الارض الجريحة.. الحلقة العاشرة

زاكروس عثمان 

في صباح اليوم التالي صعد الرفقة باخرة ضخمة، ركابها عشرة اضعاف سكان قرية نهارو، انها بلدة صغيرة من ثلاثة طوابق تضم مطعما ومسبحا، وتحمل عشرات الشاحنات والسيارات، انطلقت الباخرة وبعد ثماني ساعات وصلت إلى أثينا، كان المهرب بانتظارهم حيث اخذهم للسكن في شقة خربة تحتوي غرفتين ضيقتين وصالة صغيرة وحمام سيء ومطبخ متسخ، يشاركهم فيها اشخاص آخرون، قال نهارو لرفيقيه كان المهرب يحدثني عن السيارات والفنادق والشقق تبين أن سياراته شاحنات موت وان فنادقه مزابل وشققه اصطبلات، الرجل يخدعنا ولكن هذا حال جميع المهربين، انا متفق معه ان يرسلني بالطائرة ربما اذهب قبلكم، عليكم ان تلحوا عليه كي يرسلكم سريعا الى المانيا،
 حين تحدثوا إلى المهرب بشأن ذهابهم الى المانيا، طلب من نهارو التريث بضعة ايام، في المساء ارسل رفيقيه إلى مكدونيا، فيما بعد علم نهارو من اللاجئين الذين يسكنون معه في الشقة أن المهرب يماطل منذ شهر في تهريبهم بالطائرة إلى المانيا، واخبروه انهم ندموا على تسليمه نقودهم، والا كانوا بحثوا عن مهرب آخر، نصحوه أن يسلك طريق البر، لان محاولاتهم عبر المطار تفشل، قلق نهارو مما سمع حيث لا يمكنه البقاء عشرات الأيام في اليونان، تحدث إلى المهرب بخصوص سفره فقال سوف احضر لك هوية يونانية وتذكرة سفر وغدا ارسلك إلى المطار واذا نجحت المحاولة تطير إلى روما وهناك يأتي شخص يأخذك إلى المانيا، اخبره نهارو انه اذا حمل هوية يونانية سوف يتحدث اليه موظفي المطار باللغة اليونانية وينكشف امره لأنه لا يجيد اليونانية، وطلب منه پاسپور دولة أخرى، فادعى المهرب بان البوليس اليوناني لا يدقق على الهويات، بعد ذلك قام نهارو بمحاولتين فاشلتين لركوب طائرة، فطلب من المهرب ان يرسله عبر الطريق البري، ثم سأله عن اخبار صاحبيه اللذين سلكا الطريق منذ ثلاثة ايام، فقال انقطعت اخبارهم عني.
ارسله المهرب مع فتاة وشاب الى مدينة يونانية حيث ينتظرهم شخص هناك سوف يوصلهم الى حدود مكدونيا، حين وصولهم اخذهم ذاك الشخص الى مقهى يجلس فيه مهربون يتعاطون الحشيشة، ثم اخبرهم أن الوضع على الحدود ليس جيدا وذهب بهم الى شقة وقال لهم: سوف اخرج وانتم خذوا راحتكم لا احد هنا سوى صاحبتي وهي مطفية لأنها ليلة الامس اثقلت في تعاطي الحشيشة، خرج المهرب ذهبت الفتاة الى الحمام وعادت مسرعة مصفرة الوجه تقول: الحمام ملطخ بالدماء، القوا نظرة وجدوا دماء على الجدران، قالوا لبعضهم ربما نحن في ورطة كبيرة، طلب الشاب ان يلقوا نظرة على صاحبة المهرب للتأكد ان كانت حية ام مقتولة، استرقوا السمع سمعوا شخيرها تنفسوا الصعداء حسنا ليست هناك جريمة قتل، عاد المهرب في المساء نهضت صاحبته وقدمت لهم طعاما وشرابا، ثم اخبرهم انه ليس هناك سفر هذه الليلة، شك الرفقة في انه يماطل في ارسالهم الى الحدود، ثم تبين انه لا يريد دفع اجرة باهظة لتاكسي يقلهم إلى الحدود، وانه ينتظر قدوم لاجئين آخرين ليشكل مجموعة يستأجر لها حافلة بسعر اقل، اتصل الشاب بالمهرب في اثينا وضغط عليه كي يطلب من المهرب الآخر ان يرسلهم الليلة الى الحدود، ثم جاء مهرب فلسطيني برفقة فتاة بلغارية تقود سيارة سوداء وطلبوا منهم ركوبها، قادت الفتاة السيارة وهي ثملة بسرعة انتحارية حيث وصلت الحدود بطرفة عين، نزلوا من السيارة قادهم الفلسطيني داخل الاراضي المكدونية حتى وصلوا نقطة تجمع مئات اللاجئين الذين ينتظرون البوليس حتى يسمحوا لهم بالمسير الى المدينة التي ينطلق منها القطار، كان البوليس يدخلون اللاجئين على دفعات، والبقية ينتظرون في العراء نساء واطفال وشيوخ في حالة مزرية اغلبهم عطشى وجياع يرمقون عناصر البوليس بنظرات كسيرة ووجوه كئيبة علهم يسمحوا لهم بالعبور، بعض النساء كن علانية يعرضن اجسادهن للبيع بين الاشجار مقابل بضعة دولارات او شطيرة او حتى بضعة سكائر، على نهارو ورفاقه الانتظار طويلا حتى يأتيهم الدور، لكن الفلسطيني تحايل على البوليس وتمكن من العبور بهم إلى سكة الحديد وبعد ساعة من المسير وصلوا المدينة وذهبوا إلى حديقة جانبية بانتظار قدوم القطار.
 جال نهارو بنظره في المدينة خال له انه في بلد شرق اوسطي، شوارع خربة مليئة بالحفر وعمران يشير الى الفقر، قال في نفسه نعم الاشتراكية مرت من هنا ايضا، فيما هم جالسون في الحديقة عند منتصف الليل قدم إليهم عدة اشخاص طلبوا پاسپوراتهم فقدموها لهم لاعتقادهم انهم جهة امنية لكن المهرب طلب منهم نزع پاسپوراتهم من يد هؤلاء الاشخاص والهرب إلى مجاميع اللاجئين في المحطة، ثم اخبرهم ان هؤلاء نشالين يتصيدون اللاجئين، جاء القطار ولم يعرف نهارو كيف يمكن صعوده وسط كل هذا الحشد، لكن الفلسطيني ساعدهم كي يصعدوا القطار بسهولة، وسرعان ما امتلأت العربات باللاجئين لم يبقى متسع للجالسين او الواقفين، مضى القطار الى مدينة اخرى ومنها ركبوا الحافلات إلى صربيا. 
وصل نهارو ورفاقه إلى بلغراد، ساحة المدينة مزدحمة بآلاف اللاجئين، قام الفلسطيني بتسليمهم الى مهرب آخر اخذهم الى منزل يحتوي غرف ضيقة ليسكنوا فيها، الفراش قذرة تفوح منها روائح كريهة، لا يوجد شراب او طعام او موقد، نزل نهارو إلى الطابق الارضي الذي تسكننه عائلة مالك الشقة يسألهم بلغة الاشارة كيف يحصل على الطعام اخذه الرجل الى دكان واشترى ما يلزمه ورجع الى السكن أشار الرجل إليه بان يذهب معه الى بيته، قامت ابنته بغسل ملابسه وقدموا له الطعام، في منتصف الليل جاء المهرب كي يرسل اللاجئين الى هنغاريا وطلب الاجور، لكنهم كانوا اتفقوا مع مهرب اثينا ان لا يدفعوا اية نقود على طول الطريق، وافهموا المهرب الصربي بذلك فقال: بانه يعمل بالدفع سلفا ولا يعرف مهربهم في اثينا، اتضح ان مهرب اثينا لم يتفق مع اي مهرب في صربيا من اجل نقلهم إلى هنغاريا، وان المهرب الصربي اخذهم من الساحة بالخطأ لكنه عرض عليهم البقاء في السكن مجانا، اتصل نهارو بمهرب اثينا وطلب منه ارسال النقود إلى مهرب صربيا، جرى اتصال بين المهربين واتفقوا على قيام الصربي بنقلهم إلى هنغاريا واستغرق ذلك ثلاثة ايام.
اتصل مهرب اثينا بنهارو يخبره ان رفيقيه اللذين خرجا قبله من اليونان فُقِدَ اثرهما ولا يعرف ماذا حصل لهما، طلب منه السؤال عنهما، وحدث ان الصبي تمكن من الاتصال به ليخبره انه توا دخل صربيا، ارسل نهارو المهرب الصربي للبحث عن الصبي حتى عثر عليه واحضره إلى السكن، سأله نهارو ماذا حصل لكم اين كنتم كان عليكما ان تكونا الان في المانيا، اخبره الصبي انه لا يعرف ربما في مكدونيا او صربيا تم خطفهم من قبل عصابة اخذتهم الى غرفة مهجورة في بقعة نائية، بقوا هناك يومين الى ان تمكنوا من الفرار، سأله نهارو واين رفيقك اجاب اثناء هروبنا تهنا عن بعضنا ولم اعثر عليه. 
بعد عودة الصبي جاء مهربون هنغار بسيارة حديثة حملت نهارو ورفاقه الى الحدود الهنغارية، هذه اصعب مرحلة على الطريق امام اللاجئين، الجميع خائفون من الحكومة الهنغارية انها تقبض عليهم وتعيدهم الى الدولة التي قدموا منها، وصلت السيارة إلى الحدود وتم تسليمهم الى مهرب آخر، ليس هناك برد شديد انهم في بداية شهر اغسطس، قادهم المهرب سيرا على الاقدام بين شجيرات الذرة، و أجلسهم اكثر من ساعة تحت المطر، حتى التحق بهم لاجئون آخرون بينهم امرأة في حالة مزرية يرافقها طفل وهي حامل في الشهر التاسع تنتعل حذاء بلاستيك، انها تبكي وتسأل اللاجئين المساعدة، لا احد يعلم ما هو الطريق الذي يسلكونه وكم هي المدة التي سوف يقضونها سيرا على الاقدام او كيف سيدخلهم المهرب الى الاراضي الهنغارية، نظر نهارو إلى المرأة الحامل وقال لنفسه هذه المرأة حظنا اما ان تكون سبب في القبض علينا او نجاتنا من البوليس، سألها حالتك لا تسمح لك بالمسير على هذه الطرق الخطرة، اجابت: زوجي ارسلني لأنني اذا وضعت حملي في بلد أوروبي فسوف احصل سريعا على حق الاقامة واطلب إحضاره ايضا بموجب حق لم شمل العائلة، لقد كذب علي ولم يعطني نقود كافية، في هذه الاثناء انضم مهربان آخران الى المهرب واخذوا ينقلون اللاجئين على دفعات من جانب الطريق إلى جانبه الآخر، وساروا بهم في بستان لأشجار التفاح، قطف اللاجئون بضع تفاحات وضعوها في حقائبهم، من يعلم ربما ينقطعون في البراري فان جاعوا يأكلون تفاحا.
مهربون يركضون مسرعين تحت المطر يطلبون من اللاجئين اللحاق بهم، والمرأة الحامل تتخلف عن المجموعة، المهربون منزعجين منها قال واحد منهم بالإنكليزية: هذه المرأة سوف تتسبب بالقبض علينا وسجننا عشرات السنين، سوف تقول الحكومات أننا عرضنا حياتها وحياة الطفل الذي في بطنها للخطر، اصبحت الارض لزجة فان سقطت المرأة فأما ان يتم تركها في العراء او اسعافها حينها ينكشف مكان اللاجئين ويتم القبض عليهم، اتفق اللاجئون على حمل المرأة وبعد ساعة لمحو ضوء يعلو ويخفت، طلب المهرب منهم التوجه على عجل الى مصدر الضوء، حيث تنتظرهم شاحنة صغيرة، تم حشرهم فيها جلس الاطفال والنساء في صندوق الشاحنة وبقي الرجال واقفين، خرجت الشاحنة من بين الاراضي الى الطريق الرئيسي، وبعد اربع ساعات وصلت عند الفجر إلى فيينا، نسي اللاجئون التعب والقلق بعد وصولهم بر الامان، ذهب قسم منهم الى محطة القطار وتوجه نهارو ورفقته إلى غابة مجاورة بأطراف المدينة، للتواري عن أعين البوليس ريثما تحضر سيارة تقلهم إلى المانيا حسب اتفاقهم مع مهرب أثينا، ارتفعت الشمس ولم تأتي السيارة، اتصلوا بالمهرب عدة مرات بدأ يتلكأ دون أن يؤكد قدوم السيارة إليهم، ظلوا مختفين في الغابة حتى الظهيرة، انهم خائفون من قيام البوليس بإلقاء القبض عليهم، حينها عليهم اما العودة من حيث اتوا او التبصيم في النمسا، وان فعلوا ذلك لا يمكنهم الذهاب الى المانيا.
فرغت شحن بطاريات هواتفهم وما عاد بوسعهم الاتصال بأحد، اصابهم الجوع والعطش، الوقت ينفذ وهم عالقون في الغابة، والمهرب سعيد لانقطاع اتصالهم به، اقترح نهارو على الفتاة والشاب ان يذهبوا إلى مركز المدينة ليشحنوا البطاريات و يشتروا طعاما وشرابا، اتخذ الاثنان شكل مواطنين أوروبيين لتجنب القبض عليهما، ارتدت الفتاة ألبسة قصيرة، ولبس الشاب بنطال جينز مهترئ، نصحهم نهارو أن يتبادلون القبلات كلما صادفوا البوليس كي لا يثيروا الشبهة على أنهم لاجئون، ثم ذهبوا وعادوا، اتصلوا بالمهرب من جديد وهم غاضبون حذروه انه ان لم يرسل لهم سيارة سوف يسلمون انفسهم إلى البوليس النمساوي، وحسب اتفاقهم معه إن اعطوا البصمة في النمسا فلن يعطوه اية نقود، بعد التحذير اعترف لهم أن صاحب السيارة تراجع ولن يحضر لأخذهم، وانه استأجر سيارة اخرى سوف تأتي من هولاندا الى المانيا الى النمسا لتحملهم إلى المانيا، تناول الرفقة لقمة طعام، جاء الليل ولباسهم مبللة من المطر، وهم ينتظرون بقلق حتى حضرت السيارة في الفجر وانطلقت بهم الى المانيا، لم يشعر نهارو بالفرح حين قال السائق انهم دخلوا المانيا، كانت مشاعره قاتمة حيث اتى الى اوروبا دون رغبة، وحين اتجه إليها فرط بمصيره و حفر قبره بيده، نزل نهارو والصبي في بلدة حدودية ينطلق منها اللاجئون إلى المقاطعات الألمانية الأخرى، لم يكن في ذهنه مكان محدد يتجه اليه، بقي مترددا بين ركوب القطار وبين تسليم نفسه ثم ذهب الى مركز البوليس ليتم نقله إلى مخيم مؤقت هو عبارة عن صالة رياضة توفر كافة الخدمات، كانت ادارة المخيم والمتطوعات والمتطوعين الالمان لطفاء يقدمون المساعدة للاجئين، لكن نهارو رغم الراحة والأمان الذي توفر له ما زال يعتقد أن أسوأ قرار اتخذه في حياته هو الرحيل، خرج بانطباع أن ألمانيا ليست البيئة التي توفر له راحة نفسية، فاخذ ينتظر نقله إلى مخيم دائم، إذ حسب ما سمع ان انتقال اللاجئ إلى مخيم دائم يقرب موعد ذهابه إلى المحكمة ومن ثم الحصول على حق الاقامة كي يطالب بلم شمل الاسرة وهذا هو السبب الوحيد الذي جعل نهارو يهاجر. 
فيما بعد نقل نهارو الى مخيم دائم بعيد عن العمران، ذهب إلى بلدة مجاورة مشيا على الاقدام، الطريق في الذهاب منحدر وفي الاياب مرتفع، سوف يتوجب عليه سلوك هذا الطريق يوميا طيلة عشرين شهر، لم يشعر نهارو أثناء اقامته في المخيم انه موجود في المانيا، قلما التقى بمواطنين المان او زار المدن الا مركز الناحية من اجل تسيير معاملاته الخاصة باللجوء، الوقت يمضي سريعا، و نهارو تأخر في الحصول على حق الاقامة، بقي شغله الشاغل هو التفكير في اسرته متى تلتحق به حتى اعتصره القلق، اخذ يقضي جل وقته شاردا في ركن قاتم بارد، يناجي زوجته اطفاله دون جدوى، بقي ساهما حد الجمود ونسي نفسه في الزاوية، قبل ان تعتصره العتمة وتجفف كيانه قال لنفسه لم يبقى لي موطن سوى القلق، لم يتحمل نهارو احزانه اكثر من ذلك فأنهت حياته.
استولى اليأس على زوجته وادركت ايضا ان القلق بات موطنا لها ولأطفالها، لم تتحمل الم الانكسار، ما عاد امامها من سبيل لإطعام صغارها، اخذت تطلب المدد من الموت الذي لم يتأخر في تلبية النداء، حيث قررت الام عبور الحدود مع اطفالها وكانت رصاصات الجندرمة التركية في انتظارهم، حيث انقذ الموت ارواح بريئة من عذابات الحياة. 
اخشى ما كان يخشاه سپاسکو هو ان يكون مصيره مثل مصير نهارو واسرته، الساعة في مقتبل الصباح لكن الشمس عالية كأنها في الظهيرة، هل هو وحده يخالها عالية أكثر من المعتاد أم أنها بالفعل أخذت تعلو غير أبهة بالتوقيت، انه ليس متأكد أن كان علو الشمس وهم أم حقيقة ولكنه واثقا من أن مجرد التفكير بالرحيل يجعله عاجزا عن التمييز بين شروق الشمس وغروبها، هرب سپاسکو من هذا الشعور الشائك، وخرج إلى اطراف المدينة يقتفي اثر أميرة العندكو التي رحلت باكرا ولكنها نسيت نظراتها مطبوعة على تراب قلبه حيث عجزت رياح السنين عن درسها لتبقى عامرة في خاطره ابدا، لم يجد سپاسکو ذاك الصخب الذي يرافق صباحات ضواحي عامودا، أين هي الأنسة جيهان البدينة ورفيقاتها اللواتي تخرجن باكرا إلى الجري لانقاص وزنهن، اين هو المحامي النحيف موسى الذي بحجة الرياضة يركض خلفهن وعينه على مؤخرة جيهان الجميلة التي استوقفته مرة وقالت له: ما خطبك نحن نخرج إلى الركض كي ننحف، فلماذا تركض وانت بعض من الجلد والعظم هل تريد ان تذوب تماما، قال لها: لأجلك اذوب واموت، قالت له: ايهما تحب أكثر أنا أم مؤخرتي، لم يجاوبها وظل يركض خلفها وصاحباتها تضحكن قائلات: ليت لنا مؤخرات مثل مؤخرتك تدفعن أمثال موسى يهربون من أحضان زوجاتهم و يركضوا خلفنا.
اين هي الخالة پري التي تدفع أمامها عربة محملة بروث بقرتها حيث تفرغ الحمولة على طرف الطريق وكلما صادفها تناديه سپاسکوووو تعال إلي تقبل جبينه وهو يقبل يدها الذي يفوح منه رائحة روث طازج وتسأله هل امك واباك بخير مع انها اول من سمعت بوفاة والده منذ سنين، أين ابن گوليا الذي يحمل اللبن الطازج إلى دكان ابن كلعو، لم يعد هناك أحد، جيهان الجميلة التزمت البيت فالطريق لم تعد أمنة، والاستاذ موسى يذهب إلى الفرن في الثامنة مساءا وينتظر في الطابور حتى يأتي دوره في التاسعة من صباح اليوم التالي، لم يعد لديه وقت لملاحقة الجميلات، ولم تعد الخالة پري تدفع عربة الروث بعد نفوق بقرتها لفقدان العلف.
شاهد سپاسکو نسوة يجمعن كل ما هو قابل للاشتعال لاستخدامه حطبا في المواقد فقد استغنى الناس عن المواقد الحديثة بعد انقطاع الغاز، آلمه مشهد قيام النسوة بقطع شجرة التوت التي يرتاح المارة في ظلها، ساء سپاسکو أنه لم يجد فتية يلعبون الكرة في الملعب الترابي، حيث غادر بعضهم إلى خارج الديار لامتناعهم عن حمل السلاح دفاعا عن دودة خبيثة نخرت شجرة الصبر حتى تيبست وأشتعلت، وغادر آخرون لأنهم لم يرغبوا بالقتال إلى جانب المتغطرسين الذين ساقوا بنات وشباب آخرين إلى ميادين القتال.
القرية تنزف سكانها، أبناء الجن يشدون الرحال، يلتحقون بالرعاة الذين سبقوهم بالفرار إلى هولير واستنبول، الموت حاضر ولكن اغلب الناس هرب من فقدان الكهرباء، الخوف قائم ولكن كثيرون فروا من انقطاع الماء، الأهالي واقفون على أبواب التردد والوضع يغري البعض بما هو موجود خلف الحدود.
لم يجد سپاسکو سوى خطواته التي كررها على المكان ثلاثين عام، هنا كان يرافق زوجة عمه ذهابا وإيابا إلى المدينة، وهناك كان يعود ليلا من سرقة الخضار من حقل قمقمو قبالاتي، وهنا على الطريق كان يقرأ كتابه المدرسي، انتاب سپاسکو نفس الشعور الذي انتابه حين فقد أول قصة حب ترعرت في قلبه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…