غريب ملا زلال
أذهلتني جرأتها، نعم أذهلتني جرأتها التي تلخص مقولتها اللامحدودة، مقولة عشقها للجمال المبعثر في الجسد العاري، و المغتسل بالضوء، و المشتعل بذاكرة حيّة و دافئة تنبض بخصوبة مسالمة، فالمشاعر و الأحاسيس هي التي تُمارس في إمتدادات عملها جميعاً، فهي تكاد لا تترك بقعة في لوحتها دون حشدها بسيل من موسيقاها الصامتة و المشبعة بتساؤلاتها اللونية و الحسية، فأحمد تكثف مقولتها تقرّباً من آفاق جديدة تلك الآفاق التي تحمل طقوساً جديدة تأخذها إلى عوالم كان لها الجهد كله في خلقها، عوالم تهرب من الأسماء إلا من إسمها، عوالم ترتبط بجذور دخولها في مساحات الفن و الحياة، فتمضي بمخزونها نحو تساؤلات مفتوحة على الجهات كلها، فتحاصر قلقها و تزيد الخناق على نبضه حتى تتسارع حركة فرشاتها لتدس ملامحها في لوحتها إلى حد الإمتلاء، وهذا يوفر لها مناخاً ملهماً فيه تتلمس كل الإحتمالات المتدفقة صمتاً، أو المتهافتة على وداعة روح في عمق هدوئه، أو المسافر في الجسد المتعب برغائبه حتى يعتنق،
فهي تؤكد في معظم أعمالها على المزاوجة بين خطوط الجسد كسلم موسيقي لهذا الجسد و بين إشتقاقاته و القوة الكامنة فيه و التي تكون على أهبة التفجير، فالبؤر هنا مولعة جداً سواء أكانت بالحركات القادرة على التعبير و بالسفر الطويل فيها، أو بالتأمل في الشعاب المقدسة و ما يحوم بين همساتها من حمامات لا يغيب البياض فيها، ومن فراشات تصنع الإبتسامات الصغيرة أينما حلقت و أينما حطت، أو بالإشتعال الذي سيوقد فيها حتى يأتي على الحصاد كله، و إن كانت أحمد قادرة على خلق اللحظات التي ستذهب بها في المتاهات المنيرة، اللحظات التي ستحتويها بكل دموعها و آهاتها و قهرها، اللحظات التي ستتداخل كثيراً فيما بينها، بين قلقها و توترها، و بين تداعياتها التي تقول بأن الحياة ليست بعيدة، و بأنها ليست في إتجاه واحد، بل ممزقة و على نحو شديد في الجهات كلها .
عبير أحمد ترسم سطوحها اللونية و كأنها تحرق ذلك الجسد العاشق بإرادتها و إن كانت قادرة على تحويل المسارات بمناخاتها المختلفة و تحويرها إلى تصورات خاصة ترجع بالنتيجة إلى تقاربها الزماني / المكاني لصياغات وحدها تتقن إختزالها إلى مؤشرات نوعية ترتبط إلى حد كبير بذاكرتها و ما تسكن فيها، وحدها تتقن البحث في الجسد العاري بلغة الآلهة، لغة الصمت الصريح، القريبة من الشاعرية و الحلم، و التي تفضي بظلالها على صميم حقولها التي تملأ فضاءاتها بشوقها المغامر، البعيدة عن التراكمات التي تحرض على الموت و تكديس جدائله، فأحمد تعانق السفوح بفراشات روحها و بفراشي ألوانها حتى تمنح الجسد سرها اللانهائي حينها يستيقظ المخزون النائم فيه، يستيقظ الموسيقا بغزارة الضوء في صيف صحراوي، فهي تتناول الجسد من رائحته بطعم العشق حيناً الأقرب لطعم الخبز المحمص ( المُقَمَّر )، و بطعم الصوان حيناً آخر، و بخلق نوعاً من التوازن بل التزاوج بينهما تضفي لعملها حساسية مرهفة كانت نائمة في محطاتها الكثيرة العذبة، كشكل من أشكال الإنتماء للجسد، للذات، للمكان و لذاكرتهم الجديرة بحمل التفاصيل و سردها عبر مؤثرات مرئيّة بصرية، فهي لا تزال ترافق المنجز بمجمل مفرداتها، و اللوحة لا تنتهي عندها بل هي في حالة من الكينونة المستديمة، في حالة من العشق المتبادل بعناصرها الفنية و الإنسانية و التي تكثف ما تقدمه بجدية و صدق، و تجمع طوفاناً من المسافات المتعبة في بحيرة المرأة، و تلخص ذلك الفيضان المخيف إلى حد ما برسم عوالمها التي توفر لها كل التأمل، و كل الحرية، و كل الفعل لتبقى لمساتها العفوية و التلقائية في تطلعاتها الحداثية خارج القيود الفنية منها و الإجتماعية، خارج الخطوات المسبقة الصنع، خارج الإيقاعات المسبقة الرسم، فهي مليئة بالضوء الذي به ستستعيد كل ما سلب من المرأة، مشاعرها، حريتها، كيانها، إنسانيتها، فبنقائها الفطري ستستعيد إحساسها باللون و تدخلاته الشاقة، و بالحب و مزاميره الصامتة، و الجمال كجدية الحياة و ضرورتها، فالثيمة التي تعمل عليها عبير أحمد أقصد الجسد العاري و التي قالت مجاهرة بأنها لا تجد أجمل منه لترسمه، هي بذلك تمارس دورها في الدفاع عن المرأة، عبر تسليط الضوء على كل مشكلة تلاحقها كأنثى أو كحالة إنسانية من الإضطهاد و التعذيب و القهر – حسب قولها – بل تصرح أكثر من ذلك حين تقول : ” كل لوحاتي تحمل قصص نساء و تمجد الأنثى “، و لهذا تحول الجسد العاري بين فرشاتها إلى أيقونة تتحدث عن جمال الإنسان و حدائقه، عن خصائصه المتدفقة و تحرره، فهي لا تستطيع أن تلغي تفصيل التفاصيل للجسد العاري كمحور أساسي لتجربتها التشكيلية، كما لا تستطيع إلإستغناء عن ريحة هذا الجسد كثروة ربانية تنثرها على فسحات أعمالها دون أن تترك زاوية صغيرة دونها، بل تسرع في نبضاته، و إذا كان الإغريق يرسمون آلهتهم كمخلوقات سماوية فالمؤشر هنا يقول بأن العري هي من مواصفات الآلهة و ما يحيط بها من كائنات سماوية، فالمرأة عند أحمد كائن سماوي و تنتمي لنسل الآلهة، فإذا كانت فينوس رمزاً للجمال و حولت الأسطورة ذاتها إلى ذلك الرمز، لماذا لا يكون من حق عبير أحمد أن تكون لها فينوسها و أسطورتها، و بالتالي فمن حقها أن تتباهى بنضجها و تداعيات أشكالها، بحريتها و ما تحتفظ به من أدوات بها تتعامل مع ما يحرض على إخراج الجمال من ذلك الجسد العاري، الثروة الأنقى و الأغلى على إمتداد الخليقة .
عبير أحمد من رائدة طليعية على مستوى سورية بالرسم و الخط العربي إلى التحليق في سموات رسمتها بنفسها، سموات لا تابلوات مقدسة فيها، كل الأمور مطواعة بين أصابعها، كل الأشياء قابلة للنطق بما لم تجهر به سابقاً، و تبقى حالة الحس هي الأكثر حيوية في ألوانها و روحها .
هي ليست جريئة في أعمالها فقط حين إختارت أن تكسر إحدى التابوات المقدسة ( الجسد ) في شرقنا الحزين، هذا الكسر الذي يعتبر تعديّاً على الوعي غير المستيقظ، بل جريئة في تفاعلاتها الإنسانية، و في تعرية شيفرة المقدس بتراكماتها التاريخية، الشيفرة التي لا يمكن أن تكون إلا وليدة الواقع .