فتح الله حسيني: خانتني مدن كبرى فكان الملاذ أرض كردستان

حاوره: جان دوست
فتح الله حسيني صديق قديم. وأكاد أتردد حين أكتب كلمة صديق التي لم تعد تعني الكثير في زمن الكذب والخيانات! صديق جمعتنا الكلمة وفرقتنا الجغرافيا ثم جمعتنا الكلمة ذات صيف قائظ في فندق في دهوك لنقضي أياماً جميلة نتحدث فيها عن كل شيء سوى الشعر والأدب. نلعن السياسة ونغتاب الأصدقاء ونشرب الويسكي على حسابه مع صحن من الحمص المسلوق كأحدث صرعة في عالم المازة!

عرفت فتح الله شاعراً يكتب بالكردية فلم أستسغه إلى النهاية. كانت له لغة خاصة وبدا وكأنه يؤسس لشيء مغاير إلا أنه غادرنا (نحن الأغبياء) إلى العربية واختار اللغة العربية منفى لمشاعره وأحاسيسه فأبدع فيها. فتح الله حسيني شاعر يكتب بعفوية مطلقة وموهبة نادرة، وصدق صادم! تقرأ شعره فكأنك تقرأه هو بنفسه، يدلك في خيانة للذات يندر أن تجد مثيلاً لها عند غيره، يدلك على تعرجات حياته، حبه، فشله، علاقاته الكثيرة بالنساء، شربه للخمر وإدمانه على التدخين وقلقه الوجودي وبحثه عن اللاشيء واستهتاره بشيء اسمه المستقبل.
 مع كل ذلك يدلك فتح الله حسيني في شعره على الأوجه المضيئة للشعر نفسه فتغمرك كلماته بالدفء  وتصيبك بقشعريرة الإبداع. تقع في شعره على موسيقى جميلة حين تجد فتح الله حسيني يحيي رميم الكلمات ويعيد إلى كثير منها خضرتها ورونقها دون أن ينسى لحظة واحدة أنه شاعر ينتمي إلى الوجع الكردي
لنبدأ من إشكالية المنفى أو معادلة الوطن ونقيضه: لقد اخترت جزءا من كردستان منفى لك. هل تشعر بأنك منفي حقيقي أم تشعر بأنك أعدت تموضعك داخل حدود الوطن؟
المنفى ليس فقط منفى المكان، بقدر العمل على الحلم، لم يكن يهمني أين أكون، في أي أرض او سماء، كان عليّ اختيار الجواب على سؤالي الوحيد ،وهو أين أستطيع الاشتغال على همي في الكتابة دون رقيب؟، قبل ولوجي أرض كردستان كدت أنام على أبواب السفارات الغربية في دمشق، أعصب على موظفاتها، واعصب على الإزدحام في ممرات تلك الأبنية، رغم الدعوات التي بين ملفي الشخصي المقدم الى تلك السفارات، كل محاولاتي باءت بالفشل، يا صديقي، بدت أكره روتين موظفات السفارات أكثر من روتين الحياة القاسية التي كنت أتلاعب معها، لم أتمكن من الإقامة أكثر في بيروت، وخانتني مدن كبرى أخرى، فكان الملاذ أرض كردستان، كنوع من المجازفة، طبعاً، ولكن لم تكن مقامرة، لأنه لم يكن لدي شئ أخسره، بل أستطعت في كردستان أن أؤسس لمشاريع ثقافية لم تكن موجودة ولم يفكر بها أحد، وجدت كردستان في صمت نخبوي مرعب، فقد أسست هنا رابطة ثقافية، ولدت هشة، ثم فشلت بعد فترة، وأسست صحيفة، ثم فشلت أيضاً بعد صدور عشرة أعداد منها، واستطعت أن أخلق حركة ثقافية شبه مؤقتة وموقوتة هنا، الى أن أدركت أن العمل الصحافي عمل جماعي صرف، يجب أن يكون الكل متعاوناً حتى نستطيع إنجاز وأنجاح أي مشروع أدبي أو ثقافي.
قد تكون كردستان محطتي غير الأخيرة، هذا ما بتت أفكر فيه راهناً.
عطفاً على موضوعة الغربة والنفي تقول في قصيدة (كلام فارغ) من امبراطورية الخديعة:
الوطن المهجور
الذي لا تملك فيه ثمن دخانك
اصفعه بحذائك
وغادره حافياً.
كيف غادرت أنت الدرباسية؟
غادرت مدينتي الدرباسية قبل أكثر من عقدين ولم يك فعلاً معي ثمن دخاني، وبقيت في حلب ما يقارب ست سنوات، طالباً مجازفاً بكل شي متعلق بالمستقبل كنت على الدوام، يومياً، قلقاً على ثمن دخاني وما يطفئ قلقي، وجربت أمكنة مختلفة، أجرب القلق، أنام على قلق وأفيق على راحة قلق، منتمياً الى صخبي، أكره كلمة المستقبل التي ينادي بها الرتيبون، ويفكرون فيه أكثر من تفكيرهم بحاضرهم، أفشل، أخسر، ألعن الحدود، وألعن ثمن بطاقات الطائرات الباهظة، وأكره الساعات الطويلة التي أقضيها في القطارات، منتشياً، رغم ذلك، بأني سألتقي بنفسي في مكان ما، لا يمنحني القلق، فكان ذلك حلماً، حلماً جميلاً ولكنه لا يتحقق.
ألا تشعر بأن هذا القلق هو الذي يدفعك إلى ابتكار قصائدك الجميلة؟ لو نمت على حرير الراحة لهربت منك الكلمات!
القصيدة وليدة أسى استثنائي، ووليدة قلق طاغ على نفسيتك وجسدك وذهنك، أستند إلى روحي بطلوع الروح، فأرى أني قد دونت ما أردت تدوينه، إلى الآن يسكنني القلق، لم أمشط شعره، ولم أعامله بدلال، ولم آخذه إلى سهرة جميلة، بل كان على الدوام سباقاً إلى حجز طاولتي في النادي، وإلى حجز ركني في حفل كبير، يأخذني بقوته إلى حيث أريد أن اكتب.
بين مجموعتك “مهدور كدم” و”امبراطورية الخديعة” عام واحد. ما الذي يفرق بين المجموعتين من جهة المناخ الشعري. لماذا لم تصدر المجموعتان مثلاً في كتاب واحد وعن دار نشر واحدة؟
مهدور كدم، مجموعة كتبت كل قصائدها في مدن كردستان، بين السليمانية ودهوك وكركوك وأربيل، أي أنها قصائد تنتمي الى بقعة جغرافية واحدة، يجمعها أنين واحد، ورتوشات ورضوضات فتيات لا يفقهن إلا اللهجة السورانية، وجدران مزينة برسومات كانت محظورة في بقع جغرافية أخرى، فأتت فرصة نشرها لدى مؤسسة سما كرد في دبي، فدفعتها للطباعة، أما مجموعة “إمبراطورية الخديعة” فكانت قد كتبتها سابقاً، بين مدن سورية ومدن لبنانية، ثم أعددت جمعها في كتاب شعري واحد، لتتبنى دار “آراس” في مدينة أربيل طباعهتا، فكان ذلك. ثمة كراهية كثيرة في “إمبراطورية الخديعة”، وثمة حب طاغ في “مهدور كدم”، رغم انهما ينتميان إلى ألمي وهمي أنا.
هل تعود الكراهية المبثوثة في إمبراطورية الخديعة إلى أنك محبط؟ أو إلى أن أهلك محبطون منك! إذ نقرأ على لسان أمك هذه الكلمات  من آخر المجموعة:
أحدهم صار حقوقياً والثاني محامياً والثالث مهندساً ميكانيكياً
وفتحو نائم حتى أوج الظهيرة وديونه تهد البيوت!!
قلائل مثلي يعانون من الإحباط، حتى لو كنت في أوج أملي أعيش حالاً من الإحباط، لا أعرف هذا السر، ربما ناجم من السواد الذي يحيط بنا دون أن نعلم به، وربما نتيجة حتمية لأيام تمضي وعمر يهدر هكذا، دون أن نحس.
هناك مقولة تدعي أن ( الشعر كائن أدبي عجوز) إلى أي درجة يمكن لهذا الادعاء أن يكون صحيحاً في عصر طغت فيه الرواية ثم اكتسح الالكترون ساحة الدنيا علما وأدباً؟
يبدو أن الحياة كلها أصبحت عجوزاً، يا صديقي، ألا تعتقد ذلك؟ الشعر ظل مراهناً عليه كثيراً، ولمراحل طويلة، ومن لدن مؤسسات ودور نشر كبرى، ومع ذلك ظل الشعر محتفظاً برونقه وتيجانه رغم أنف العواصم، طبعا ذلك يختلف من مكان الى آخر، أما الرواية فظل عصرها طاغيا أيضاً، وحتى الآن، حسب بعض المتمسكين بالرواية فقط، إلا أن الالكترون قد طغى على كل شئ، ومع ذلك فأن المنجز في كتاب ورقي ما زال له مكانته، وألقه، والدليل التهافت على المعارض التي تقام في المدن الكبرى، في أي بقعة من العالم، ما زال للكتاب جماله، وألفته وحميميته.
تتعدد الأنثى في قصائدك … يعني تتعدد اسماؤهن فمن روكن إلى دلبر إلى فاطمة إلى شاناي… ما درجة قرب صورة نساءك من الواقع.
نسائي مثلي قصائدي، أئلفهن، هن زينّنَ مراحل من حياتي وشغبي، وتأملن بشغب ضياعي بين عينيهن، فأسمائهن هي هي، أدونها كما هي، مثلما أناديهن في الشارع أناديهن في المنزل أو في الجامعة أو في مهرجان، أو في دائرة حكومية، لقد صورتهن كلهن بكامل زيهن، كنّ أليفات جداً مع الكلمة، جميلات الى حد أن تكتب قصيدة لكل واحدة منهن، فكن بوصلات لاتجاه القصيدة، وقحات في التدخل في شؤوني الخاصة، هاربات من قوانين الله الى حيث ضياعي، كنت أستنبطهن من واقعهن، ولكن بقين هكذا أسماء في كتاب، ربما ينفعهن منافيهن مثلما ينفعني منفاي.
تكاد الأنثى بالرغم من تعدد الأسماء تكون أنثى واحدة، حبيبة تسهر معك، تلتقي بك، تجمعك بها صدفة نادرة. باختصار هناك علاقة حميمة تجمع بالأنثى التي أكاد أجزم بأنها قريبة الشبه بفتح الله حسيني من حيث كونها متمردة وبوهيمية !
ربما مزاجيتي في التعامل مع الأنثى جعلهن يتشابهن هكذا، أو تتشابهن معي أنا، فلا لبس في هوياتهن، فأضفين بأسمائهن تيجاناً أخرى على الذائقة الشعرية لدي، وربما تفردهن في خضم الحياة، وتمردهن على طبائع الكون خلدهن لديّ، لذلك كن الأكثر جدارة في العيش في امبراطوريتي، او مهدورات كدم مثلي.
المتعمق في قراءة قصائدك يلاحظ أن لديك هوساً بكتابة سيرتك الذاتية. قصيدة “في درب غائص في الغبار” مثلاً، كذلك قصيدة “لعنة التوق”. هل هذا نوع من الحنين إلى الماضي؟ إلى التسكع على أبواب حانات حلب ومقاهيها؟ الانتظار أمام بوابات وحدات السكن الجامعي الخاصة بالفتيات؟.
أن تتأمل نفسك طويلاً كل ليلة، هذا يعني أنك بدت مرآة واضحة لنفسك دون نفاق، فالألم الشخصي، أحياناً له ضروراته، فكلنا يحنّ الى الماضي، مهما كان ذاك الماضي مزعجاً، فتستطيع ان تكون ناقماً وناقداً له، ومع ذلك تظل تحن، الى ضجيج الأمكنة، الأصدقاء، المراحل العابرة، الصديقات العابرات، التوحد مع الذات ثم التوحد ضمن كلمات، لتعلن ولادة قصيدة منهارة او مبهرة لا يهم، المهم أن تكون في حالة إشباع للذات التي تظل تائهة كلما غصت أكثر في قساوة عدالة الله.
يبدو أن طلاقك مع اللغة الكردية طلاق بائن! ماذا بقي لديك منها؟ هل تقرأ بالكردية؟ هل تفكر بالعودة إلى الكتابة بها.
لم يكن زواجي من اللغة الكردية زواجا كاثوليكياً ليكون طلاقي بائناً، بعد نشري لأربع كتب باللغة الكردية، ومهرجانات ضخمة من أجل الاحتفال والاحتفاء باللغة الكردية، واجتياز الحدود سراً لعقد ملتقيات من أجل اللغة الكردية، ماذا كانت النتيجة، أنت كاتب غر، مغمور، تكتب لغة لا يفهمها جارك، ولا ابن حيك، ولا الذي يعد من النخبة في جزء آخر من بلد ممزق مثل كردستان، ماذا جنينا؟، أصلا لم نكن نرتب أوراقنا باللغة الكردية من أجل حفنة من المال تسمى بالنهاية “مكافأة”، بل كنا بالفعل نشتغل على اللغة الكردية اكثر من اشتغالنا على كتبنا الجامعية، والنتيجة أنت مجبر أكثر فأكثر للكتابة بالعربية، التعبير بأنك إزاء قارئ، وجغرافية متشعبة وفضائات لا آخر لها.
قريباً سأشرف على قسم اللغة الكردية في موقع وزارة الثقافة في حكومة إقليم كردستان، ربما يعيدني الحنين الى أوجاعي السابقة، ولكن هذه المرة بحنين آخر، وبطراز آخر، وتأمل استثنائي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…