رضوان حسين
“تموزُ” شهرٌ قائظٌ خانقٌ، لا نسمةَ فيه تجوبُ الأفقَ.. تمتدُّ على جانبيّ الطريقِ المعبّدِ بالأسفلتِ الرّديء حقولٌ من السّنابل الذّهبيّةِ الناضجةِ المنحنيةِ من ثقلِ حبّاتها، والتي آنَ وقتُ حصادِها.. الفاصلُ بينَ الطريقِ وحقل القمح الذّهبيّ يبدو كئيباً بائساً وحتّى لو هطلَ المطر فلن تعودَ الحياةُ إليه في هذا العامِ.
في منتصف الطريق على الأسفلت الملتهب يسيرُ رجلٌ متوسّطُ القامةِ، ضيّق المنكبين، يقاربُ الثلاثين من العمر، يسير على الطريق بكسلٍ بخطواتٍ ثقيلةٍ متراخيةٍ، وقد احمرَّ وجهه من شدّة الحرارة، يجرّ وراءه درّاجته الهوائيّة، التي تمزّق إطارها المطاطيّ الخلفيّ ليترك أثراً على الأسفلت الساخن، يلبس ثوباً طويلاً، غاب لونه من شدّة التّعرّق والغبار، لكنّ لونه كان يوماً ما أبيضَ، وقد رفع ثوبه إلى خصره؛ ليظهر سروالٌ بنيٌّ ضيّقٌ.
تابع سيره وهو يجرّ حذاءه المرقّع تارةً، وتارةً أخرى ينشلها منعاً من الالتصاق بالأسفلت الحارّ؛ والسّكون من حوله لا يعكّر صفوهُ صوتٌ، ولا أثر لأيّ كائنٍ حيٍّ؛ فالكلُّ اختبأ من شدّة الحرارة، لم يبقَ لديه من الطاقة شيءٌ يعينه على الإسراع.. وأكثر ما أزعجه هو حذاؤه؛ الذي تمزّقَتْ خيوطه بسبب الأسفلت، لكنّه أكمل سيره إلى أنْ اقترب من النهر المحاذي للقرية، رمى الدّرّاجة على الأرض غير آبهٍ بتدحرج الطّماطم والتّفاح اللّذين اشتراهما هديةً لخالته، ركض تاركاً فردة حذائه ملتصقةً بالأسفلت ورمى نفسه في الماء مبللاً الفتاة الواقفة على ضفّة النّهر، والتي لم تبالِ إطلاقاً ولم تلتفت إلى المذنب حتّى.
خرج “جمعة” من النّهر سعيداً، عادتْ إليه ابتسامته البريئة التي لا تناسب رجلاً في الثلاثين من العمر، فجأةً لاحظ وجود ابنة خالته “جميلة” شاحبة الوجه، بيدها عصاً وهي تنظر في العدم نظرةَ ضائعةٍ، لم يكنْ في عينيها أيّ بريقٍ؛ لا بريق القوّة ولا حتّى بريق الأمل والتّفاؤل، ولم يرَ في نظرتها أيّ أثرٍ للسّخرية المعهودة، لكنّها تتنفّس مثل الأحياء.. لقد فارقتْ وجهَها الابتسامةُ التي تشبه ابتسامته، لو لم تكن واقفةً وتتنفّس لَجزمَ “جمعة” بأنّ ابنة خالته ميتةٌ.. تمتمَ “جمعة”: “ويلٌ للمسبّب عندما ألتقي به..!”.
– “جميلة”.. هذه أنتِ..!؟ ماذا تفعلين في هذا القيظ..؟.
– “العنزات.. أرعى العنزات”.
– أين بقيّة العنزات..؟.
– من الممكن أنْ تكون عادتْ إلى البيت.
لم يبقَ معها غير العنزة “كولي” العجوز، صديقةُ “جميلة” من الصّغر ومرافقتُها، كانوا يسمّونها حارستها الشّخصيّة، أمّا “جميلة” فقد عدّتها ابنتها، ومن ثمّ أمّها، والآن بعدما كبرتْ وغدَتْ عجوزاً جدّتها.
“جميلة” ابنة خالة “جمعة” الوحيدة اليتيمة، مات والدها وهي في يومها الدّراسيّ الأوّل، كم كانت فرحة والدها عظيمةً، عندما أوصلها إلى المدرسة وأوصى المعلّمة بها..
– يا آنسة..! إنّها ابنتي الوحيدة، لم أحظَ من هذه الدنيا إلا بها، أرجوكِ ثمّ أرجوكِ أنْ تهتمّي بها، إنّها ذكيّةٌ جدّاً ونشيطةٌ جدّاً، تساعد أمّها بكلّ أعمال البيت، عندما لا أكون موجوداً، كونها ابنتي الوحيدة لا أسمح لها بالعمل والتّعب.. يا آنسة..! أنا أحترف كلَّ الحِرف؛ من النّجارة والحدادة إلى تصليح جميع أدوات المنزل، أستطيع بناء البيوت الطّينيّة وحتّى الأسمنتيّة.. وأيّ عملٍ تحتاجينه أنتِ أو أهلكِ مستعدٌّ لإنجازه فوراً حتّى وإنْ كنتُ مشغولاً سأتركْ كلّ شيءٍ وأهرع إليكِ… إنّها وحيدتي وكلّ ما أملكُ في هذه الحياة …
– مهلكَ يا عمُّ.. لا تخفْ وكنْ مطمئنّاً ستكون ابنتكَ بأمانٍ.. كلّ التلاميذ بمثابة أطفالي.. لا تخفْ إطلاقاً ستكون بأمانٍ.
– إنّها وحيدتي… وذرفَ دمعةَ فرحٍ وقلقٍ.
– لا تخفْ أيّها العمُّ.. إنّها بأمانٍ هنا.
– سأكون هنا عندما ينتهي دوامها، لا تتركيها تغادر الباحة؛ فقد كثُرَ في هذه الأيّام (الزّعران) على الموتوسكلات، أخاف أنْ يؤذيها أحدٌ وهي تقطع الطريق… مشى عدّة خطواتٍ والتفتَ نحو الآنسة وقال بصوتٍ هادئٍ، حتّى هو لم يسمعْه،: إنّها كلّ حياتي، تابع السّير مبتعداً عن المدرسة، وكلّما ابتعد أكثر التفتَ إلى الخلف أكثر، وهو يحلم بمستقبل وحيدته؛ مرّةً يراها طبيبةً تلبس نظّارةً وفي رقبتها السّمّاعة الطّبّيّة، ومرّةً أخرى يراها معلّمةً حنونةً على جميع التّلاميذ والكلّ ينادونها: (ماما جميلة)، ومرّة مهندسةً، لكنّه لم يكمل إنجازاتها في الهندسة في مخيّلته؛ لأنّ أحدَ (الزّعران) من الذين خاف منهم على ابنته الوحيدة “جميلة”، صدمه وهو يلتفت إلى الوراء، لتكون بذلك مدرسة طفلته آخر ما يراه في هذا العالم، وكان آخر ما نطق به: “يا إلهي، وحيدتي أمانةٌ في رقبتكَ.. احفظْها من كلّ مكروهٍ وأسعدها.. إنّها وحيدتي”، وتوقّف قلبه عن الخفقان.
كبرتْ “جميلة” في كنف والدتها التي حاولتْ أنْ تعوّضها عن فقدان أبيها، وقد نجحتْ في ذلك بعض الشّيء، ولكنّها تتذكّر: “إنّها وحيدتي” كلّما سمعتْ كلمة بابا من أحدهم ، ومع الزّمن استعادتْ “جميلة” ضحكتها السّاحرة السّعيدة، وابتسامتها البريئة التي لا تخلو من السّخرية أحياناً.. عاشتْ فترةً طويلةً بقلبٍ لا ينبض بالحياة، إلا أنّ أمّها أعادتْ إليه الحياة.
عندما بلغت الثّانية عشرة من عمرها، أنهتْ المرحلة الابتدائية وانتقلتْ دراستها إلى المدينة التي تبعد حوالي أربعة كيلومتراتٍ عن مسكنها، وجرَتِ العادة أنْ يستأجر الأهالي سكناً في المدينة لأولادهم لشهور فصل الشتاء الثلاثة.. حاولتْ أمّ “جميلة” أنْ تقنعها بذلك، لكنّها رفضتْ الابتعاد عنها، وأصرّتْ أنْ تسكنا في المدينة سويةً أو ستذهب إلى المدرسة وتعود إلى البيت كلَّ يومٍ..
– يا أمّي إنّني أركض في القرية أكثر بكثيرٍ من تلك المسافة، أمّا إنْ جئتِ معي فأنا موافقةٌ”.
– لا يا ابنتي.. لا أستطيع مغادرة هذا البيت الذي يسكنه حبيبي “أبو جميلة”، هذا البيت الذي عرفتُ فيه الحبّ والحياة، صحيحٌ أنّ حبّي تركني جسداً ،ولكنّ كلّ قطعةٍ في السّقف والجدران والأبواب والطّين والقشّ على السّطح.. كلّ شيءٍ بُنِي بالحبّ، جبَلها “أبو جميلة” بروحه، ألا ترين كيف تعيش على سطحنا اللقالق، وفي كلّ عامٍ تفقس بيوضها طيوراً جديدةً، وهم شركاؤنا بهذا البيت، ألا تسمعين كيف يغنّون لأطفالهم، هل تعتقدين أنّ اختيارهم لبيتنا من قبيل المصادفة..؟ لا يا ابنتي الطيور والحيوانات يشعرون بالحبّ والكره؛ لذا يضعون أعشاشهم على البيوت المبنيّة بالحبّ، إنّني أرى حبيبي قاعداً في مكانه المعتاد وهو يبتسمُ لي ويسألُ عنكِ دائماً، وأراه قلقاً عندما تتأخّرين قليلاً عن موعدِ عودتِكِ من المدرسة، وإذا تأخّرتِ أكثر فأنا واثقةٌ بأنّه يذهب إليكِ ولا يعود إلّا معكِ مبتسماً.
– ابتسمتْ “جميلة”، وقالتْ: وكيف تودّعين ابنتكِ الصغيرة الجديدة “كلي”..؟ ومَنْ سيطعمُها صباحاً ويسلّم عليها بعد الرّجوع من المدرسة..!.
– ستحزن كثيراً، وستبقى بانتظاركِ؛ فالشتاء قاسٍ، استأجري لنفسكِ بيتاً يأويكِ في هذا الوقت من السّنة.
– لا يا أمّي، أنتِ قلتِ إنّ أحبابي وحياتي هنا، وسيقلق أبي، والمدرسة ليستْ بعيدةً.. لن أستأجر وسأحتمل شهور الشتاء الثلاثة..
نادر الحدوث أنْ يكون المرء محظوظاً في أصعب لحظات الحياة، وأنْ يلتقي بذلك الشّخص الذي ينقذ روحه، ويسعف قلبه ليدقّ من جديدٍ، ويجعله يضحك، ويبدأ العيش من جديدٍ.
بدأتْ “جميلة” يومها الأوّل بالذهاب إلى المدرسة بالكثير من القلق، والتّحضيرات، فتّشتْ حقيبتها عدّة مرّاتٍ؛ للتّأكّد بأنّها لم تنسَ شيئاً من الأقلام والدّفاتر، ونظرتْ إلى والدتها بقلقٍ ظاهرٍ.. في الحقيقة هي كانت تنظر إلى أبيها وتتذكّر يومها الأوّل في المدرسة ومقولة والدها القَلِقِ: “إنّها وحيدتي ليس لي أحدٌ غيرها…)، وعندما خرجتْ رافقتْها أمّها.
– إلى أين يا “أمّ جميلة”..؟.
– منذ فترةٍ طويلةٍ لم أزرْ خالتكِ، وفي نفس الوقت أوصلكِ إلى المدرسة في أوّل يومٍ لكِ، وأكملتْ حديثها بصوتٍ ضئيلٍ كأنّها تحدّث نفسها، وإلّا سيغضب منّي أبو جميلة.. ونزلتْ دمعةٌ كبيرةٌ من عينها وسلكتِ الدّمعة طريقها بتأنٍّ وهدوءٍ إلى أسفل خدّها، وتوقّفتْ وكأنّها بانتظار دمعةٍ أخرى.. ليتَه كان موجوداً، وأوصلَكِ بنفسه ورآكِ صبيّةً جميلةً.. هل تتصوّرين عمق سعادته..!.
لم تردّ “جميلة”؛ لأنّها لم تستطع أنْ تظهر لأمّها بكائها، لم يتكلّما على الطريق؛ لأنّ كلَّ واحدةٍ منهما كانت تكلّم نفسها، ولكنّ موضوع تفكيرهما كان واحداً.
عندما خرجتْ “جميلة” من المدرسة وجدَتْ أمّها وخالتها وجمعة بانتظارها على الجهة المقابلة، هرعتْ إليهم وحضنتْهم، وقالتْ لــ “جمعة”: اليوم سأحضنُكَ أيضاً، المدرسة سهلةٌ وفيها معلّمون جيّدون.
خلال السّنوات الثلاث التالية كبُرتْ “جميلة” وأصبحت فتاةً رشيقةً جميلةً، اكتملتْ فيها ملامحُ الأنوثة، وغدَتْ موضع إعجاب الشباب ومحاولات العديد منهم التّقرّب منها، لكنّها لم تبدِ أيّ اهتمامٍ خاصٍّ لأحدٍ منهم، كانت على نفس الدّرجة مع الجميع، تضحك معهم، تعلّق عليهم ببراءةٍ وكأنّها لا تفهم تلميحاتهم، سوى ابن جيرانهم ورفيقها اليوميّ إلى المدرسة “فنر”، لقد تعلّقتْ به كثيراً وتحوّل تعلّقها إلى حبٍّ وزاد حبّها وكبُر يوماً بعد يومٍ، وكذلك أحبّها “فنر”، وفي السّنة الأخيرة بدؤوا بالفعل التّخطيط للزّواج بعد إنهاء تعليمهم.
التحقتْ “جميلة” بمعهد المعلّمين لسببين؛ أنّ فترة الدّراسة فيه هي عامان، وكذلك ستكون قريبةً من أمّها بحيث تستطيع زيارتها وعنزتها كلّ أسبوعٍ.. أمّا “فنر” فقد أكمل التّعليم الثانويّ، ومن ثمّ انتقل؛ لإكمال تعليمه الجامعيّ في العاصمة .
ومرّتِ الأيّامُ وقلّتِ اللقاءات بينهما، ولكنّ ذلك لم يأثّر على حبّهما لبعضهما بعضاً، بل زاد عشقهما إلى أنْ سافر “فنر” إلى العاصمة للدراسة في الجامعة.
عملتْ “جميلة” بعد تخرّجها معلّمةً للصّفّ الأوّل، كانت تستقبل كلّ تلميذٍ، مثلما أراد والدها أنْ تُستقبَلَ في سنتها الأولى في المدرسة، ولأنّها فهمتْ حقيقة أول يومٍ للتّلميذ وهو صغيرٌ وخائفٌ وبعيدٌ عن أمّه في المدرسة، سيرسَخ هذا في ذاكرته، وسيكون ركيزته، فإمّا أنْ يحبّ المدرسة والدراسة أو يكرههما.
في أحد الأيّام الأخيرة من الدّراسة في المعهد وقبل التّخرّج بعدّة أيّامٍ، رأتْ أمامها طائرَ بجعٍ وحيداً ارتفع عالياً، ثمّ عالياً، وبعدها نزل بشكلٍ عاموديٍّ من دون أنْ يفرد جناحيه إلى أنْ ارتطم بالأرض.. ركضتْ إليه “جميلة” بكلّ قوّتها؛ لأنّها أدركتْ بأنّ مصيبةً ما قد حلّتْ بالطّائر الجميل، وفعلاً كان قد تحطّم رأسه الجميل، ورفرف بجناحيه، ليحضن طائراً آخرَ بالأرض ميتاً.. أخذتْهما ودفنتْهما تحت صخرةٍ قريبةٍ من الطريق وهي تبكي، في ذلك اليوم لم تبكِ الطّير فقط، بل بكتْ أبيها الذي فقدتْهُ، ولم تتذكّر غير عبارات الحبّ وشوقها لسندها، ولأوّل مرّةٍ شعرتْ بكلّ حواسّها بأنّها يتيمةٌ..!.
عندما يفقد المرء أحد والديه، يفقدُ جزءاً من روحه معه، ويكتشف بأنّه لم يعطه حقّه، ولم يشبع منه أبداً، وعندما يقع في الحيرة إزاء أمرٍ ما أو يكون في وضعٍ سيئٍ؛ فأوّل مَنْ يلجأ إليه هو أبوه وأمّه، بشكلٍ لا إراديٍّ؛ لأنّهما جزءٌ من كيانه..
حزنتْ “جميلة” كثيراً وعندما قصّتْ لأمّها ما رأتْ، تنهّدتِ الأمّ وقالتْ: هناك بعض الطيور تنتحرُ عندما يموت زوجها، يبدو بأنّ أحداً من أولاد الحرام قد قتل حبيبها.. إنّهم أشدُّ وفاءً منّا نحن البشر، هذه الحادثة حُفِرَتْ في ذاكرتها وأصبحت تقارن نفسها بتلكَ البجعة المخلصة وتقول في نفسها: لا قدّرَ الله.. لا قدّرَ الله… إذا حصل شيءٌ ما لـ “فنر” كيف سأعيش من بعده..؟ لا.. مستحيلٌ أنْ أعيش، تعيد وتقول: ماذا سيحصل لأمّي إذا أقدمتُ على إيذاء نفسي..! ستموتُ إنْ أصابني مكروهٌ.. وروح أبي الذي يرافقُني ويحميني….؟! وفي النهاية تقول لنفسها ما هذه الأفكار السّوداويّة..؟ اللهم احفظْ لي “فنر”.
كانت “جميلة” تحضّر في أوقات فراغها لوازم عرسها، فقد طرّزتْ ستة شراشفَ وأغطيةً للوسائد، والكثير من اللوحات التي زينّتْ بيتها، استخدمتْ لذلك الكثير من أدوات المنزل مثل الإبر والخيوط ومحارم اليدِ لحبيبها نقشتْ عليها رسومات الورود والطيور والجبال.. ولكلّ شرشفٍ منظرٌ خاصٌّ وكتبتْ في الأطراف الأربعة حرفي اسميهما.. أمّا شرشف البجع فقد اشتغلتْ عليه طويلاً، وفي عدّة صورٍ؛ القسم السّفليّ رجلٌ متوحّشٌ بفمِ حيوانٍ مفترسٍ، وعينين حمراوين، وقلبٍ من الحجر، وفي يده بندقيّةٌ تطلق النّار باتجاه الطّيور، الصورة التي في الأعلى قليلاً هي لزوجةٍ واقفةٍ بجانب زوجها المقتول وهي تحاول تقليبه وتفرد جناحيه ليطيرَ، ولكنْ من دون جدوىً، بعدها تخرّ قاعدةً في حزنٍ وتفكيرٍ عميقٍ، أمّا الصورة الثالثة فرسمتْ جميلة ما رأتْه؛ كيف تنزل كصاروخٍ إلى الأسفل، وفي الأعلى رسمتْ قبراً صغيراً على شكل قلبٍ وزيّنته بجميع أنواع الزّهور التي تعرفها.. هكذا تابعت “جميلة” حياتها بانتظار حبيبها وعطلات الدراسة.
“فنر” تابع دراسته في العاصمة وبعد السّنة الثانية، قلّل من الرسائل والزّيارات في العطل الدّراسيّة بحجّة أنّه يعمل مع الدّراسة، وهكذا إلى أنْ انقطعتْ رسائله وزياراته، حتّى علمَتْ “جميلة” بأنّ فنر قد تزوّج وله بنتٌ.. لم تصدّق في البداية، ولكنْ بعد التّفكير وتصرّفاته في العامين الأخيرين تأكّدتْ بأنّه لم يعد يحبّها كما كان، ولكنْ هل تستطيع أنْ لا تحبّه، وأقنعتْ نفسها بأنّ الفتيات في العاصمة لَوَاعِبُ ويعرفْنَ كيف يوقِعْنَ الرجال بحبالهنَّ، وانتهتْ بالتّكلّم عنه وانتظاره ظاهريّاً.. بعد بضعة سنواتٍ رأتْه يلبسُ بزّةً عسكريّةً، كان قد أتى زيارةً خاطفةً لأهله، اللهم احفظْه وسلّمّه.. هذا ما قالتْه في نفسها، ولكنّها انتظرتْ طويلاً ظنّاً منها بأنّه سيأتي أو على الأقلّ سيعتذر منها، وسيقول بأنّه كان مضطرّاً للزواج ومازال يحبّها، ولكنّه مع الأسف رحل من دون أنْ يلقي التّحيّة حتّى، لقد كسر قلبها..!.
على الرّغم من ذلكَ تابعتْ “جميلة” عملها بكلّ نشاطٍ، وعادتْ إلى لوحة البجع تحسّنها وتضيف بعض التّفاصيل إليها حتّى غدَتْ ملامح الصّيّاد المتوحّش تشبه ملامح “فنر”.
رفضتِ الزّواج من جميع من حاول التّقرّب منها، وقالت لأمّها مرّةً: عندما ألحّتْ عليها بأنْ تقبل الزّواج من الشّابّ الجديد الذي طلبت أمّه يدها منها، فقالتْ: نحبّ ألّا نموت حين نفقد مَنْ نحبّ.. فقط نكمل الحياة بقلبٍ يائسٍ مكسورٍ… يا “أمّ جمو” امنحيني بعض الوقت؛ ليُجبرَ خاطري المكسور، صدّقيني يا أمّي لا أستطيع أنْ أتزوّج شخصاً وأجعله تعيساً؛ لأنّ في ذلكَ ظلمٌ له وقلّة أصلٍ منّي..
– وهل سألتِهِ عن سببِ تركِهِ لكِ..؟.
– لا يا أمّي..
– ولِمَ يا ابنتي..؟!.
– لسببين يا أمّي.. الأوّل: لأنّه لم يتنازل أنْ يعتذر على الأقلّ، والثاني: مَنْ يرحلْ سيكون قد جهّز عذره قبل رحيله.. يبدو أنّني أسرفتُ في عاطفتي وحبّي له، وفّقه الله.. أرجوكِ يا أمّي لا تذكري اسمه بعد الآن..
– يا ابنتي.. إيّاكِ أنْ تحزني يا وحيدتي؛ فالحزن يؤذيكِ ويؤذيني..
عاشتْ “جميلة” حياةً هادئةً روتينيّةً.. وعادتْ لها ابتسامتها البريئة وغدتْ تخرج أحياناً للتنزّه مع الفتيات.. وأحياناً مع “جمعة” ابن خالتها المَرِحِ عندما يأتي لزيارتهم؛ تلهو معه وتلعب بالورق شريطة أنْ يحضّر الخاسر الشاي.
في عالم البشر تعمل، تدرس، تكافح، وتتعلّم كلّ شيءٍ وحدكَ وبنفسكَ، لكنّ القسوة والغدر سيقوم شخصٌ آخر بتعليمكَ إيّاها..!.
بعد أنْ قرّرتْ “جميلة” أنْ أقفلتِ على نفسها باب أمنياتها وأغلقتْهُ على حياتها التي عاشتْها حتّى الآن، وأعادتْ إلى وجهها الابتسامة.. في ذلك اليوم تحديداً خرجتْ مع عنزتها العجوز “كلي)”؛ لأنّها الوحيدة التي تفهمها جيّداً وتحفظ سرّها حتّى من دون كلامٍ لتتنزّه قليلاً وتحكي لها كالعادة بعيداً عن عيون البشر ما يحزنها، وتشاورها بقرارها الجديد بأنْ تعيش مثل كلّ الفتيات، وأنّها مازالتْ صغيرةً.. وبشكلٍ مفاجئٍ رأتْ أمامها “فنر” وزوجته وابنته البالغة من العمر أربع سنواتٍ..! نادتْ بشكلٍ عفويٍّ اعتقاداً منها بأنّه قد سمّى ابنته على اسمها، نادتْ: “جميلة” وكان الرّدّ قاتلاً لها، حيث التفتَتْ الصغيرة الحلوة: كيف عرفتِ اسم كلبتنا..؟ والتفَتَتْ إلى أبيها: بابا هذه المرأة تعرف اسم كلبتنا..! من أين لها أنْ تعرف اسمها..؟!.
تجمّدت “جميلة” في مكانها وكأنّ سهماً أو رمحاً اخترقها بالكامل، وقالتْ: “كلي” لنذهب إلى البيت يبدو أنّ الاهتمام الزّائد قد يُفقد المرءَ كرامته، عزيزتي “كلي”: لن تموتي إذا خسرتِ من تحبّين، لكنّكِ ستعيشين كالميّت إنْ خسرتِ كرامتَكِ.
قفلتْ “جميلة” إلى البيت بوجهٍ أصفرَ وعينين فارغتين لا حياة فيهما، منذ ذلك اليوم لم تعدْ تهتمّ بجمالها، لقد أعلنتِ الحِداد داخلها، تعيش مراسم دفنها وحدها، ثمّ تنهض، ترتّب شكلها وتقومُ بما تطلبه منها أمّها.. إنّها تتحدّث أحياناً، وأحياناً أخرى تبتسم، ولكنّها من دون حياة.
– “جمو” (هكذا كان يناديها “جمعة”) الحَرُّ قاتلٌ.. يجب أنْ ترجعي إلى البيت، هيّا بنا..
– آه.. هذا صحيحٌ.. الحمد لله على السّلامة.
– لحظة.. سأجلب دراجتي وحذائي، احترقتْ رجلي.
مشتْ “جميلة” وتبِعَتْها حارستُها الشّخصيّة غير آبهةٍ بشيءٍ.. لحقهما جمعة ظنّاً منه بأنّها تنتظرُه، وقد وقفتْ على الطريق الأسفلتيّ تحدّق في الأسفلت بإمعانٍ..!.
– لماذا توقّفْتِ..؟ لم تردَّ..!.
نظرَ “جمعة” بانتباهٍ إلى البقعة الأسفلتيّة؛ فرأى جملةً مكتوبةً بــ (الطّبشور): “سيصبحُ كلّ شيءٍ على ما يرامُ.. أَمَا علمْتَ ذلكَ..؟!”، قرأها “جمعة” بصوتٍ عالٍ، توقّفتْ طويلاً تنظر إلى هذه العبارة برقّةٍ وحنانٍ، لم تكنْ تريد مغادرة هذه العبارة (الطباشيريّة)، مَنْ كتبَها..؟ ولمَنْ كُتِبَتْ..! ولكنْ هذه العبارة سكنتْ روحها، مثل كمطر الرّبيع على الزّرع العَطِش، يبدو أنّ تأثير هذه العبارة البسيطة أبلهٌ من النّظرة الأولى، ولكنّها مملوءة بالتّفاؤل والابتسامات السّعيدة.. كم أريد أنْ أصدّق ذلك..! كم عظيمٌ أنْ يُهدى الأمل للنّاس حتّى وإنْ كان بالطبشور وعلى الأسفلت.
أحياناً في أصعب وأخطر الأوقات نجد مكاناً للمعجزات.. وأحياناً أعمالٌ صغيرةٌ جدّاً تؤدّي إلى نتائجَ غير متوقَّعةٍ ولا يُقدَّرُ تأثيرها بثمنٍ..!.
نظرت “جميلة” إلى “جمعة” بعينين تشعّان حناناُ، وقالتْ: يا مسكين.. لقد احترقتَ في هذا الحَرِّ.. امشِ امشِ، ونادتْ لــ “كلي” وحضنتْها.. كم اشتقتُ إليكِ..! امشي يا “ستُّ” الجوُّ حارٌّ جدّاً وأمّ “جمو” ستكون قد بدأتْ بالتّأكيد تقلقُ علينا..!!.