل دار البريد عن محلة المختار. خطوتان ثقيلتان زحفتا بين حصى يسطع ضوء الظهيرة الحارق على غبارها. عينان زائغتان، خدّان عريضان لوجه متهدل اللحم، هواء منخور تتبادل لزوجتَه اليابسة وجوهُ مارةٍ عابسين، فيما سنٌّ ذهبية تلمع في مؤخرة ابتسامة ظليلة . يلتفت الفتى صوب عتبة المختار ذي العنق الطويلة، فتقع عيناه في عمق المحل على صورة مستطيلة كبيرة تحتوي وجه القائد ذي السن الذهبية اللامعة. يعجز الفتى عن التفكير المتواصل لمدة طويلة، كما إنه من العبء شديد الثقل عليه النطق حين يقف بين حشد عام. ها هو ذا وسط الشارع وقد تصلب في وقفة مائلة مترددة؛ يتأرجح بين إكمال الطريق لجلب صحن الشاي أو العودة خائبا لتلقي التوبيخ من رئيس البريد. خواء سحيق يقطع قلب الفتى الضخم نصفين جامدين، وحبات عرق، ليست ضئيلة، تبزغ أسفل حاجبيه.
عن جريدة المستقبل اللبنانية/ ملحق نوافذ/ الأحد 28 شباط 2010