مزكين قدري جان يستعيد أباه

إبراهيم اليوسف
 
كنا مجموعة أصدقاء، في بيتنا وبيننا: عبداللطيف عبدالله الشاعر الأديب المربي الذي توقف عن الكتابة في ذروة إبداعه، والمربي الراحل أسعد أسعد وكمال حسن وبهجت سيد سلو وآخرين، قال لنا عبداللطيف ممازحاً: كل منا سيعمَّر كما أبيه ويرحل على طريقته، وراح كل منا يسرد كيفية وفاة والده وعمره عند الوفاة. هذه الحكاية تذكرتها أمس، عقب اتصال هاتفي بيننا والسيدة  زينات دينجر، عندما تأكد خبر رحيل الصديق مزكين قدري جان”1943-2023
 فقد كنت في منزل الصديق صديق شرنخي- أستاذي في الأول الثانوي- عندما تلقى مكالمة من صديقه السيد زنار حاجو يعلمه خلالها بأن  الصديق مزكين قدري جان قد توفى كما أعلمه د. هوشنك عثمان صبري! هكذا من دون مقدمات  ورحنا نتحرى الخبر، من مظانه، آملين أن يكون غير صحيح: عدت إلى هاتفي الذي اصطحبه لأنتبه أنني و أ.مزكين لم نتواصل منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، من دون أن أتلقى إنذاراً عن طريق صديقنا المشترك: عدنان حسن، معاتباً، بل منبهاً:
إبراهيم لم يرد علي اليوم
 فأسرع للاتصال به، وإذ به يريد الاطمئنان علي، أو يطلب رقم هاتف ما، ومن بين ما ركز عليه:
لابدَّ من أن أهتم بأحفادي المبدعين لينتظموا في إطار لغتهم الكردية. أبي معلم الكردية وأحد رموزها ولم يعلمني. يقولها وهو في التاسعة والسبعين، ومن ثم في الثمانين، أحاول أن أدله على سبيل ما، إلا إن ذلك يواجه تحديات ما؟
كما أن د. هوشنك صبري يغمرنا بوده كل صباح- تقريباً- من خلال بطاقاته، وقراءاته، ومتابعاته، ولم يعلمني بذلك!
وسبب تذكري لحديث صديقي عبداللطيف هو إنني وأ. صديق شرنخي عندما كنا في لجة تحري الخبر من بعض  المقربين. يتصل هو بهوشنك أوصمان صبري وأتصل أنا بزينات دينجر ابنة شقيقة مزكين. د. هوشنك يؤكد الخبر، أسأل زينات: ما أخبار خالك تقول لي:
مرت فترة ما لم يتصل بي، هو بخير. طلبت منه أن يأتي ويسكن عندي فرفض
لم أرد أن أشعرها أنني أحمل خبراً سيئاً، إذ بدأنا نتحدث عن أحوال خالها، وأنا أتمنى في قرارتي أن يكون النبأ غير صحيح، تسألني:
هل وصلتك المجلة التي أصدرها مركز أو متحف الأديب الشاعر  قدري جان” 1911-1972″ في في ديركا جيايي مازي؟ أجيبها: أجل. إنها في مكتبتي
أعود إلى البيت، وإذا بسيدة فاضلة يبدو أنها قد نذرت نفسها هي وزوجها لمؤازرة أ. مزكين في السنتين الأخيرتين- وهو ما لم أكن أعلمه من قبل- قد أرسلت إلي رسالة صوتية مهدت فيها بذكاء لحقيقة نبأ الوفاة، لأتصل بها وأتبين التفاصيل:
اخترت أسماء في دفتر عناوين هاتف العم مزكين دأب على التواصل معها، وأنت من بينهم. ها أنا أعلمكم بحقيقة ما تم. فقد التقط عمو أبو جوان فيروس كورونا، وأسعف إلى  أحد المشافي في مدينة ليتن بيرغ.  لقد قال لي قبلها. أشعر بألم في لوزتيَّ وهناك أصيب بجلطة دماغية، و تأزم وضعه الصحي، ثم راحت تتحدث في تفاصيل التدابير التي اتخذها المشفى لمعالجته، من دون جدوى:
زرته في المشفى أول أمس. ليلة رحيله. أمسك بيدي. أنا سعيدة لأنه عرف أنني وفية معه. إنه في مقام أبي. لقد قال عني لإدارة المشفى كذا وكذا، وهذا دليل على إنني كنت في باله وها هاتفه في يدي اتصلت ب:  هوشنك صبري. باثنين من آل كيكي وبك، وسأتصل بآخرين. أهالي أوزرلون سيجتمعون اليوم للسعي في شؤون دفنه قرب أميمة، وسنفكر بأمر العزاء
 إن وافقتم نقيم العزاء عندنا في مدينة إيسن بإشراف الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد
أنا موافقة على ذلك ولكنني سأعرض الاقتراح على أصدقاء له في مدينتي السابقة
بعد اتصالي بزينات، يتصل الصديق عدنان بها للاستفسار عن حقيقة ما سمعه مني، ما يجعلها تتلقى النبأ الصادم، بحزن لتتصل بي هاتفياً كي تتأكد، وأقول:
أجل النبأ الأليم صحيح، وا أسفاه!
فترد علي بألم مرير:
إنه قضى غريباً كجدي. كأبيه، وتعني الشاعر الكبير”قدري جان” الذي توفي في دمشق ودفن في مقبرة مولانا الشيخ خالد بعد فراره وصديقه رشيد كرد من مدرسة دار المعلمين في قونية، إلى عامودا، إثر ملاحقتهما من قبل السلطات التركية،  نتيجة موقفهما ضد مظالم الكماليين بحق شعبهما الكردي، واستقبال جكرخوين لهما هناك، في سبيل خدمة رسالتهما، وثقافة شعبهما. تذكرت- هنا- أنه توفى نتيجة جلطة دماغية تعرض لها كما والده، وهذا ما ذكرني بحديث أ. عبداللطيف.
 لقد كانت صدمته جد كبيرة برحيل رفيقة دربه  أميمة أمان خان. ابنة حمص، في ذروة مرحلة  انتشار وباء كورونا، والتي تعرفنا إليها أنا وحفيظ عبدالرحمن في زيارة لنا إلى بيتهما، بصحبة صديقنا عدنان حسن، المرأة الطيبة. التي نذرت حياتها حتى اللحظة الأخيرة لرفيق دربها.نتصل بها متى انقطع أ.مزكين عن الرد:
إنه بخير
إنها بخير
يقول هو أنى تواصلنا
في زيارتنا- هذه- إلى أوزرلون، لمسنا محبة جميع من حوله له: الكرد- السوريين- العرب- الألمان- بعض أبناء الجنسيات الأخرى. في الشارع. في المطعم. فقد خدمهم جميعاً، وما من لاجئ قدم إلى مدينته- لاسيما في مرحلة ما بعد حرب سوريا- إلا وعرفه. عرف دوره. وكان أ. مزكين قد قدم له خدمة ما. هو وزوجته التي أصيبت بالسرطان، وواجهته لسنوات
سردت لي السيدة الحمصية التي وقفت إلى جانبه، في مرحلة مابعد وفاة زوجته:
لقد اضطررت لترك مدينته مع أسرتي، ما جعله يتخلى عن بيته، ويقيم في دار للعجزة.
لم أكن على علم بتركه لبيته في 27-6-2023 وتسليمه للبلدية، واختياره هذا العنوان، فقد ظل يتواصل وكأنه في البيت ذاته
 كان قد قال: أنا جد مرتاح هنا.  فقد التقاه في تلك الفترة د. هوشنك الذي قدم من برلين إلى بوخم ولم يتسن لي اللقاء به، كما كان قد أوعدني من قبل، فقد رآه د. هوشنك وهو في وضع صحي مستقر.
أكثر من مرة زار الراحل مزكين مدينة إيسن، برفقة صديقه أ. عدنان. مرة عندما قمنا بتوزيع جوائز قدري جان للإبداع  2020، ومرة في مهرجان ذكراه الخمسين في -2022. الحفلين اللذين أقمناهما في- جمعية هيلين- وألقى في أحدهما كلمته المطولة عن سيرة والده. هذه السيرة التي تستحق أن تكون موضوع كتاب كما طلبت منه، مراراً، وكان يعدني، ولا أدري ما حل بالفصول المنجزة منه!، كما وأقمنا ندوة حول الشاعرقدري جان في قناة بيف في 18 أغسطس 2020
ولعله كما زينات قد عول الكثير على الدراسة السيرية التي اشتغل عليها الصديق أديب جيلكي، وكان للصديق دلاور زنكي الفضل الكثيرفي تسليط الضوء على سيرة قدري جان.
كان لمزكين الذي أوفد إلى موسكو لدراسة الهندسة في العام 1961- وعاد إلى دمشق في العام 1966، ليعمل في وزارة المواصلات حتى العام 1978، قبل سفره إلى ألمانيا، دور في الحفاظ على أرشيف والده الذي نشر تباعاً، في كتب، باعتبار أن أباه لم ينشره في حياته بل اكتفى بنشره في كبريات المنابرالكردية مع البدرخانيين وغيرهم في: هوار- روناهي و ريا تزه وغيرها، وذلك بمساعدة عدد من المقربين والأصدقاء والباحثين، كما إنه كان مشروع كاتب وإن أشغلته السياسة عن الكتابة فقد أصدرفي العام 1974 كتاباً بعنوان:
رحلة في مملكة الشطرنج
ومن يطلع على بعض كتب مكتبته التي أهداها للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، يدرك أي أنموذج ثقافي رفيع متابع كان هذا الناشط والمثقف، فهو والد الكاتب المسرحي جوان جان وجد عدد من الفنانين، وإن كانت أسرته تتوزع مساحات متباعدة من خريطة العائلة، ما يجعله يقضي أيامه الأخيرة وحيداً، قلبه على أحفاده. أصدقائه.
مؤلم أنني تعرفت عليه، في سنواته الأخيرة، بعد أن وهن، وتعب، وكان يمني النفس باستعادة صحته، ليكتب في الكثيرمن الموضوعات لاسيما التي تهم سيرة الأسرة  النبيلة!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…