من دفتر محمد شيخو الفنان الكردي الجريح

إبراهيم محمود

1
من قريته ” خجوكى  Xecokê ” الكردية الجريحة في خريطة جريحة، كانت ولادته الجريحة . لا شارة طريق معلومة تشير إليه، لا صوت يفصِح عنه. لا خبر فعلياً يعرّف به، وباسمه الكردي الجريح. كان محمد شيخو الجريح، يتدرج في مراتب الخريطة الكردية الجريحة ومهب تاريخها العاصف، ويكون بالمأخوذ إلهاماً واستلهاماً من حضوره بليغ الجرح، في مقام البلسم الروحي لأكثر من جرح كردي، حتى بعد رحيله الكردي الجريح.
2
بين ” خجوكى ” القرية التي عاشت ألمَ الكردي الصغير، ليصبح مغنّيه الكبير تالياً، و” خربة عنز ” هذا الاسم الغريب بمعناه، القرية التي ولِدتُ فيها، مسافة كيلومترات معدودات، تقاس بالنظر، سوى أن الألم الذي وسمَ صوت محمد شيخو الكردي الجريح، وكان مدداً ملحمياً لروحه الهادرة، كان لي نصيب كبير منه، في قرية لا تُرى، بجرحها الكبير هي الأخرى، شأن كل معْلم كردي ناطق بجرحه، وهأنذا أسمّي القرية تلك، وأصل ما بين جرحين: الصوت والكتابة.
3
عرفتُه ، عرفت محمد شيخو كرديَّنا الفنان، جريحاً، ربما قبل ولادته، وجريحاً مع الولادة، وجريحاً وهو مأهول بسنين تترى وتترى وتترى، وهي تعمّق في جرحه، وتهبُ صوته المزيد من إبداع الكردي الجريح بأهله وسوى أهله، وجريحاً وهو يودَع موتَه الجريح كذلك. عرفته، قبل أن أعرفه، بشهادة جرح مشترك، ببلاغة ألم مشترك لا نهاية لرصيده الموجع المفجع، عرفته أكثر من أعرَف به بالكلمات، فالجرح الكردي، أكثر من أكبر لغة يشار إليها. وإذ أسمّي جرحه، أحاط بجرحي الذي يفيض على خريطة الكردي النازفة بجهاتها الأربع.
4
بين قريته ” خجوكي ” والقرية التي قيلَ أو يُقال أنني ولدت فيها ” خربة عنز “كان ثمة تاريخ مسطور من الألم، ليتسلسل في قرى متناثرة كما هي ذؤابات الجرح الملتهب الفائض : هرم حسن، خربة غزال، جرنا، كلاوا، بركو، عاكًولى، كَرباوي، خربه، سيهرمكا..إلخ، تشاركتْ في التقاط أصداء جرجه الكردي، وهو يتنقل بوجعه الذي تنامى ليستغرق كامل جسمه، روحه، ليصبح بشهادة أصالة جرحه، وأنا الشاهد بكامل جسمي وروحي، ليصبح ما بات يعرَف حقاً بالفنان الكردي الكبير، طبعاً، وهو مأهول بجرحه الذي يتنفس كرديته، كردستانيته..
5
بين ” خجوكى ” وقامشلو، ما أطول مسار جرحه وأعرضه وأعمقه وأوثقه في إشهار ألمه الذي تلبَّسه بالكامل، وما أقل أقل الذين تجاوبوا مع أصداء ذلك الجرح من كرده المتباهين بأجسامهم التي تعرَف بأثر جرح ما، وبين قامشلو وخجوكى، ما أعلاها سماء جرحه، وأرحبه فضاء صوته المتردد وجعاً كردياً، لقلة ممن رأوا فيه ذاكرتهم المستقبلية المشعة.
6
بين قامشلو المنقسمة على نفسها الكردية، كم تناوبت محمد شيخو مآس بحجم خريطته الكردية الجريحة، ومن قامشلو إلى هولير، حملت أرضه آثار خطاه الجريحة بامتياز، وأودعتْه أوجاعاً أودعها هو الآخر ألحانه الجريحة، وكلماته الجريحة، كما تشهد هولير الجريحة هي الأخرى. جرح يسمّي جرحاً، ويستدرج جرحاً. هوذا الفنان الكردي فنان جرحه الكردستاني بشهادة أغانيه التي تسمّي جهات كردستانه والذي عاشوا جرحاً مشتركاً لا زال ينزف إلى الآن.
7
ومن هولير إلى مهاباد، إلى كل مدينة تتنفس الكردية في محيطها، عظُم جرح محمد شيخو الفنان الكردي، وترددَ صدى صوته الكردي المفلتر بأصالة روحه الكردية إلى كل رقعة، مدينة، بلدة، قرية، جهة كردية، كما يقول جرحه الذي استحال ذاكرة أسطورية لشعب لكم اُستخِف به، لكم لُعِب بمصيره، وزيدَ في التهاب جرحه كردياً بالذات، ليصبح كل ما تلمسه يدا محمد شيخو الفنان الأكبر بجرحه وبصيرة فنه الجريح، مأخوذ ببصمة جرحه. أمعنوا النظر في صوته تروا ذلك.
8
وفي قامشلو، ذات يوم يعلم بأمره، من له شأن بذاكرة جرحه، ناشد محمد شيخو استقراراً، وقد رجع بحمولة هائلة وفظيعة من الآلام والخيبات والنكسات، وما احتفظ بسره، و دون أن يستقر، وأراد التقاط أنفاسه النازفة مكابدات، وهي معمّرة بأوجاع جرحه، دون أن يفلح في ذلك، كما كنت أرى، وأعاين، وكما أكتب الآن، وما كان للصمت المريب من دور في تعميق أثر هذا الجرح والتعجيل برحيله الأبدي، جرحه الذي يشهّر في الذين يعرَفون بـ” أولي أمر ” الكردية.
9
وفي مقبرة ” هلالية ” ذات العراقة، وهي أشبه بجرح كبير ملء السمع والبصر، يشمخ ضريح محمد شيخو بشاهدة جرحه، والمسطور الجريح عليها، ثمة روح جريحة فريدة صوتها، طعمها، رائحتها، لونها، وبصمتها، اسم كردي استثنائي جريح، سوى أن روحه تتنقل في محيطه الجغرافي الواسع والجريح في الصميم، مخلصة لجرحها ما بقيت الحياة..
10
بين محمد شيخو الاسم المجهول بصورته، مجهول الصوت في بدء تكوينه، ومحمد شيخو الفنان الذي لا منافس له كردياً، لأن جرحه علامة فارقة مغروسة في كل مأثرة تخص أغانيه، ومحمد شيخو التاريخ المفتخِر بجرحه، ومنه يعزز كرديته، ينضم إليه صوتي الجريح، بمعنى ما، بكتابة جريحة بكرديتها، بوجه ما، تأريخاً يتاخم تاريخاً، ويحاول تأميمه من كل يد تزعم أنها كردية، لم تدخر جهداً في إيلام الاسم الملحمي، والقوام الفني الفارع، وبناء عليه أوقّع باسمي الثلاثي هنا !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…