الوعد المطاطي حديث الجمعة (12)

د. علاء الدين جنكو

ركبت مرة الطائرة من مطار ألماظة في مصر، فتأخرت عن القيام بنصف ساعة انتظارَ راكب موصىً به من أحد أصحاب المعالي.

ولما ثُرنا معشر الركاب وصخبنا طاربنا، فلم يسر – والله – ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر قبل أن يدخل الحمام، ويستريح بعد الخروج كي لا يلفحه ( اسم الله عليه ) الهواء البارد، وكنت يومئذٍ عائداً من رحلة رسمية ، فلما وصلت إلى مطار المزَة في دمشق وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل ، ينتظرون قدومي في الشمس منذ ساعة كاملة !!!
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف، فيا أيها القراء خبروني – سألتكم بالله-:أي طبقة من الناس تفي بالموعد ، وتحرص عليه وتصدق فيه، تدقق في إنجازه ؟ الموظفون ؟ المشايخ ؟ الأطباء ؟ المحامون ؟ الخياطون والحذاؤون ؟ سائقو السيارات ؟ من ؟ من يا أيها القراء؟
مع هذه الكلمات يطلق الشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله الحسرة وهو يصف لنا موقفاً مرَّ به، ليدخلنا في أجواء متخلفة من الاستهتار بالمواعيد وعدم الالتزام بالوعود، كما يقول في كتابه : ( مع الناس ) .
من أبرز سمات المجتمعات المتحضرة هو الالتزام بالمواعيد ومحاسبة من يخالفها ويعرقل مشاغل الناس وأحوالهم .
لست ممن يشوه صورة مجتمعه أو أي مجتمع آخر يعيش فيه بشر، ولكن التربية القائمة على أسس هشة تعطي نتائج هشة أيضاً ؟! وحسن النية لا تشفع لصاحبها عند المخالفة !!
في الحقيقة وبلغة هادئة بعيداً عن التطرف والعصبية من جهة وترك العناد الأحمق من جهة ثانية أستطيع القول : بأن أغلب الجيل الجديد تربيتهم قائمة على مبدأ ( ما الذي سيحدث ؟
وبغلة أكثر بساطة : شو خربة الدنيا ؟!  .
وهذه النمطية من الأشخاص ما زالت الوسوسة الشيطانية تؤثر عليه بشكل تام، وهو ما أنتج لنا مجموعة من المظاهر السلبية والسبب في أغلبها ترك الالتزام بالمواعيد!!
ومن تلك المظاهر السلبية عدم الالتزام بمواعيد أداء العبادات وخاصة الصلاة لمن التزم بها ، فالمفرط في حق الله تعالى سيكون مفرطاً في حق عباده من باب أولى .
ومنها عدم الالتزام بالمواعيد التي قطعها على نفسه لأبنائه وزوجته في النطاق الأسري، مما يفقده الثقة والمصداقية، وهو بأمس الحاجة لهما كونه الماسك  بمجداف المركب ليصل بأفراد أسرته إلى بر الأمان .
ومنها الاستهانة بمواعيد العمل، فعلى الرغم أن دقة المواعيد أساس نجاح العمل تجد أن الكثير من الموظفين في مجتمعاتنا الإسلامية يقصر في الالتزام بالمواعيد الدقيقة لعمله سواء بالحضور أو الانصراف أو ما بينهما !!
من الناس من يستخسر ثمن مكالمة بسيطة في عالم الاتصال وثورة الهواتف المتحركة ولا يتورع أن يفاجئك بزيارة قد تعطلك وتسبب في خسارتك الكثير سواء على الصعيد المالي أو المعنوي .
فإذا ما أردت الخروج يوما لأداء مهمة أو واجب مفروض عليك، وإذا بهذا الشخص واقف أمامك جاءك في زيارة أخوية ودية من غير موعد سابق !!
والمصيبة تكمن في عدم قبول هذا الشخص الزائر الاعتذار، واعتباره إهانة واستصغاراً له !!
وهناك نمطية من الشخصيات التي تعدك بزيارة بموعد مطاطي !! وأقصد به موعد غير منضبط ، كأن يقول لك سأزورك بعد صلاة العصر !!
وبكل صراحة الخجل السلبي هو الذي أفسح المجال أمام هذه الأنماط من الشخصيات لتأخذ دورها المؤثر في مجتمعاتنا، وبالتالي يوقعنا في مساوئ هذه الصيغ من المواعيد .
فلا بد من تحديد الموعد بشكل دقيق وعدم تركه مفتحاً، وإلا فالوقت الذي وعدك به صديقك أنت ملزم به على الرغم أنه يمتد من صلاة العصر إلى ما قبيل صلاة العصر في اليوم الثاني !!
فلو جاءك في أي وقت ضمن هذا الموعد سيكون صادقاً !! وإن كان العرف يحدد المعايير أحياناً إلا أن الانقلاب على معايير العرف باتت أسهل من أي أمر آخر في حياتنا .
أنا لست مبهور بحضارات الغير وإن كنت أحترمها، وخاصة فيما يتعلق الأمر باحترام المواعيد، لأنها من مقاييس تقدم المجتمعات، والالتزام بتلك المقاييس يصعد بها إلى مراقي المجتمعات الحضارية، لذا لم يكن لمجتمع احتكار الحضارة في جعبته ومنع الآخرين عنها، وفي هذا رد على من يرمي أسباب تخلفنا على الآخرين ويبني في أذهان أجيالنا المتعاقبة نظريات المؤامرة .
شخصية المخالف لوعده ومواعيده قد تجدها عند جميع الناس وفي كل المجتمعات، لكن الذي يثير الدهشة، كيف يخالف الإنسان المسلم ذلك، عندما يكون الالتزام به من مقدساته ؟!!
أعتقد أن العاقل الذي يحكم على هذه الشخصيات من النمطية المزدوجة سيقول: إما أن تلك المبادئ سيئة وبالتالي، الالتزام بالوعد والمواعيد صفة تقيد حرية الإنسان ولابد من تحرير الإنسان من عبوديتها !!
وإما أن يقول: إن من يدعي الالتزام بتلك المبادئ كاذب في إدعائه ذاك، وتكون المبادئ بريئة من تصرفاته العوجاء، ولا يمكن حينها للمتصيدين في المياه العكرة أن ينتقدوا روعة المبادئ وسموها بادعاء الالتزام بها ثم مخالفتها .
ولو تبع المنصف لحكم الإسلام فيمن يخالف وعده وموعده لعلم أن الإسلام ومبادئه الراقية في وادي والكثير من المسلمين في وادٍ آخر .
ففي القرآن الكريم مدح الله تعالى نبياً كريماً بالصدق في الوعد، والالتزام به، فقال سبحانه : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً } مريم / 54.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية:  (( صدق الوعد من خلق النبيين والمرسلين، وضده – وهو الخلف – مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين )).
ويقول الله تعالى: { يا آيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الصف / 2،3.
فالقول المخالف للفعل إنما مخالفة للوعد لأنه يضع صاحبة في خانة الكذب المحرم بل إن عبارة الآية الكريمة: ( كبر مقتاً عند الله ) تدل على أنه كبيرة ، وليس بمجرد حرام .
أما نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم فقد حث على الوفاء بالوعد، وجعل من يخلف الوعد قد اتصف بصفة المنافق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه:   ( آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )  متفق عليه.
وغيرها الكثير والكثير من الأدلة التي تظهر شناعة مخالفة الوعد والمواعيد في الإسلام ويكفي لمن له إطلاع الأطفال على الإسلام أن يقارن بين مصطلحي المسلم والمنافق ليعلم قدر المسافة بينهما !!

أدواة التحضر نملكها، ولا يوجد في الدنيا منظرين أمثالنا، فواحدنا – ما شاء الله – قد فاق سقراط وآرسطو وابن خلدون وابن رشد، سواء كان ملتزماً بدينه أو كافراً به، فلماذا إذن نبرر لتخلفنا ونحاول أن نبرأ أنفسنا الضائعة بين القيل والقال وسوء المقال وإهانة النساء والأطفال والرجال !!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…