شيرين خليل خطيب
احترازاً من حدوث التباس في الأحكام، أريد أن أوضح مسألة منذ البداية، وهي أنني أحترم المثقف والكاتب والمبدع العربي بالمقدار نفسه الذي أقدر وأحترم فيه الشاعر والمثقف والأديب والصحفي الكُردي. أقصد بذلك أن حديثي في هذا السياق لا يعني موقفاً عنصرياً تجاه الإنسان العربي الذي نتعايش معه في بيئة جغرافية واحدة، وتداخلات اجتماعية وتاريخية وفكرية وثقافية مشتركة تجمعنا، بل أنا فخورة وسعيدة بهذا التعايش والتنوع اللذين يزيدان من درجات وَعيِنا وإدراكاتنا ومعارفنا، كما أستثني من أحكامي بحق النموذج المقصود هنا، في هذا المقام، أولئك المثقفين الكُرد الذين ينجحون في التوفيق بين اهتمامهم بعلاقاتهم مع الآخر وبين اهتمامهم بالمبدعين الكرد بالمقدار نفسِه، ولا يُظهِرون تعالياً على الكتّاب الكرد في مقابل خنوعهم للكتّاب من القوميات الأخرى التي لها ولخصوصيتها وهُوِيَّتها كلّ الاحترام.
فحوى الكلام أن ما يثير التساؤل لديَّ كثيراً منذ فترة وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي ومنصاته هو: لماذا نجد كثيرين من مثقفينا الكُرد يتباهون بعلاقاتهم ومعارفهم من الوسط العربي، ويُظهرون أنهم على علاقة قوية مع الكاتب أو الصحفي أو الشاعر الفلاني العربي (مع احترامي لذلك المثقف العربي وانتمائه وخصوصيته)، لكنني هنا إزاء العنصر الكردي في هذه المسألة، والموضوع يتمثل في السعي الدائم لهذا النموذج الكُردي إلى تحطيم ذاته وأناه الفردية والجمعية وتقزيمها والاستخفاف بصورة المبدع الكردي بتجاهله المتعمَّد والتقليل من شأنه وقيمته ومكانته ودوره، وبالمقابل التباهي بعلاقات الصداقة مع المثقف العربي الذي قد لا يرتقي إلى أبسط درجات مستوى الكثيرين من المثقفين الكُرد الذين يغض هؤلاء (المثقفون الكُرد المقصودون هنا) النظر عنهم، فقط ليثبتوا أنهم وحدهم الجديرون بالاهتمام، وأن علاقاتهم مع المثقفين العرب هي التي تستحق أن يتباهوا بها ويتفاخروا، في معادلة يُقصِي منها الاهتمام بنظرائه من الكُرد، ربما خوفاً من أن يزاحمه الكُردي على مكانته وموقعه الذي لا يشعر به إلا إذا استظلَّ بمثقف من وسط آخر مختلف (أكرر تأكيدي على احترامي لذلك الوسط)، أو تعالى على الكردي من بني قوميه ومجتمعه.
هذا النموذج الكُردي، المتباهي بعلاقاته العربية دون أدنى اهتمام بعلاقات كُردية بالمستوى نفسِه، يُعلِي من شأن كِتاب لكاتب عربي أو نتاج لشاعر أو أديب عربي، دون أن يلتفت بجزء من القدر نفسه إلى بني قومه ممن قد لا يقلّون كفاءة وإبداعاً عن ذلك الآخَر، فضلاً عن السخرية التي تبدر من بعض المتباهين بعلاقاتهم تلك، في كثير من الأحيان، من المبدع الكردي الذي يكتب بالكردية أو بالعربية، مع أن المستوى الثقافي والمعرفي لدى الكثيرين من أولئك الذين يتباهى بهم هذا النموذج أقلُّ بكثير من المستوى المعرفي والثقافي لدى المبدعين الكُرد الذين ربما يستحقون اهتماماً أفضل وتقديراً أعظم.
من أمثلة هذا النموذج، بعض الكُتّاب والشعراء والنقاد الكرد الذين يُطلقون على أنفسهم صفة (النخبة)، والمعروفين في الوسط الكردي والعربي معاً، لم يشجعوا يوماً مبدعاً كردياً، ولم يستشهدوا بكتابات أي كاتب كردي على صفحاتهم أو في لقاءاتهم، أسوة بما يفعلونه مع الآخر العربي، إضافة إلى ترفعهم عن الاعتراف بوجود كتّاب كُرد يستحقون الاهتمام نفسَه بل أكثر، حتى على مستوى منشور فيسبوكي، بينما ولمجرد أن ينشر كاتب عربي أبسط منشور مؤلف من بضع كلمات، قد لا ترتقي إلى مستوى أن يُكترَثَ لها، فإننا نجد هذه (النخبة) الكردية تتهافت على المنشور مُعلِقةً بعبارات من نحو: “أيها المبدع العبقري، سَلِمَ قلبك وقلمك، وأدامك الله ذخراً للإبداع..”، في إشارة إلى أنهم يذكرون اسم المثقف العربي بصفة مجردة ومن دون ذكر الألقاب، في إشارة إلى رفع التكلّف بينهما، ليبينوا للوسط الكردي أنهم في تآلف روحي وصداقةٍ متينة مع أولئك المبدعين العرب، بينما قد يكون الواقع أن هذا المثقف العربي ينفر حتى من ردّ سلام هذا المُدَّعي الذي يعتقد بأن الوسط الكردي الثقافي لا يستحق أبسط التفاتةٍ منه.
مثال آخر، وهذا المثال طبعاً يمثل الوضع العام برمته، وغيره ومن يشبهونه كثر، هنالك كاتب ومحلل سياسي كردي معروف، لا يعجبه العجب، ويستخف دوماً بالمثقفين الكرد، أصلاً هو يعتبر بأنه لا وجود لشيء اسمه (مثقف كردي)، بينما نجده في تمجيد دائم لأصغر كاتب من وسط غير كُردي، وأخص منهم كاتباتٍ عربياتٍ، أو رؤساءَ تحريرِ صحف أو مواقع إلكترونية، أو مسؤولين في دور نشر عربية، أو أعضاءَ محتمَلين في لجان (منح وتحصيل) الجوائز، وعندما يتحدث لا نسمع منه غير (رئيس تحرير المجلة الفلانية صديقي، وصاحب دار منشورات كذا صديقي قال كذا وكذا، الكاتبة فلانة صديقتي المبدعة العربية تستحق أن أكتب عنها..). أما إذا وافت المنية أحد الكتاب العرب المعروفين فإنه ينشر مدوّناتِ الرثاء وعبارات التباكي عليه، مبيناً أن “الدنيا من دونه ستغدو يباباً وظلماتٍ”، أو “البارحة تواصل معي المرحوم الخالد وتواعدنا على اللقاء بعد أيام في بيروت أو في الملتقى الأدبي الفلاني.. والتقينا في مهرجان كذا وكذا..”، والحال أن هذا المرحوم الكاتب العربي ما كان على صلة معه بأي شكل من الأشكال.
أما ظاهرة الصور الفيسبوكية، التي التقطها هذا المثقف الكردي (النخبة) مع شخصية ثقافية عربية مشهورة، من مثل الشاعر محمود درويش والمفكر أدونيس والشاعر أنسي الحاج، والتي يتباهون بنشرها على صفحاتهم بين الفينة والأخرى… حيث يهدف هذا النموذج من ورائها فقط إظهار أنفسهم بأنهم أعلى شأناً من الوسط الكردي الذي يخجلون من الاعتراف بوجود نماذج يمكن أن يتباهوا بها أيضاً وينشروا صورهم مع مبدعين من الكرد أيضاً، وهو ما لا يتحقق عند كثيرين ممن يقصدهم هذا الكلام. والحال أنه ربما التقط هذه الصورة مع هذه الشخصية الثقافية العربية الكبيرة بشكل فجائي دون أن ينتبه المثقف العربي أو بإلحاح منه، أو كما يلتقط أي إنسان عادي صورة مع أي شخصية مشهورة، دون أن يكون بين الاثنين أي سابق معرفة. وحدِّث ولا حرج عندما توفي الكاتب الروائي خالد خليفة، حيث اتضح أن كل النخبة الثقافية الكردية كانت على معرفة عميقة به، وكأنهم كانوا ليلاً نهاراً في ضيافته أو استضافته، وكأن المرحوم كان يفتقد إلى إقامة علاقات الصداقة باستثناء (الوسط الثقافي الكردي النخبوي)، حيث كتب هؤلاء ومن دون استثناء على صفحاتهم (لقد فاجأتنا وأفجعتنا يا خالد) هكذا كانوا يذكرون اسم خالد من دون ذكر أي صفة رسمية له في تلميح منهم إلى قوة حميمية وقوة الرابطة التي تجمعهم بالروائي الراحل خالد خليفة.. بينما أؤكد على أنه لو توفي مبدع كردي لَمَا كانت هذه النخبة الكردية المقصودة هنا، تنشر صورته على صفحاتها أو تكتب عنه كلمة جميلة، ولو من باب المجاملة، وهذا ما حدث سابقاً أيضاً.
نهايةً، لا أستطيع أن أطلق تسمية على هذا الوضع أفضل وأنسب من (تقزيم الذات الكردية أمام تضخيم وتعظيم الآخر العربي). صراحةً لِمَ كل هذا ولأجل ماذا وما هي المكاسب المرجوة من وراء ذلك؟! لا أعرف بالضبط، لكنني أعتقد أنه تكمن وراء ذلك أبعادٌ نفسية وتربوية وأخلاقية بالدرجة الأولى.