ماجد ع محمد
بديهي أن خطاب القروي المقيم في المدينة حديثاً لأشخاصٍ ما يزال يلف أماسيهم الظلام، أو حديثَ الشخص القادم من المدن المتطورة جداً لشخصٍ آخر لم يجرب محاسن منتجات توماس أديسون وخاصةً مصباحه الذي ينير عتمات البشرية منذ عقود، سيكون مسلياً ومثيراً وجديراً بأن يهتم المستمع بالموضوعِ وكلُّه إصغاء في حضرة المتكلم، بما أن الذي يتم مخاطبته يفتقر عالمه إلى تلك الأشياء الشبيه بالقصص الاسطورية، من جهة لأن الموضوع يُحرِّض خيال المصغي الماكث أمامه للإنطلاق من كهف واقعه إلى قصورٍ محتشدة بالأمنيات، ومن جهةٍ أخرى لأنه بحاجة ماسة إلى نعمة الكهرباء وإلى كل ما تقدمه تلك الهبة الأرضية من خدمات جبارة، ضرورية ولا غنى للمواطن عنها في هذا الزمن.
أما أن تسرد أمام مجموعة من الناس المقيمين في المدينة التي تجاوزت حتى مرحلة مشكلات انقطاع التيار الكهربائي ولو لدقائق في الشهر كله، فإن الكلام أمامهم عن الكهرباء كالحديث أمام الراعي عن كيفية الرعي وأهمية منتجات المواشي، عندها فبدلاً من الإصغاء للمتكلم ربما يكون حديثه موضوع تندر واستهجان وامتعاض لدى الراعي ومن في حكمه، ليس استخفافاً بالمتكلم، إنما بالمعلومات المسرودة بشكل كاريكاتوري قِبال المختص بالمراعي، وحيث أن الراعي يمتلكها قبله وعلى الأغلب يعرف دقائق أمورها أفضل وأكثر منه، باعتبار أنه مختص بالرعي وشؤون المواشي.
الأمر نفسه عندما تأتي بمعلومات جاهزة من بنوكها كما هي، وتضعها في متناول كل من قرأها من قبل، أو كان هو على اطلاعٍ تام بها، أو قادر على الوصول إليها بلمح البصر، ولا تكتفي بذلك، إنما وتستكثر فوقها على صاحب المادة الأولية ذكر أيء شيء يدل عليه، يخصه هو، متعلق به، وذلك حتى توحي بأنك من اجتهد وغرف مئات الصفحات وجئت تفرش البيانات المستلة من آبار المعرفة العميقة في حضرة ذلك المتلقي الذي تتوقع بأنه من سكان كوكب البلاهة؛ وذلك باعتبار أن الذي لديه خط الانترنت المنزلي أو في المحمول لديه المادة الأساسية المساعدة على جلب الأشياء من أقاصي العالم، وحيث أن الخادم المجاني الذي يقدم خدماته لملايين الناس أفضل وأسرع من مارد المصباح السحري في ألف ليلة وليلة، فمن خلال سباحة محرك البحث عبر الأنترنت قادر على أن يأتي بنفس البيانات مع تفاصيلها الإضافية في الوقت الذي يريده ولو كانت المعلومة قابعة خلف المحيطات.
لذا فإن لم تضف شيء متعلق بحذاقة الصياغة أو جمال الاسلوب، وإن لم تزده من لدنك ببعض المشوّقات المستنبطة من فيض خيالك إلى المعلومات المسرودة، وإن لم تزّنر المادة برأي أو وجهة نظر خاصة بك، وتصور مختلف عن تصورات الآخرين، وزاية رؤية لم ينتبه إليها غيرك، وإن لم تأتي ببيانات ليست في متناول المتلقي كيف سيلقى منشورك الترحيب الحقيقي بعيداً عن التملق والمحاباة ـ الموجود بين الأصدقاء في منصات التواصل الاجتماعي ـ بينما الذي تعلقه على جدارك من منتجات الأولين إذا ما تضمن شيء ما من تلك الإضافات التي أشرنا إليها وقتها ستغدو تدوينتك مفيدة للمتلقي.
أما أن تتسلل إلى صفحات كتابٍ مهجور أو إلى موقع الكتروني وتأتي بمعلومات في قضية ما لا على التعيين وتضعها على حائطك الخاص فما هو المميز والجديد لديك؟ وما هي إضافتك أنت؟ والأنكى من كل المآخذ المذكورة حول لجوء المتعكز على جهود سواه هو ترك التوقيع الشخصي أسفل الرسالة الموجهة للعامة، من يدري ربما ليوهم الصديق المنبهر به بأن الأفكار الواردة في المكتوب أمامه نازلة مباشرةً من قحفه الغني إلى القراء الفقراء الذين كانوا سينامون بلا غذاء فكري ذلك اليوم لولا منشور صاحبنا، وما نراه أن من ليس لديه جميل ومفيد لا مشكلة إذا ما استعان بجماليات غيره، من باب تعميم الفائدة، ولكن ليس من المروءة بمكان أن يلجأ المرءُ إلى نسب منتجات الآخرين لحقله المقفر.
كما أن كمبيوتر كل واحد منا يحوي مئات الكتب، هذا عدا عن الملفات الإلكترونية الموجودة في الهاتف المحمول، وعدا عن الكتب المتوفرة في النت والتي لا يستغرق زمن إنزالها في حضن طالبها سوى لحظات، لذا من المستحسن إذا ما أراد أحدهم أن ينشر زبدةً من بحثٍ أو كراسٍ ما فليكن المستل فيه شيء من إيجازه هو ولا يأتي بالمحتوى جاهزاً من النت مع إغفال اسم صانعها، لأن القارئ بات يعرف مواقع تلك المواد بالضبط وقادر على الوصول اليها، وفضيلتك كقارئ اطلع على الكتاب وأعجب به وأراد أن يشرك الغير باللذة التي شعر بها ويود تعيمم فائدة الذي رآه مفيداً، هو أن يُقدم قراءته الشخصية أو يعرض رأيه بخصوصه، وأن يضع بصمته الذاتية في المادة التي يود تعميمها، لا أن يأتي بطبقٍ جاهز من السوق ويقول للضيوف المفترضين تفضلوا إلى وليمتي، وذلك لأن الأطباق مليئة في السوق وبمقدور أيٍّ كان جلب الطبق الذي يريده في الوقت الذي يريد.
وإذا كان الغجر قد نجحوا في تسويق كل البضائع والأدوات التي كانوا يأخذونها معهم في كل زيارة إلى قرية ماكوندو الخيالية، فليس من المعقول أن ينظر بعض المتعلمين إلى سكان وسائل التواصل الفضائي على أنهم مثل سكان ماكوندو لدى ماركيز كأناس مقطوعين عن العالم الخارجي، وذلك باعتبار أن ماكوندو كانت تعيش في العزلة الأبدية، بينما سكان الفضاء الانترنيتي فهم على تواصل دائم، وحتى إن حاول أن ينزوي أحدهم في حجرته الخاصة فلن يتركه العالم الحديث المكوث لوحده هناك، ولن يسمحوا له بأن يعيش منفصلاً عنهم، وهو نفسه غير قادر على فعل ذلك لأنه بحاجة إلى ذلك الشريان الذي يجعله على قيد التواصل طالما أنهم معه عبر مختلف وسائل الاتصال، لذا ليس من المعقول أن يتصور بعض المتعلمين في هذا العراء المنفتح على الكل، والمتاح أمام الجميع بفضل الأدوات التقنية على أنهم وحدهم الذين يعرفون من أين يستقون المسكوكات المعرفية بينما بقية الناس في الجهل يعمهون، وأن العامة لا تدري عما يجري حولها، ولا يدرك الآخرون ماذا يحدث في العالم غير ذلك الذي يستخف بعقولهم، وبلا احتشامٍ يبيع مياهه في فضاء السقائين.