قصة: كارين بويه
ترجمة: فرمز حسين
بالتأكيد كان يتعقبها، من غير المعقول أن تخطئ في أمر كهذا. لو كانت فقط تملك الشجاعة لكي تلتفت و تنظر اليه ، فقط لتتعرف على ملامحه، جبان أم مرعب، ضخم ، خشن و خطير أم نحيف و مسموم- لكنها لم تتجرأ خشية أن يفهم ذلك استحساناً منها ويكون تشجيعاً له . عوضاً عن ذلك بدأت تتسارع في مشيتها أكثر ثم أكثر حتى في نهاية الأمر بدت شبه راكضة حتى توصلت إلى تقاطع شارع عريض، هناك كان لا يزال الشارع مليئاً بالناس رغم تلك الساعة المتأخرة. هناك بدأت تتباطئ في خطواتها المسرعة. كانت مضطرة أن تسير مثل بقية الناس كي لا تلفت الأنظار إليها.
لكن طوال الوقت كان تحس بأنه معها لكن عن مسافة بعيدة دون أن يجعلها تغيب عن أنظاره بالطبع، ولكي تختبر ذلك انعطفت عن الطريق حين وصلت إلى تقاطع طريق جانبي ، توقفت لحظة لتستمع : كل شيء بدا ساكناً ، تابعت السير لبضع خطوات أخرى : السكون نفسه . ببطء شديد و دون أي ضجيج صعدت في الطريق باتجاه المدخل , سكون أكثر صوت خفيف لخطواته تقريباً مثل صوت مروحة تدور ببطء و تردد. أرادت أن تتوقف لكي تسمع فيما اذا هو أيضاً سوف يتوقف و لن تسمع وقع خطواته من خلفها. و لكن ذلك الخوف الغبي للتو منعها عن جديد: إذا هي توقفت لتنظر إلى شتلات العنب البري المزروعة حديثاً كي ترى بأنها بدأت تنمو، حينها سوف لن يفسر ذلك على أنه فضول من قبلها فقط بل أيضاً على أنه تقبل و استحسان و هذا ما لاترغب المجازفة فيه، ولن تجني شيئاً بهذا. لاهثة و بقلب يخفق استمرت في سيرها.
كيف لها أن تعرف بأنه رجل مخيف؟ كيف لها أن تعرف بالأساس بأنه رجل؟ لكنها عرفت ذلك ربما أنها رأت بعض ملامحه قبل أن تعرف بأنها سوف تصبح ملاحقة منه، أياً كان فهي تريد تجنبت أية صحبة في ذلك المساء.
فجأة خطر لها فكرة رائعة. بسرعة مثل الذي نسي شيئاً ما ، استدارت تماماً و عادت مسرعة إلى الخلف في الطريق ذاته و قبل أن يتمكن الشخص الذي يلاحقها أن يختفي عن الأنظار ، كانت قد رأت بعضاً من ملامحه. نعم إنه رجل ، ليس صخماً مثلما رأته بل على العكس بدا صغيراً و نحيلاً و بلباس رث ينمُّ على أنه فقير الحال.
خوفها أصبح أقل . فهو ليس بذلك الشخص الضخم المخيف الذي يستطيع أن يرميها أرضاً و يرمي بثقله عليها فيما لو خلا بهما الطريق. لكنه رجل فقير و ليس بذاك الرجل الأنيق الملبس الذي يتصيد الفتيات- بنفس الوقت الذي لم تعد تحسب له الكثير من المخاوف ازداد عندها موجة من التعاطف معه و كأنهما بشكل من الأشكال يتقاسمان قدراً ا واحداً ، هي– تلك الفتاة الأنيقة الملبس -هو –ذلك الرجل الفقير الضئيل – الاثنان على أية حال ينتميان إلى فئة المظلومين في هذه الدنيا. قبل كل شيء ربما كان على أية حال شيء آخر أزاح ذلك الانقباض عن صدرها ، كان يمكن أن يكون شخصاً آخر مخيف.
لكن لماذا هذا الشخص الغريب يلاحقها هي و ليس غيرها؟ انها ليست بتلك الفتاة الجميلة، أنيقة نوعا ما و لكن ليس إلى ذلك الحد الذي يلفت الانتباه، و دون أن يكون هناك شيء متميز بأي شكل من الأشكال، كما أنها كانت تمشي مسرعة طوال الوقت و لم تكن بفتاة الشوارع تلك التي تتلفت يميناً و شمالاً بنظرات تستقطب الآخرين. في الواقع كانت خارجة من أجل مسألة لم تكن بذات الأهمية بمن سوف تلتقي معهم . ربما على الرغم من كل هذا أن يكون هذا الشخص واحداً من المعارف ؟أو ربما هو مختلاً؟
عليها أن تعبر الجسر ، إلى الشاطئء المقابل . هناك كانت العتمة أكثر و خالية من الناس في ذلك الوقت من اليوم . رمت بنظرة فاحصة إلى ذلك الاتجاه: نعم لم يكن هناك شيئا مرئياً في ذلك الظل الداكن . كان يمكن الوصول إلى هناك عن طريق مختصر من جانب آخر . ذلك كان أفضل و كان في المقدور خداعه. لم تكن قد سارت مسافة بعيدة في طريقها، قبل أن تلاحظ بأنه كان الطريق الصحيح ، لانه الآن قد اختفى ، و لم تعد تسمع وقع خطواته من خلفها.
أخيراً، أخيراً، و صلت . وحيدة تماماً ، غيرة مرئية من المدينة هناك وقفت عند الشاطئ ، هناك حيث تتدفق المياه و أمواج البحر تتلاطم مع بعض الصخور. الآن حان وقت التنفيذ.
بتألم واضح نظرت إلى أضواء تلك المنازل الشاهقة وهي تتلالأ على مياه الشاطئ المقابل مع انعكاس بريق خفيف من نور السماء الذي لم يغلب عليه بعد عتمة ليل الصيف المتأخرة، و بعض الانعكاسات الصغيرة من مصابيح الشارع، و الشوارع الفرعية الغارقة في عتمة بنية مخملية. الأرض كان جميلاً جداً—جداً و لكن مالفائدة عندما لا يكون الانسان نفسه سعيداً مثلما هي حالها الآن . كانت فَزِعَة عندما تخيلت بأنها لن تستطيع التنفس واستنشاق الهواء- لكن ذلك التفكير زال سريعاً.
سمعت حفيفاً من أسفل الأشجار . نظرت إلى ذلك الاتجاه . هناك في الغابة يقف شخص . تستطيع أن تُقْسِم بأنه الشخص نفسه الذي كان يتعقبها. لابد أنه سبقها الى المكان و وقف ينتظرها.
كنت أعرف بأنني سوف ألتقي معك هنا ، قال الرجل بهدوء. كان واضحاً بأنه شخص أجنبي ، لأنه كان يتكلم بلكنة قوية. و لكن بصوت خافت هادئ و ودي ، من ذلك النوع الذي لا يثير أية مخاوف.
حتى لو كان شخصاً مختلاً ، فقد يتحلى بروح طيبة .و لذلك أرادت الحديث معه من على تلك المسافة.
كنت تعرف ذلك ؟ ردت قائلة دون أنت تعير اهتماماً. تريد أن يعرف بأنها لم تكن خائفة منه- و هي حقيقة كذلك الآن. ماكانت مقبلة عليه كان قد أخذ جلّ اهتمامها و لم يكن هناك حيزاً للشعور بالخوف.
مشى خارجاً من ظلال الغابة . الإضاءة كانت ضعيفة جداً على أية حال لتلك الدرجة التي لم تستطع أن ترى سوء عينين سوداوين كبيرتين في وجه نحيل، نعم لقد تخيلت ملامحه أيضاً، و تستطيع تمييزها، ملامح شخص جاد ، متعاطف عليها أثار مرارة الصعاب التي مرت عليه.
نعم تابع باللغة المشوبة باللكنة القوية ذاتها، لكنه من ناحية أخرى فقط كان يتحدث بطلاقة. أنت سرتِ من أمامي و رأيتك على أضواء أعمدة الانارة في الشارع و انتبهت بسرعة على ما أنت مقبلة على فعله. و لذلك تتبعتكِ . و قلت في نفسي حتى لو كنت قد أخطأت الظن ، فان ذلك لا يضير.
لا ، إنه ليس مختل العقل ، شعرت بذلك من حديثه ، لم يكن ضامراً لشيء في دواخله, انه فقط مهتم بها. لكن لم يكن لديها أية رغبة في تلقي المساعدة من أحد. لكن على فكرة ماذا يستطيع فعله لمساعدتها؟
من حقي أن أفعل ما أشاء قالت بصوت أجش.
بعد لحظة سوف أذهب ، قال بجدية. لا تظني بأنني سوف أمنعك القيام بما تريدين بالقوة. أريد فقط التحدث معكِ أولاً.
تفضل ، فقط على ألا يأخذ ذلك وقتاً طويلاً، قالت ببرود. و لكن بنفس الوقت شعرت بخذلان كبير و أجشهت بالبكاء.
أمسك بيديها ليس بشدة بل برفق و احترام.
لماذا تريدين فعل هذا؟ قال سائلاً
لماذا؟ لأنني لا أجد مخرجاً آخر للعيش طبعاً.
هل لأن هناك شخصاً تهتمين لأمره و هو لايبادلك المشاعر؟
لا، لا ليس كذلك بل على العكس . هناك من يريدني و أنا من لا أريده!
أولا تستطعين أن تخبريه بذلك؟
لا ، لا أعرف كيف سا أقول له. لا أملك الجرأة الكافية لذلك!
لقد كُنتُ على صواب قال محدثاً نفسه و هو يهزّ براسه.
قلقها السابق بأن يتعرف عليها أحد ما ، عاد اليها من جديد.
كيف لكَ أن تعرف ذلك؟ سألت بحدة. هل تعرفني؟
لا ، لكنني خَمَّنْتُ أن الدافع الذي يجعل أحداً يقدِمُ على هكذا عمل هو في الحقيقة دائماً الخوف، تسعة و تسعون بالمائة من تلك الحالات تأتي نتيجة الخوف المبالغ فيه، الخوف الذي هم بأنفسهم كانوا سيضحكون عليه لو كانوا في حالة صحية سليمة. لأجل ذلك تعقبتكِ ، أريد أن أقول لك بأن لا داعٍ للخوف.
بقيت صامتة . بماذا تجيب؟من ناحية كانت لديها الرغبة لكي تصبح قاسية فَظة- ما دخله في خصوصياتها؟ ومن ناحية أخرى كانت ترغب في الدفاع عن نفسها ليس إلا، و لكن لم يكن لديها أية أسباب مقنعة تقدمها. لو كان بامكانها مثلاً أن تقول بأنه أي العم يوناس: سوف يُقدِم على قتلي! كان كل شيء يصبح واضحاً. لكن الأمر ليس كذلك. العم يوناس لم يكن له أن يقتلها.
ربما ليس هناك داعٍ للخوف ، قالت ببطء. لكنني على صواب!
الآن جاء دوره في أن يسكت ، شعرت و كأنه لا يوافق على ماقدمته من أسباب.
عليها أن تكمل: أريد القول بأنه أحد الأقرباء البعيدين، رجل كبير السن ، أخذ على عاتقه أمر الاهتمام بي بعد أن توفيت والدتي أيضاً. إنه غريب الأطوار و قاسٍ ، و أنا كنت دائماً أخشاه. و لكني بالطبع ممتنة له أيضاً لأنه اهتم بي و تكفلني . خائفة و ممتنة . لا أعرف فيما إذا كنت قادرة على توضيح أسباب معارضتي له.
كم عمركِ؟ سأل الغريب.
أنا بالغة با التمام و الكمال . قانونياً لم يعد له أية سلطة عليَّ. لكني بحاجة إلى الاعتماد عليه، أنا معتمدة كلياً عليه.
كلياً؟ قال الغريب بتكلف.
اقتصادياً أعني ، اذا كان ذلك التعبير أكثر دقة. لو أقوم على معارضة أوامره غداً فبامكانه أن يرميني في الشارع في أية لحظة يشاء .
عندها نترافق ، قال الرجل مبتسماً. أنا في الوقت الحاضر أتجول مثل “مراقب حريق” كما يقال . انه فصل مناسب أريد القول . لو كان فصل الشتاء لكان الأمر أسوأ. تفاجأت و نظرت اليه. حتى هذه اللحظة بالكاد فكرت في وضعه. شعرت بالخجل بعض الشيء. لأنه ربما شعر بأنها تتباكى دون داعٍ حيث وأنها في وضع جيد. ندمت على ثقتها به : من عانى بؤساً سطحياً لا يستطيع بالتأكيد أن يتفهم ذلك الانسان الذي يعاني البؤس في أعماقه. على الأغلب أعتقد بأنه يفكر بأن عليّ أن أقبل راضية بالعم يوناس و هكذا تنتهي المشكلة. المأوى و المأكل أهم أمرين في الحياة لمسكين لا يمتلكهما.
تظن بأنني جاحدة، و غير آبهة بما لديها؟ بمزيج من القلق و الاشمئزاز قالت :
بل من المؤسف أنك خائفة الى هذه الدرجة، قال. ليس هناك ما يستوجب كل هذا الخوف. بامكانكِ الحصول على عمل متى تشائين، تابع قائلاً.
أي عمل تقصد؟ قالت . خادمة في البيوت ربما؟ لأجل اتمام تعليمي يدفع العم يوناس ، و إلا لن أستطيع المتابعة.
لماذا ليس العمل كخادمة في البيوت ؟ أمامك الحياة كلها و حينها تصبحين حرةً . هل أنتِ خائفة إلى هذا الحد من العمل لدرجة أنك تريدين أن تُغرقي نفسك؟
لدي في الواقع تعليم آخر- حصلت عليه قالت بتلعثم مفاجئ، على فكرة أضافت قائلة بسرعة ، ليس العمل بحد ذاته ما يخيفني ، فذلك بالتأكيد أستطيع القيام به …. لكن كل معارفنا …. ماذا سيقولون عني . لا تستطيع تصور ذلك : أنت تظن بأنني لا أملك الشجاعة ، و هذا صحيح ، بمجرد أن يقول أحدهم شيئاً سيئاً عني أفقد توازني. على أقل تقدير لا أريد أن يقول العم يوناس شيئاً سيئاً عني . لا أريده ، و لكنني أريده أن يحبني…. الجميع عليهم أن يحبونني.
لاحَظَت بأن ما قالته قد يُفهَم على أن فيه غباء كبير و ربما كان الأمر كذلك. بيأس مفاجئ انتقلت من حالتها الدفاعية المرتبكة إلى وضعية الهجوم.
لكن من أنتْ ؟ و ماذا تفعلْ؟ سألت بحدة غير متوقعة.
مُعلِم ، أجابَ و هو يهز بكتفيه . أكاديمي ، مؤرخ، فيلسوف. و لكن هذا كله كان منذ زمن مضى . الآن أنا لاجئ فقط.
لكن ماذا تعمل؟ كيف تعيش؟
أنا عاطل عن العمل. غير مسموح لي أن أعمل، أجاب بهدوء. و أعيش على الاعانات. لكنني على قيد الحياة على كل حال.
شعرت و كأنها لُسِعَتْ . أيهما أفضل : أن تفرض شروطاً كبيرة على الحيا ة مثلها. ثم تتخلى عنها لسبب ما ، ربما الآخرين يرون ذلك دون أية أهمية، أو مثله حيث لا يفرض أية شروط وراضٍ بقسمته حتى لتلك الدرجة التي لا يسمح له بالعمل و يعيش على الاعانات؟على أية حال لا يظهر عليه اللامبالاة و قلة الشعور بالتعاطف ، لذا قالت: كثيرون على هذه الحالة في أيامنا هذه ، و كثيرون أسوأ حالاً أيضاً.
هزّ رأسه بجدية و صمت، و هي نظرت إلى عيناه الواسعتين السوداوين وهما تغمضان و تفتحان و كأنه يشاهد رؤئً.
لقد سمعتُ و رأيتُ أشياء فظيعة ، قال الرجل بهدوء . لقد رأيت الكره الذي يجعل من البشر أسوأ من الحيوانات المفترسة ، و من خلف تلك الكراهية رأيت دائماً— دائماً ذلك الخوف الشديد. الخوف هو ما يحوِّل الناس إلى أشرار . لو أننا لسنا خائفين لما كمن في دواخلنا كل هذا الشر.
أحقاً كل هذه الناس خائفة؟ سألت باهتمام. كنت طوال الوقت أظن بأنني الخائفة الوحيدة.
الجميع —-الجميع خائف ، قالها و هو يهز برأسه. الوالدان الخائفين يربيان أطفالاً خائفين.
و أية ثقافة تجري بين الناس اليوم غير تلك المليئة بالذعر و الحذر من الأعداء— و الكراهية للأعداء و أكثر من كل شيء هو الحذر من أن يظن الآخرون بأنهم خائفون جبناء؟ الهواء كله ملوث بسموم الخوف.
لم تستوعب تماماً ما الذي يقصد من كلامه لكنها كانت تحب أن تستمع لحديثه. صوته كان هادئاً ، لكن فيه نبرة من الحزن، و كأنه كان يروي لها حكايات— حكايات مفزعة و مع ذلك جميلة للاستماع، تمنت لو أنه يأخذ بيديها مرة أخرى ليس لأنه رجل وهي امرأة و لكن لأن القرب منه منحها الهدوء و كأنه أباها أو أمها. شعرت بالأمان، حين سمعت صوته.
و لكن تابع قائلاً من هناك حيث الانسان يتخلص من خوفه و لو بعضاً منه يلقى الشفاء.
أنتَ تريد أن يكون المرء شجاعاً، قالت بتباطئ.
لا ، قال بحدة. لا أريد أن يكون المرء شجاعاً. أنا أكره كلمة شجاع لأن هذه الكلمة تم سوء استخدامها كثيراً.
أليس هي الكلمة نفسها التي قولها دائما بمناسبة و بدون مناسبة من قبل هؤلاء الذين يريدون اخفاء جبنهم؟
من كان بحاجة الى التظاهر بالشجاعة فهو خائف. شجاعة ، بطولة غالباً مايكون الوجه الآخر لذلك الخوف القديم. الحرية الطبيعية البديهية الخالية من الخوف تكون عادة هادئة و غير مرتهنة.
الآن بدأت تقريباً تفهمه، لكن ليس من خلال ماقاله و لكن من خلال نبرة صوته و من خلال صورته، في البداية تأثرت و تعاطفت مع حالة الفقر الذي بدا عليه و في الوقت نفسه احتقرته بسبب ماظنته من سوء نوايا لديه. الآن ليس بامكانها ان تفعل أي منهما، انها فقط سعيدة لأنه موجود هناك معها.
وقفت ساكنة و هي تسمع صوت حفيف الشجر من فوقهما ، الحفيف لم يكن مزعجاً و لاغريباً بل كان لطيفاً و كذلك صوت تلاطم الأمواج و تلك البيوت الشاهقة في الطرف الآخر للشاطئ بأضوائها الفريدة. كانوا يتمنون لها الخير مثلما هو أيضاً كان يتمنى لها الخير.
طوال الوقت كان يتحدث بهدوء و بصوت خافت ، الأن انخفض الصوت أكثر حتى أصبح من الصعب سماعه
لأجل ذلك أنا تعقبتك، لأنني كنت أريد أقول لك ذلك .. عني أنا فقد أصابني القدر بكثير من الألم هذا مايراه الآخرون و لكن ما أراه أنا القدر منحي أكثر مما أخذ حيث أزال عني الكثير من الخوف الذي كان لديّ. و لأجل ذلك أحس نفسي مديناً لذلك القدر الذي منحني الشفاء و أضع نفسي في الخدمة- و لا أبقى بدون مهمة على الأرض.
بقيا صامتين، مع حفيف الأشجار و قرقرة المياه.
نعم ، و الآن أريد الذهاب ، قال. لم أقصد أبداً أن أمنعك من القيام بأي شيء.
لكن أنا ذاهب معك لأنني أفهم الآن أنه من الغباء الخوف من العم يوناس و أفهم أنه من الغباء الخوف من اتخاذ الخطوة باتجاه شيء جديد و كم من الغباء الفظيع ان نحسب حسابات جمةً لما يفكر به الناس. غدا ربما أكون قد نسيت هذا
، حينها سوف أفكر بما حصل في هذه الليلة ، ربما أتذكر كل ذلك من جديد.
الاثنين بقيا صامتين، بينما ثابر هو على مرافقتها حتى مدخل بيتها . حينها مدت يدها مودعة و بادرت بسؤاله : هل تظن بأننا سنلتقي مرة أخرى؟
قال اسمه…..
تستطعين دائما السؤال عني لدى الشرطة اذا أردتِ ذلك ،قال الرجل بنبرة حزينة. حينها ربما أكون باقياً هنا أو أنني اضطررت للرحيل إلى ديار آخر. أنا لا أريد أن أبحث عنكِ مرة أخرى فذلك سوف يجعلك تعتقدين ببساطة بأنك ملاحَقَة.
حاولت الاعتراض على ماقاله لكنه كان مصراً.في النهاية صافحها و مضى في طريقه. تركها متعبة من كل المشاعر، فيما هي هكذا تعبة و خاوية من الأفكار فتحت باب المدخل و أضاءت مصابيح الدرج… لمحته و هو يغيب عن الأنظار بعيداً في نهاية الشارع .
سوف أنسى ما جرى تمتمت مع نفسها و هي تغلق باب المصعد . و لكنني سوف أتذكر بأن شيئاً ما قد حدث – شيئاً مميزاً- شيئاً له علاقة بالحياة.
كارين بويه 1900-1941
شاعرة و روائية سويدية
لها خمس مجموعات شعرية: الغيوم 1922، الأرض المخباة 1924 ،المواقد 1927، من أجل الشجرة 1935 ، الخطايا السبعة القاتلة 1941.
خمس روايات : عشتروت 1931 ، ميريت تستيقظ 1933، الأزمة 1934، قليل جداً 1936 ، كالوكائين أو “المصل” 1940 و تعد هذه الأخيرة من أشهر رواياتها و تحولت إلى مسلسل تلفزيوني 1981.
ثلاثة مجموعات قصصية : تسويات 1934، خارج الخدمة 1940، البشارة 1941،القصة المرفقة من مجموعتها القصصية البشارة.
فرمز حسين
كاتب و مترجم سوري
ستوكهولم
2023-01-08