الارض الجريحة.. الحلقة الثانية عشر

زاكروس عثمان 

شم حفيد ارطغرل رائحة جوع أجداده، استفاقت غريزة الذئب في عينيه، الإيزيدي حمل وديع، انشغل عنه القطيع بالترهات، الإيزيدي طاؤوس يحمل رونق الحياة، والقطيع اعمى لا يبصر الحياة، في شنگال للعشب حق في الحياة، للجدول حق في الجريان، للعصفور أن يغرد في أمان، للقلب أن يثمل متى ما يشاء، في شنگال انسان في صورة الكمال يحلم بالفرح وإله لا يجيد الحقد. 
قرأ حفيد ارطغرل دماغ البعير وجده يحلم بضرب ناقة وتناول قضمة شوك، اغراه بالغنائم والشبع من الحوريات والكباب ان هو ذهب بقطعان من العربان الى الجهاد، سمع السلطان قرقرة بطن الذئب رآه يشتهي لحم الخراف، فجاء به الى تخوم المراعي، واخبره ان هذه ارض جهاد، تفقد حفيد ارطغرل نوايا القطب الازرق، سمع الدب يقول للنسر: علينا ان نبيح للذئاب افتراس الغزلان حتى لا تهاجم خرافنا، دخل اليهم السلطان وقال لهم: اطلقوا يدي في بلاد الجن كي اسحب كل ذئب جائع الى مرتع الغزلان، وفيما غزلان شنگال يغنين اغنية” درويشي عفدي” كان السلطان ينقب السد ليمر يأجوج ومأجوج، وتقوم القيامة.
عادت السيوف تثير غبار الأمس، ليس ثمة حاجة إلى ذريعة، العندكو مذنب لأنه عندكو، دمه حلال، ازهار الحديقة مثل شنگال ظهرها مسنود إلى الريح، الوقت مناسب لترقص الرماح على بطن امرأة حامل، اقتضت مشيئة الأقطاب إن يهرم الجنين في رحم امه، هكذا جاءت الآية حين يجوع الرسل يجوز لهم آكل لحم النساء وذبح الأطفال، لماذا… لا تسال انها حكمة لا يعلم بها غير الله.
غبار غطى مدارك سپاسکو، هرب من مناقرة زوجته له إلى حضن الخاطر، حيث ينقلب فيه حديث الزوجات إلى قرص عسل، ثمة غابة من الجن يلوذ بها كلما انتابه ضيق يلقي بنفسه في اغوارها، حين تحاصره اغوار الحياة، سار سپاسكو في خاطره والتقى جنيته روكسانا التي كُتِبَ لها ان تكون قوس قزح لا يندثر حين يخاصم المطر الأفق.
ليس معروفا من أي الكباش حُبلت النعجة البيضاء، وكذلك سپاسكو بداياته غير واضحة، لكن حين يَعرق قلبه من الركض خلف جنادب الماضي تفور بدايات الكون من عبق روكسانا ورائحة القرفة، البداية تكون حين يسمع صدى الزنجبيل في اغاني الحلابات، ويشاهد شرايين حبة الحنطة كيف تتفرع في قلب القرية، حين يتوه سپاسكو على دروب كيانه يصادف آثار خطوات روكسانا، هي عمود خفي يسند السماء، هي من تحميه من انسكاب النجوم، ومن ثعابين القدر، والايام العمياء، روكسانا حكاية جبل زاگروس التي كل من سمع بها مسه الجنون، لهذا لن تخلو عامودا من المجانين، وزاگروس لن يخلو من ملاحم الوعل، وسپاسكو لا يستطيع أن يخلو من تراب القرية لان روكسانا جُبِلت من ذاك التراب.
غُزِلت خيوط القرية بمغازل الأبد على يد فرسان الشمس، كرات ملونة مزركشة، كرة غُزلت من صوف همسة في كهف شانه ده ر، وثانية غُزلت من حرير فكرة، وثالثة غُزلت من وبر القدر، القرية ليست ضلع مكسور بل هي ضلع المطر واحاديث قوس قزح على شفاه روكسانا وسپاسكو حين يتعانقان.
عبثت قطط الزمن بالخيطان، تشابكت الكرات، فأبدعت عفو الخاطر نسيج سحر، إن حُلتّ خيطانها يتحطم قوس قزح، وتدمى اصابع قامشلو، لم يرد في خواطر سپاسكو وروكسانا أن يعبثا بخيطان نسجتها الطبيعة، هي قناعة أن شجرة الزيتون في رباط فطري مع حبة حنطة أينعت سنبلة في كيان مقاتلة، تراب القرية الذي تمرغ فيه سپاسكو وروكسانا، وبه كحلا أعينهما، ودعكا ثيابهما يؤكد بان لا فكاك بين هاتيك العُقد.
سألت روكسانا سپاسکو: ماذا يحدث لو سُحِبَ الفتيل من السراج، اجابها: سوف انطفأ، سألها: ماذا لو حُرِمت النحلة من الأزاهير، اجابت: سوف تصبح شفتاي مُرة، هما في حكايا زاگروس كائنان بريان، أينما خطر لهما يحتضنان يتبادلان القبل، في فصل التزاوج على السور يقلدان القطط، هكذا وجدا الحب، ظنوا أنهما سيظلان هكذا الى الابد، لم يدركا بأن كتاب حقود يدس حبة فلفل حار في مؤخرة جيفة بعير كي يهتاج الأموات وينهضوا مطالبين بتدوير التاريخ، لیحدث لغط ويختلط الاموات بالأحياء. 
عَزَ على روكسانا وسپاسكو انقطاع همسات الجن، لم يستوعبوا كيف ان القرفة أصبحت في قبضة شاربي البول، وكيف ان الجربان يغتسلون بحليب الغزلان، وكيف أن الجواري حللن محل الاميرات، وكيف جلس السفهاء مكان السادة، تحسست روكسانا صدرها لتتأكد ان قلبها ما زال في موضعه، عاصفة تضرب احشاء سپاسكو، جاء الرمل ينازع قوس قزح على الافق، فلاح فَقَدَ عقله يغري البعير ان يفتك ببستان سقاه دموع زوجته ودم ابنائه، بائع فَقَدَ رشده يسلم البغال بابونج تفاؤل، وسپاسكو المجنون حائر يسأل نفسه هل عليه حراسة العقول ام حراسة الحجر.
دندنت روكسانا قصيدة بنفسجية لسپاسكو.
قال لها: قصيدتك فاخرة لكن البنفسج بوابة قبري.
قالت: لم يعد هناك اختلاف بين البوابات كلها باتت بوابات النهاية، لا مَهرب لك مجبرا سوف تفتح بوابة ما وتدخل، نحن وحظنا لنرى ما ينتظرنا هناك.
حين تنادي القرفة تكون إجابة سپاسكو لبيك، نهض وعانق روكسانا بمقدار الله، فتح بابا ومشى، لكن قبل أن يتسنى له مسح دمعة الوداع على خديه هوى في جيب الله وكان مثقوبا ظل يهوي مسافة فارغة موجعة حتى سقط، فتح عينيه لم يجد روكسانا حاول تسلق رقبة الله ليعود إليها ولكن الرب أعتقد ان سپاسكو يريد أن يسلبه مكانه ويحل محله فمنعه عن تسلق كتفه، بعد إجلاء الرب له التف سپاسكو حول نفسه لم يجد سوى الضباب أراد أن يخدع نفسه ادعى انه اضاع عينيه، حيث لم يقوى على الاعتراف بأن مرحلة مرعبة باتت تحجز بينه وبين روكسانا.
بعد ان انكسر الإبريق على الطريق، وضع سپاسكو رأسه عوضا عنه على حطب المخاوف لِيُحَضِرَ شاي عجمي لضيوف غائبين، نظراته تتلمس القرفة، توهج رأسه دون ان يفور الماء، اجل حتى الماء اصبح خصما للقرية، لهذا جاء الشاي فاترا باهتا بلا قرفة، تصدعت عروة العشق، ضمد سپاسكو العروة بتفاصيل الغجر كي لا تنسكب أغاني الكادحين، فيما مهرة الظنون لا تهدأ في أحاسيسه، تهرول تريد ان تقفز هاربة من كبده، وتجري عائدة الى بيادر ذكرى غير بعيدة كي تتمرغ فيها، مهرة تلهث وكبد تحت أثقال الهموم بات عشاءا للديدان، الطريق مثقوب لا يمكن السير فيه، سپاسكو يحتضر لكنه لا يقوى على الموت وكذلك لا يمكنه ممارسة الحياة، بقي مرميا هناك جثة هامدة.
ضباب يغطي خاطر سپاسكو دون أن يلوح طيف روكسانا من خلاله، حين لا يكون مشط سپاسكو في ضيافة ضفائر روكسانا ماذا يمكنه أن يقول وماذا يمكنه أن لا يقول، هي نكهة القرفة في كأس جده الذي ما كان يشرب الشاي دونها، وكما الجد ادمن القرفة، هو ادمن روكسانا، شفتاه تطلبان حروف شفتيها، والطريق مثقوب يهدر قبلات تمشي بلا دليل، تلقفت روكسانا جمرة حنين، تلظت شفاه الملح، قصيدة تهاجر قلقة، صفحة خرساء تعبث بها رياح الحيرة، حبال الشجن تشد الخناق على رقبة سپاسكو، وليس بوسع روكسانا أن تقطع حبلا قدَّ من خيوط الأسى.
 حمل سپاسكو مبرد الأماني يحف سماكة الليالي ولكنها لا ترق، جليد يقبض على اطراف الامل، ما من فرصة أمامه للفرار، عيناه تذرفان خرزات قلادة في جِيدِ روكسانا، تراءى له عقد الكهرمان الذي كان بعدد حباته اختلس قبلات من روكسانا، و تلقى مقابل كل منها صفعة موجعة من والدها.
خيام سوداء نُصِبت على شفاه الانتظار، النفط أثمن من الدم، بين حلم وحلم تترجل قبلة من شفاه سپاسكو المتشققة لتعود إلى روكسانا، القبلة المسافرة تهريبا مصيرها خيمة ممزقة أو قارب مفقود، ولكنه الرجاء يرخي حبل مشدود، بقي سپاسكو هكذا لا يستطيع الموت ولا يقوى ان يحيا، انما الليالي مهما أظلمت يعقبها صباح، طائر متجمد عاد يخفق بجناحيه يلوذ بذكريات روكسانا على وهجها يُدفأ آماله. 
هرب سپاسكو من مناقرة زوجته، عاد به القهقري الى القرية، توقف عند تنور الجدة، هي ذي ترفع خبزها من جوفه تاركة خلفها كسرات خبز عالقة به، مغناطيس الشواء يجذب روكسانا وسپاسكو الى التنور، كسرات محمصة مقرمشة تسيل لعاب الناظرين، كي يفوزا بها عليهما إخراجها من جوف تنور متوهج، أياديهما لا تطول كسرات الخبز، لكن الشهوة ام الاختراع، عليهما الحصول على الخبز باي طريقة كانت، روكسانا تضع قدمي سپاسكو على صفيحة معدنية مهترئة، تطلب منه ان يقحم جسده حتى الجذع في التنور، تمسك بقدميه حتى لا ينزلق إلى جوف التنور، دخان يدمي عينيه، جمرات تشوي وجهه، وما كان يسحب رأسه من التنور ما لم يفوز بكسرات الخبز، بعد نوال الخبز المحمص يسيران وهما على الطريق يتحدثان و يقرمشان الكسرات، ثم يذهبان إلى خلف الديار، يعمران اسوار ومساكن، يربون الماشية، يصبحان زوجين لهما اطفال وأملاك، يلعبان بالتراب، وحين الارتواء من اللعب يتشاجران و يتخاصمان، ينهض سپاسكو ويركل العمائر يخربها يشد شَعر روكسانا، تذهب إلى البيت باكية، بعد الظهيرة تأتي إليه ثانية تقول له: تعال نذهب خلف الديار نلعب بالتراب.
على هذا الوهج تخلص سپاسكو من ثرثرة زوجته، ذهب الخدر عن جنح الطير وعاد الجن إلى القرية ونطق التراب، اعتقد سپاسكو ان روكسانا قامت بترقيع الطريق المثقوب، بقيت لديه رغبة عنيدة في أن يدس نصف جسده في تنور متقد لأجلِ روكسانا، لكن التنور الذي ينتظره في الخارج ليس كتنور القرية. 
تابع ابن ارطغرل المشهد يراقب ابناء الجن كيف ينهضون في المعارك، هنا متغطرسون يمزقون دفاتر سايكس- بيكو، وهناك فرسان الشمس يضاهون الدول، الامر خطير و على حفيد ارطغرل ان يزرع السم في بدن شنگال قبل ان يلامس صدر سپاسكو نهدي روكسانا، فيأتي جنين مجنون يركل تلك الخرائط.
عاهرة عجوز خطت خرائط وقامت بتوزيعها كما تريد، لسبب مجهول لم يعجبها زب الكوردي مع ان جيوبه متخمة بالذهب، وزبه يتدفق نفطا ورعشات ما يكفي ان يبقي العجوز حية إلى الابد، لكنها قدمت الخريطة إلى سلطان مريض ظل مئة سنة يمتص النهرين كي لا يموت، سرقت العاهرة مصير الكوردي و نفطه، ذهبت إلى راعي الابل كي يضاجعها وبعد ان نالت مرادها اهدته عشرون دولة، لم تغرم العاهرة بقرية الجن، قامت بخطف قضمة من خدود شمس القرية وقدمتها هدية إلى شاه العجم، وقررت ترك مصير الكوردي خارج خرائطها مئة عام قادمة، عاهرة خَرِفة ظنت ان الحياة زيت يضخه قضيب قذر في مهبلها، اما زيت الكوردي فهو عناده الذي يهبه الحياة، ودم يرسم به خريطة عشقه، ظل مئة عام يدوس خرائط العاهرة العجوز حتى حفيت قدماه، لا بأس الجن يمشون حفاة عراة ولكنهم لا يتراجعون، ظل الكوردي ينطح دبابات القدر مائة عام، كلما حطم واحدة سارعت العجوز وارسلت إلى عشيقها بدل الواحدة اثنتين.
قَنِطَ جد سپاسكو من البشر ومن القدر، خرج الى گري موزان واخذ يتحدث إلى الله: لا اعرف يا رب العالمين ان كنت تجيد لغتي الكوردية فأنا لا املك غيرها كي اتحدث اليك في مسألة تدفعني إلى الشك بصفاتك الجميلة التي يصفك بها الناس، على كل حال سوف اتحدث واتمنى ان تفهم كلامي، نحن البشر حين يلحق بنا سوء لا نتمالك انفسنا نغضب في دقائق، ولكن يقولون اذا وقعت مظلمة يلزمك اربعون عاما حتى تغضب من مرتكبها، هذا يعني ان على المظلوم الانتظار اربعين عاما حتى ترفع عنه الظلم، قد تكون هذه المدة بالنسبة لك لا شيء فانت الابدي الخالد والزمن لا قيمة له عندك، ولكن نحن البشر كما تعرف اعمارنا محدودة والزمن محسوب علينا، وان اكثرنا حظا يعيش اربعين عاما زائدة عشرة او عشرين، فان تلقى احدنا مظلمة وهو في سن الاربعين عليه ان ينتظر غضبك من الظالم اربعين سنة اخرى، حينها يكون عمر المظلوم قد بلغ الثمانين وعلى الارجح يكون قد مات، فماذا يستفيد المظلوم من غضبك ان رددت له حقه بعد موته، لا تظن اني اشتكي اليك حالي، بل اود ان اذكرك ان قومي وقع عليهم ظلم كبير منذ ثلاثة الاف عام، هذه مدة كافية كي تجعلك تغضب من الظالمين وترفع عنا المظلمة، لا اعرف لماذا لم تغضب حتى الان، السنا ايضا بشر من خلقك، ام انك تمارس تفرقة بين المِلل، طوبى لليهود انهم شعبك المختار، انا قلت لك كل ما عندي، واتمنى ان تفكر في قومي المقهور، فنحن اول شعب اكتشفك واعجب بك، وقدم لك القرابين وبنى لك المعابد.
فيما الجد يسترسل في حديثه الى ربه، هبت عاصفة غبار فوق التلة، فسرها الرجل على انها جواب سلبي من الرب، فانصرف منزعجا، وقرر ان لا يُتعب نفسه ثانية في حديث الى إله لا يريد ان يسمع شكواه.
توفي الجد وبعد زمن طويل من وفاته، اتاه الرد ليس من الله، انما من عبوة بنزين، اشعلت خرائط العاهرة العجوز، خرج العبيد يدوسون اصنام هانيبال والفرعون ونبوخذ نصر ومعاوية وحافظ الاسد، سالت الاصنام قيحا، ارتعب السلطان والإمام والملك، وبات مهبل عواصمهم مكشوفة، اجتمعت الكراسي تتباحث كيف يمكنها ان تَحولَ دون جلوس العبيد عليها، اتفقت الكراسي على ان ترمي على طريق العبيد دينا ودولارا، فانحرف الطريق وانصرف العبيد عن الخلاص واقاموا تماثيل جديدة، واتخذوا التكبير شعارا.
ركب حفيد ارطغرل ظهر العبيد يريد ان يُخرج بهم جده المريض من قبره ليزحف من جديد الى “شام شريف”، ولكنه تعثر بالمتغطرسين، صيروه اضحوكة في سري كانييه، لقنوه في كوباني درسا بعثر حساباته، ابناء الجن يقطعون يد السلطان، والذئب جائع يبحث عن ثغرة. 
اطعم ئزدين خرافه مساءا، لبس ردائه الابيض، ابتهل الى الله ان يعم السلام على اهل بيته وقريته وشنگال وعلى العالم، دخل في فراشه، القرية هادئة ليس ما يعكر الاجواء سوى رائحة صمت مريب، نظر ئزدين إلى بناته وابنائه وهم نيام، لم يشعر بالراحة المعتادة التي يشعر بها كل مساء حين ينظر الى وجوههم قبل أن ينام، انقبض صدره وقال لنفسه: خيرا ان شاء الله. 
رصاص ينصهر في جوف شنگال، هواء ثقيل يجثم على قمته، تَلَمسَ الجبل الاجواء فأدمت ذاكرته، إذ سبق له مرات ومرات أن تنشق الرصاص، وان شاهد الهواء يموت على ظهره، فتح شنگال صدره لفراخه، إذ ليس لهم سواه من عش يلوذون به حين تفتك الافاعي بالعصافير، لم يستطع ئزدين النوم، خطر له ان يوقظ اهل بيته، ان يصرخ في اهل قريته: انهضوا سريعا دونكم الجبل.
تلك الليلة الخبيثة قبل ان تموت التي حفرت قبرها في كيان سپاسکو، عادت إلى الحياة تهرس دماغ ئزدين بمطارق الحيرة، سأل نفسه: ماذا يجري، وكانت الإجابة صوت خافت لزوجته گولي: انهض يا ئزدين احضر القابلة قد أتاني الطلق، نهض الزوج مضطربا، وسمع ألف نداء في ذاكرته يقول له: احمل بندقيتك يا ئزدين، حمل الزوج بندقيته واحضر القابلة، وتمت الولادة، ولم تكد الزوجة تنتهي من ألم المخاض، حتى هاجت القرية على وقع لغة لا تنطق سوى الذبح والخراب، خرج ئزدين لينظر ما حدث، وجد الافق محمر العينين، وسمع من بعيد صرخات مخنوقة تنادي: هبوا… هبوا… النار تزحف، شنگال تحترق.
غبار ودخان في كل مكان، تلقف ئزدين بندقية الصيد خاصته، والتحق برجال تجمعوا وسط القرية، ولم تكد تمضي ساعة حتى تبدلت سحنة السماء، برزت دبابات روسية، عربات امريكية، تحمل اصحاب الرايات السود، عربان تركمان مغول و ايغور ينهقون: الله اكبر، وراء كل تكبيرة يمطرون القرية بالقذائف والصواريخ والرصاص، صاح ئزدين رجال القرية: انظروا يا اخوتي انهم اكثر من الجراد يحملون من السلاح ما يكفي لاحتلال دولة، لن نستطيع الصمود في وجههم، الافضل ان نشغلهم بالمناوشات، حتى يتسنى لنا نقل الاطفال والنساء الى مكان آمن، تولى اربعة رجال نقل الاهالي بسياراتهم نحو الجبل، واخذ الباقون على عاتقهم مشاغلة العقارب ريثما يتم الانتهاء من نقل ذويهم.
شاهد الرجال مئات النساء والاطفال والشيوخ حفاة يسيرون هائمين على وجوههم هاربين من قراهم، اخذ سائقو السيارات ينجدون المارة ويحملون معهم من يصادفونهم على الطريق، سيارات تنقل دفعة من الاهالي وتعود لتنقل دفعة اخرى واخرى، قوم يأجوج ومأجوج يلتهم القرى، السيوف تعمل في رقاب رجال قرروا حماية ذويهم والدفاع عن قراهم، تمتد مخالب الضباع الى جدائل نساء واعناق اطفال لم يتسنى لهم الهروب من الجحيم الذي داهمهم، تكالب اتباع القرآن على شنگال ينهشون قراه، ضاقت الارض بالايزيدي، جنود الخلافة في كل مكان يؤدون فريضة القتل والسبي، شنگال غنيمة شنگال سبية، شنگال محرقة انها الفتوى الرابعة والسبعين، شنگال ارض مستباحة، جند السلطان يدمرون القرى، حرس الامام ينهبون البيوت يحرقونها، وخصيان الامير يذبحون الرجال، خفافيش الكعبة يخطفون النساء، شنگال من جديد حلة حمراء، خبأ الجبل فراخه القادمين اليه في جوفه، اطعمهم ظله، وسقاهم الامان، ولعق جراحهم، وبصق في وجه السماء.
خرج الاهالي مذعورين من ديارهم بلا ماء او طعام، يحثون الخطى صوب الجبل، وجند عياض بن غنم يتسابقون فيما بينهم على قتل من يقع بين ايديهم من إناس لا ذنب لهم سوى انهم عزل، دخلت ذئاب الله بين القطيع، سكاكين الجيران شردت الايزيديين، طفل في العراء يسير وحيدا، زوج بين الجثث والحرائق يبحث عن زوجته، فتى جريح يضع رأسه على جثة والده، عجوز تاهت عن اهلها، امرأة تركض في الارجاء تنادي اطفالها، وشيخ منهك جلس ينتظر خنجرا او سيفا يجز عنقه، وهو يسأل اين ذهبت بنادق اخوتنا الاخرين. 
لم تصدق گولي زوجة ئزدين كيف انها وسط عالم الموت تمكنت من الوصول إلى الجبل إلى الحياة، وكان زوجها طلب منها ان تذهب برفقة أطفالهما لركوب شاحنة تقل الاهالي إلى الجبل، في الطريق ضرب خنزير تركستاني الشاحنة بقذيفة، تناثرت اشلاء ركابها، واحترق السائق، القت گولي اطفالها من صندوق العربة وقفزت منها، في تلك اللحظة ماتت كل حواسها وتحولت الى كتلة تحركها غريزة، عليها ان تنقذ اطفالها، ووليدها الذي ما كاد يبصر النور حتى اتهموه بالكفر، بدأت الام تجري واطفالها خلفها يركضون يبكون يتعثرون يسقطون ينهضون، سقطت الام واطفالها مائة مرة، تمزقت ثيابهم ونعالهم، دماء تسيل من سواعدهم وُركَبهم، اطفال جياع عطاش، الجبل يناديها: هيا تابعي تعالي يا ابنتي، ساقت الغريزة الفراخ الى عشها، اوت گولي الى حفرة في الجبل، استردت حواسها، ولم تصدق ان ما شاهدته قبل ساعات قد حدث بالفعل، ولكن بكاء اطفالها، تجفاف حلقها اكد لها انها وسط الجحيم، القت نظرة على وليدها وجدته كتلة لحم متفسخة، لم تجد مزيدا من الدموع كي تبكي، ولم تملك نبرة كي تصرخ، حفرت حفرة ودفنت كتلة اللحم، وجلست في الحفرة تفكر في زوجها ان كان حيا ام ميتا، وكان ارسلها مع اطفاله الى الجبل، وقرر مع الرجال عدم مغادرة القرية الى أن يتمكنوا من ارسال جميع الاهالي الى مكان آمن، العدد كبير والسيارات قليلة، تذهب وتأتي تنقل الناس على دفعات. 
حين اقتربت العقارب من القرية، لم ينتظر الاهالي عودة السيارات، خرجوا مشيا على الأقدام، وجد ئزدين وبقية الرجال انفسهم مطوقين من جند الاسلام سقطوا في الاسر، اطلق الشيشاني صيحة تكبير وردد العقارب خلفه: الله أكبر، قرأ المغربي آية ثم قال: على بركة الله، واخذ يأجوج ومأجوج يجزون اعناق الايزيديين بالسكاكين، حين وضعوا السكين على رقبة ئزدين كان يسال نفسه إن كانت زوجته واطفاله وصلوا الجبل، شرب جند الاسلام دماء ثمانية رجال، ثم اشعلوا النار في القرية، وخرجوا لافتراس قرية اخرى، رماح تسوق صبايا نورانيات إلى سوق النخاسة، الجبل مصدوم من جيران سلبوا قراه، من اخوة تركوه، فاحتضن فراخه وهام في جرحه القديم.
سقطت الكرة الارضية في شنگال، كذلك سقط الله، وكان السقوط الكبير للكورد، إبراهيم ينكرهم، موسى لا يفكر بهم، عيسى يهملهم، بودا لا يسأل عنهم، ومحمد يقتلهم، والكوردي يغش نفسه، ثمة اسف يخترق حلق گولي ويزيدها عطشا، ثمة صدمة يجمد حواسها، وسؤال يدمي رأسها اكثر من الصخور التي ارتطمت بها وهي تصعد الجبل، صغارها عطاش.. جياع.. مصدومون، وهي خائفة تسأل نفسها هل تَصعدُ العقارب الجبل، خرجت تبحث في الجوار عن شيء يؤكل عن ماء وعادت بقليل من الاعشاب، لم يستسغ الصغار طعم النبات، فخطر لها ان تأكل هي، كي يدر الحليب الى ثديها لترضع صغارها جرعات تبقيهم أحياء.
الجبل لا يتخلى عن صغاره، ارتسمت ابتسامة لا إرادية على وجه گولي وهي تجد احد صغارها يرضع ثديها بشغف، قالت في نفسها: لن يموتوا جوعا او عطشا هذا هو شنگال هذا هو طاؤوسي ملك، بقيت گولي تكافح يومين لأجل صغارها، حتى عثر عليها الجن وحملوها هي وصغارها الى المخيم، هكذا بين يوم وليلة اصبح الايزيديون لاجئين، في المخيم التقت گولي إناس من قريتها اكدوا لها ان العقارب نحرت ئزدين واثنين من اخوتها واباها وابن عمها، وخطفوا اختها واخت ئزدين، بعدها وجدت گولي نفسها في المانيا راقدة في مشفى للأمراض النفسية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…