الشّلّــة الثّقافيّــة بوصفهـا امتداداً لـ(المافيا الثّقافيّـة)

أحمـد عزيـز الحسين 

     أمستِ (المافيا الثّقافيّة) متجذِّرةً في كل البلدان بوصفها آليّةَ عملٍ ورؤيةً للحياة والكون، وماعاد من الممكن أنْ يسلم من شرورها أحدٌ، وتسلّلتْ بأشكال مختلفة إلى البلدان والمواقع الثّقافيّة متّخذةً أقنعةً متعدِّدة ومسمَّياتٍ مختلفة. وليست (الشّلَّة) أو (الثّلّة) الثّقافيّة سوى شكلٍ من أشكالها؛ إذ ما إنْ يتسلّم فردٌ فيها مسؤوليّةً ثقافيّةً ما حتّى يجمع حوله أصدقاءه ومريديه وأنصاره، مكوّنين مجموعةً مغلقة تتبادل المصالحَ والمنافع ضاربين عرضَ الحائط بالمبادئ والقيم التي يرفعونها، ويدّعون الذّودَ عن حياضها.
     وما أكثرَ الشُّلَلَ الثّقافيّةَ المنتشرة في الوطن العربيّ، وما أفدحَ تأثيرَها في حياتنا الوجدانيّة والثّقافيّة؛ وقد أمستْ داءً وبيلا من الصعب كشفُه، أواسئصالُ جذوره، وأصبحتْ عقبةً كأداء أمام تطوير آليّات الفعل الثّقافيّ أوالتّنويريّ، رغم ادّعاء أصحابها الدِّفاعَ عن القيم الأخلاقيّة، والمثل الجماليّة العليا. 
     ومن مظاهر تموضُع (مفهوم الشّلّة) في حياتنا الثّقافيّة احتكارُ النّشر في الموقع الثّقافيّ الذي يديره أحدُ أفرادها، ونشرُ أيّ نصٌّ يكتبه أحدهم، وتقديمُهُ على أيّ نصٌّ آخر صدر عن مجموعة مغايرة، والإقبالُ على قراءته ونقده، والاحتفاءُ به بوصفه نصّاً متميِّزاً، مع أنّه قد يكون في منتهى القبح والابتذال، وهذا ما يُفضي إلى نشر قيم الرّداءة، والتّعفُّن، وتسطيح الوعي، والتّسفُّل الجماليّ. 
     وقد قامتْ مجلةً (الناقد)، التي أسّسها رياض نجيب الرّيّس في لندن قبل ثلاثة عقود ونيّف، بتخصيص بابٍ لفضح النّصوص الرّديئة التي كانت تُنشَر في الدّوريات العربيّة، والكشفِ عما فيها من ابتذالٍ فنيّ وقبحٍ جماليّ سمّته (دليلَ النّاقد إلى الكتاب الرّديء)، ونشرتْ فيه نماذجَ ممّا كان يُرَوَّج له بوصفه نصوصاً فائقةَ القيمة والجمال، وكشفتْ عمّا كان يختزنه من إسفافٍ فنيّ وابتذالٍ جماليّ ذوداً عن حياض النّصّ الجيّد الذي كان يلقى منافسةً كبيرةً من النّصوص الرّديئة.
     واليوم يغصّ الفضاءُ الأزرقُ، ولاسيما الفيسبوك، بنصوص متدنّية فنّيّاً حتّى لأقلام معروفة، وحين يخطر لناقدٍ ما الكشفُ عمّا في هذه النّصوص من ضعفٍ فنيّ وقحطٍ جماليّ ينبري أصحابه للدّفاع عنه بكل ما أوتوا من قوّة وفصاحة بلاغية، وعبارات إنشائيّة، ويحشدون لذلك كلَّ ما لديهم من حجج ناريّة وأنصار مفوَّهين، مدّعين الذّودَ عن قيم الجمال والجلال، مع أنّ نصوصهم تزخر بنقيض ذلك. 
      ومع أنّ مفهوم (الشّلّة) يرشح بالتّعصّب والتّطرًف، وينبذ الاختلاف والرّأي الآخَر، ويشي بالانغلاق على الذّات؛ إلّا أنّه لم يكن كذلك دوماً، فقد شهدنا في عصر النّهضة تشكُّلَ مجموعاتٍ أدبيّة مهمّة لعبت دوراً تنويريّاً مهمّاً في حياتنا الثّقافيّة العربيّة، بدءاً من مجموعة طه حسين، ومروراً بمجموعة العقّاد، ومي زيادة، ونجيب محفوظ، ووصولا إلى مجموعات مجلّات أدبيّة، وملاحق ثقافيّة مهمّة كـ(أبولو، وشعر، ومواقف، والآداب، والفكر العربيّ المعاصر، وملحق الثّورة الثّقافيّ (الذي أداره الشّاعر السّوريّ محمّد عمران)، وغيرها من المجموعات الثّقافيّة المهمّة التي كان لها دورٌ في إثراء حياتنا الثّقافيّة والأدبيّة والفنيّة في القرن الماضي، كما لعبت المجموعة الثّقافيّة دوراً كبيراً في وضع مداميك وأسس الثّقافة العالميّة، وفي ضخّ دماء جديدة في الأدب والنّقد العالميّ، وفي مقدّمتها مدرسة فرانكفورت التي تمّ إنشاؤها في عام 1923، وتألّفت من كوكبة من علماء الاجتماع هم : ماكس هوركهايمر، وهربرت ماركيوز، وتيودور أدورنو، وإيريك فروم، وجعلت من جملة أهدافها “معرفة وفهم الحياة الاجتماعيّة في مجملها من القاعدة الاقتصاديّة إلى البنية الفوقيّة المؤسَّسيّة والتّصوريّة”، وحرصت على “جعل عملها مستقلا عن الاعتبارات الحزبيّة والسِّياسيّة”، ونأت بنفسها عن عقد أيّة روابط تنظيميّة مع أيّ حزب سياسيّ، ومن هذه المجموعات الفعّالة أيضاً مجموعةُ الشّكلانيّين الرّوس التي ازدهرت في الفترة الواقعة بين 1915 و1930، وتألّفت من أسماء مهمّة في حقل النّقد الأدبيّ الحديث، منها شكلوفسكي، وتنيانوف، وإيخنباوم، وجاكوبسون، وانصبّ اهتمامُها على كيفيّة القول لا على ما يقال، وعلى تحليل الأشكال الأدبيّة والبنيات الفنّيّة، وعلى إغناء معرفتنا بالتّقنيّات الأدبيّة، وعلى انتزاع الأدب من براثن الأيديولوجية، وقد ترك أصحابها أثراً كبيراً في النّقد الأدبيّ العالميّ، امتدّ إلى مدارس نقديّة أخرى كالمدرسة البنيويّة، وأسهم في بلورة وعي نقدي حداثيّ لمنظِّرين عالميّين كبار من أمثال ميخائيل باختين، ويوري لوتمان، من حيث إنّه مدّهما برؤية جديدة إلى النّص الأدبيّ، وآليّة وصفه وتقويمه، والحكم عليه، ولاتزال لهذه المجموعة آراء نقديّة حصيفة تؤثّر في آليّة تذوُّقنا للنّصّ الأدبيّ حتّى الآن.
      وشخصيّاً، آليتُ على نفسي الكشفَ عن قيمتي الرّداءة الفنيّة والقبح الجماليّ في ما أكتبه من مقالات نقديّة أو تعليقات على الفيسبوك، ضارباً عرض الحائط بشهرة أصحابها مهما تكن علاقتي وثيقةً بهم، وقد كلّفني هذا إغضابَ بعضهم، ومقاطعة بعضهم الآخر، غير أنّني لم أكترث بما حدث؛ ذلك أنّ الأولويّة عندي للنّصّ المتميّز لا لغيره، وسيظلُّ الأمرُ كذلك ما دمْتُ قادراً على الكتابة وطرح وجهة نظري في ما أقرأ وأتذوّق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد سوريّ

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…