زيارة إلى سعيد ريزاني

عبداللطيف الحسيني

“أغنيةٌ جميلة للفنّان سعيد ريزاني من مقام الراست مع انعطاف لحظيّ إلى مقام آخر. اللحنُ مناسبٌ لكلمات الأغنية، والمساحة الصوتية تقع ضمنَ الأوكتاف (الديوان) الواحد بشكل عام. الآلات الموسيقية مناسبة للأغنية ذات الطابع المألوف”.
ـ الدكتور محمد عزيز زازا.
 إنّه صيفُ عامودا عام 1980 يُشطف شارعُ البلدية و يُرشُّ بالماء ليوحي بأنّه الصيفُ الربيعيّ…إيذاناً ببدء المشاوير وخطف هذه الساعات دقيقةً…دقيقة.
فليكن….سعيد ريزاني سيمرُّ من هنا مَرَحاً….مَلِكاً، ومَن حولَه كواكبُ متمرّدةٌ درّبها سعيد على كلمة “لا” وإن كانت”نعمُ”…فلولا الحياءُ…لكانت “نعمُه…”لاءً” في كلّ شيءٍ….اسماً وكنيةً وعزفاً ولحناً ورسماً….ولتذهب الخلافةُ إلى أسفل الجحيم…وتُرجم. فقد ضاعت الخلافةُ بين الدفِّ والعود…العود الذي رافقَ سعيد إلى تغريبته الأخيرة في زمهرير السويد و ثلوجها.
أتذكّر حرصَه على العود ونحن نودّعُه في بهو مطار دمشق الدوليّ قبل أكثرَ من ثلاثة عقود،كان يحتضنُ عودَه…كأنَّه روحُه بينَ يديه…..رفيقُ دربٍ في خيانة الزمان وغربة المكان.
فلأذهب إلى قبل عشرين سنة لابنة عمّنا سنيحة متسائلاً عن لوحةٍ…أو لوحات لسعيد لأحتفظ بها..أو لأكتب من وَحْيها نصّاً…أو لأتباهى أمامَ أصدقائي مُغترّاً بأنّي أمتلكُ لوحةً …أهداني إياها سعيد.
فَرِحةً…مبتسمةً منحتني أثراً وحيداً…باقياً لسعيد.
بقيت تلك اللوحةُ تزيّنُ غرفتي الترابيّة بعامودا عشرَ سنواتٍ…ثمّ افتقدتُها منذ عشرِ سنواتٍ أيضاً…كما نفتقدُ دوماً اﻷشياءَ الثمينةَ.
قلتُ ..فلأذهب إلى ياسين حسين بكردستان العراق.
أرأيتم كيف طوّحت بنا الدنيا؟
أرأيتم كيف أطاحت بنا الدنيا؟.
“من أجل عينيكِ بتُّ هائماً ..مهاجراً، ومن شفاهكِ …..معاناتي، ما ألذّ النومَ فوقَ عتبةِ روحكِ”
:”أنتَ شاعرٌ وعازف…أعرفُكَ” قالها له سعيد ريزاني بعدَ أن طلب ياسين رفقتَه في أحد شوارع عامودا…في حلم ليلة صيف.
خصّصَ أحدُ أصدقاء سعيد غرفةً ترتاح فيها لوحتُه ….وحيدةً أهداها له سعيد بمناسبةٍ…أو بدونها، وما زالت الغرفةُ تحتفلُ باللوحة منذ أربعة عقود…تُنظّفُ اللوحةُ كلّ عامٍ كما ينظّفُ أيُّ حجر مقدّس أوتمثال مبارك أو أيقونة مشرّفة.
إنّها الأثر الباقي لسعيد ….فيها تخضرُّ أنفاسُه وتورقُ ألحانُه وضحكتُه.
يا ضحكتَه …ويا تغريبتَه..يا لحنَه الباقي !
أستمعُ إلى أغنيته متجهاً بقطار برلين إلى هانوفر أرى بجواري فتاةً تلبس قميصاً برتقالياً شفّافاً وتنتعلُ خفّافةً بيضاءً ..رياضية وتقرأُ كتاباً باللغة العربيّة.
يا لفرحي…أما زال مَنْ يقرأُ كتاباً ورقيّاً ؟
كأنّي ماركيز …أرى تلك الفتاةَ المتجهةَ إلى نيويورك من مطار ديغول في فرنسا.
…..
تقرأُ عيناي الكليلتان اسم سعيد ريزاني نافراً ومكتوباً باللغة السويديّة، ضغطتُ زرَّ الباب…يفتحُه المضيفُ الغريبُ…للضيف الغريب…يتبادلان التحيّةَ على عجلٍ…لا يعرفُ أيٌّ منهما الآخرَ.
غريبٌ التقى بغريبٍ جمعتهم الحياةُ….صدفةً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…