إبراهيم محمود
كان يوماً جميلاً ” الثلاثاء 5-12/ 2023 “، يعزّز نشاط الروح، حيث الموعد مع مركز لالش الثقافي والاجتماعي، لتقديم محاضرة حول الموسوعة المصغَّرة المعنونة بـ ” دراسات الأوربيين عن الإيزيدية ” في ثلاثة أجزاء ، بمجموعة صفحاتها التي تتجاوز الـ ” 1500 صفحة” والصادرة عن مركز ” لالش الثقافي الاجتماعي “، في دهوك، والتي أعدّها وقدَّم لها باحثنا الكردي الإيزيدي المعروف: داود مراد ختاري، صاحب عشرات المؤلفات بشأن الإيزيدية. وفي المركز الثقافي في ” بعشيقة ” وهي مسافة لا يُستهان بها، تستغرق أكثر من ساعة ونصف، يضاف إلى ذلك أن المنطقة تخضع للسلطة العراقية.
لقد كان هناك متعة لا تخفي، للمضي صحبة الصديق الباحث ختاري الذي يعرف المنطقة وأهلها جيداً، فهو مقيم في قريته اللافتة ” خارى ” بوساعة حدودها وامتداد رقعتها العمرانية، وأبنيتها الحديثة، رغم أن شوارعها تحتاج إلى الكثير من التحديث توسيعاً وإصلاحات بالمقابل.
وهكذا انطلقتُ صحبة الأخ ” حقّي ” سائق بيكآب ” دوبل كامين ” ويعمل في ” مركز لالش الثقافير والاجتماعي – دهوك “، والذي استأنست معه كثيراً بطيبته ومعرفته للطريق، وهو ” ابن شاريا ” القرية الإيزيدية ذات التاريخ والحضور الديموغرافي بالمقابل، والتي عاشت مأساة الإيزيدية عن قرب إثر تعرض المنطقة وإيزيدية ” شنكّال ” والجوار للغزو ” داعش ” في مستهل آب 2014 .
كانت الساعة الثانية ظهراً، حيث تغدَّينا سريعاً في ناحية ” فايدة ” لنقطع الطريق الطويل، ونصطحب باحثنا ختاري وهو ينتظرنا في قريته، ثم نعبُر الخط الفاصل بين إقليم كردستان والحكومة العراقية، ونصل في الموعد المحدد .
عانينا من الطريق الذي يحتاج هو الآخر في الكثير منه إلى إصلاحات، ولكن السير فيه للمرة الأولى، كان بالنسبة إلي فرحة اكتشاف، ومكاشفة ومحاولة التقاط الصور على جانبي الطريق، وتخيل الماضي الذي كان، ومسرح جرائم داعش كذلك.
الحديث الذي تشعب مع الصديق ختاري حول أمور ثقافية خاصة وعامة، وهموم المنطقة، وجوانب مجتزأة من تاريخها، والقرى المتناثرة فيها، وصور المرشحين للانتخابات البرلمانية، إلى جانب أمور شخصية وحالة الثقافة وتصريفاتها، كان عاملاً في ” فلترة ” الوقت.
وصلنا في الوقت المناسب تقريباً” مع بعض التأخير “. كان هناك حضور جميل في الانتظار، في باحة المركز، حيث الأرضية معشوشبة، مع شجيرات خضراء تبهج الرؤية، وتحيط بالمكان.
الاستقبال، حقاً، كان باعثاً على التقدير. فالرؤية الأولى لها مكانتها، حيث المصافحة بحميمية، بث ألفة في الحال، والحضور الذين كانوا منتظرين إيانا، عامل مهم في الانفتاح على المكان.
وما يجدر ذكره، هو أنه كان هناك حضور آخر في الداخل، على صلة بالانتخابات، ولولا ذلك لكان هناك حضور أكثر، حيث التحق البعض منهم، وأسهموا بالمناقشة في حدود الإمكان .
مع المحاضرة:
بعد الترحيب كان تقديمي، من قبل الأستاذ رعد طارق الياس رئيس مركز لالش الثقافي والاجتماعي، في ناحية بعشيقة. وجاء تقديمي، كذلك، من قبل الباحث ختاري، متناولاً جوانب ثقافية شخصية، حيث المعرفة الشخصية تكون عن قرب، ليترك المجال لي كي أتحدث إلى الحضور المحفّز على إلقاء المحاضرة حيث ارتجلتها.
إثر الترحيب، نوّهت إلى أن قراءة الكتاب لقاء المستقبل، رغم أنه يذكّر بماض معين، سوى أن القراءة تمضي مع الكتاب إلى الآتي. ولكل كتاب وضعيته الخاصة، طقوسه، معززاته النفسية، وتبعاً لطبيعة العلاقة .
وما نحن بصدده، أي ” دراسات الأوربيين عن الإيزيدية ” يتطلب المزيد من التركيز. إنه مكتبة مختصرة، ومن جهة الباحث ختاري، تقوم علاقته بالموضوع على الإعداد والتقديم، والعملية ليست سهلة، لأن مجرد فتح الكتاب وقراءة فهرسته، والمضي في تقليب صفحاته، كل ذلك يظهِر ذلك الجهد الكبير الذي بذله. وأكثر مما تقدم: ما كان يعانيه، ككردي إيزيدي، وهو يبحث في هذا المصدر أو ذاك: كتاباً، بحثاً، أو مقالاً، ويقف عنده، في لغات شتى، وفي كل ذلك حضور للإيزيدية، ومعاناتها في التاريخ، ومدى قدرته على تحمل الوجع، وهو يقرأ ويقارن، ومن ثم يحدد ما يمكن اقتباسه، ومن ثم وضعه في سياق منتظم، ليكون له معنى أكثر إيفاء بالدلالة .
أشرت إلى أنه في المستطاع اختيار أي عنوان وقراءته على حدة، أو بدءاً من الجزء الأول، وهذا يضفي على الموسوعة هذه طرافة، وقدرة على إقامة علاقة أكثر إيجابية وإيفاء بالقيمة .
إنه تاريخ طويل يستغرق قروناً بالنسبة إلى الموضوعات ومحتوياتها، بجغرافيتها وتاريخها، سوى أن الحضور المسمى هنا، هو حضور الإيزيدية، وتلك المشاهد المتنوعة التي تظهِر جانب الويلات التي تعرضت لها، وتلك المخاوف التي تعيشها ، حيث التاريخ المعاصر لنا ” آب 2014 ” يشهد على مثل هذا الخوف المشروع.
سوى أن قراءة الأجزاء الثلاثة تقدّم فكرة مركَّبة، ومعرفة متعددة المصادر، عما هو إيجابي وسلبي، والفائدة في الحالتين، وتقوي روح المتابعة ومقاومة كل التحديات .
إن ما قاله أحدهم، وهو أن ” الآخر سر، لأنه آخر ” والكلام للمفكر الفرنسي دريدا، يركّز على حق الآخر في التمايز، في الخصوصية، في احترامه من موقع الاختلاف. وللإيزيدي ما يشهد به على الجاري في الاتجاه المعاكس تاريخياً، ولهذا اختلاف الكتابات عنه، وما أكثر مآسيها.
الإيزيدي هو الموضوع وهو لحمة الحديث وتنوع أصدائه، وهو الذي يشكل استثناء دينياً: ليس هناك ما يشبه الإيزيدي في عقيدته، وما يخصه في واقعه الاجتماعي، وتاريخي، ولهذا كان مادة متشعبة للذين يعرفونه عن قرب، وممن يكتبون عنه عن بعد.
من هم قريبون منه ولا يخفون ” نفورهم ” منه. وتلك مفارقة.
ومن هم بعيدون عنه، ويكتبون عنه بتنوع، وفيه ما يعلّم طبعاً.
ما هي أجزاء هذه الدراسات؟
الجزء الأول: هنري لايارد والإيزيدية
الجزء الثاني: أقدم وثيقة أوربية عن الإيزيدية
الجزء الثالث: الإيزيديون في كتاب النساطرة وطقسهم.
كل جزء يضم ما يغنيه عن سواه، وما يشده إلى سواه، ويثريه في الوقت نفسه، فثمة تباين في نوعية الموضوع، وكذلك في مقام الباحث أو المؤلف، أو ما له صلة بما هو تاريخي، اجتماعي، وثقافي.
شددت على أهمية هنري لايارد الباحث والآثاري والرحالة الشهير ” 1817-1894 ” ويعتبَر صديق الإيزيدية كما قدَّم له ختاري بعبارات واضحة ولافتة.
وله صداقاته مختلفة مع رموز الديانة الإيزيدية، ومنهم: الأمير حسين بك بن علي بك ( 1828-1879 م)
ومع بابا شيخ ( شيخ ناصر بن شيخ رشي : 1807-1889 )، والقوال يوسف بذاكرته المكانية والاجتماعية والدينية الدقيقة، حيث قدَّم معلومات ذات صلة بحقيقة الإيزيدية.
وللألماني كارل ماي” 1842-1912 ” صاحب أكثر من سبعين مؤلفاً، ومتعدد اللغات، مكانته الكبرى، وذات صيته من خلال روايته ” عبر كردستان الوعرة ” وفي الرواية أحاديث رهيبة عن مآسي الإيزيدية..
وفي الجزء الثاني: أقدم وثيقة أوبية عن الإيزيدة، ترتد إلى قرابة أربعة قرون.. لمؤلف مجهول، تأكيداً على أن الإيزيدية شغلت العالم منذ زمان طويل.
وهناك عناوين أخرى، في هذا الجزء، من ذلك: رحالة أوربيون في العراق، ورحلة دوبريه إلى العراق.. وليس من انقطاع عن عامل الإساءة إلى الإيزيدية والابتعاد عن الحقيقة، وختاري أشار إلى ذلك في تقديماته المختلفة، وجانب التجني على التاريخ نفسه.
وفي الجزء الثالث والموسوم آنفاً، تنويع آخر وقريب منا، مثل مقال سياستيان مايسل: الإيزيديون السوريون في كرداغ والجزيرة” بناء الهويات في مجتمع متغاير “، وإضاءة واقع إيزيدية ” كرداغ ” حيث التعرض لظلم ديني، نسبة إلى مجتمع المنطقة، وظلم قومي وديني في الجزيرة، لأن المجتمع مختلف.
وهناك جافاروفا ومقالها عن إيزيدية القوقاز، والمترجَم من قبلي في الكتاب، وسبب وجود الإيزيدية هناك. طبعاً لأن الظلم الذي عاشوه ويعيشونه إلى الآن كان وراء ذلك. ولجون كَيست المؤرخ والمتأثر بلايارد، وفي كتابه ” تاريخ الإيزيديين ” اعتباره اللافت، خصوصاً وأن هناك مساحة كبيرة أعطيت له في الجزء الثالث، حيث نتعرف على علاقات ميدانية، وتوصيف لأمكنة الإيزيدية وطقوسه، ومعاناتهم هنا وهناك ..
وفي الختام، أسئلة ” 37 سؤال ” موجهة إلى القوال يوسف، والأجوبة دقيقة، من مثل أن المعبود هو إله واحد، وهناك تراتبيات في الإيزيدية، كغيرها من الأديان الأخرى .
ولترنيمة شيخ ” آدي ” فعلها العقيدي والتوجيهي اللافت، بدءاً من ” ليسد السلام عليكم.
وفي العبارة هذه ما يستدعي التوقف .
ففي السلام يكون المبتغى، والسلام مبتغانا جميعاً
لهذا أنهيت المحاضرة بعبارة ” سلامية ” تعنينا جميعاً.
ولتكون المناقشة ثرية ومعززة لروح الحوار بالمقابل .
وفي الختام كان الشكر وتقديم هدية تذكارية، وليتكرر الشكر هنا للسيد مدير المركز، الأستاذ موفق خليل، وألفة الشخصية التي يحملانها، كما تبيَّن لي.
ولتوزع نسَخ من الموسوعة المختصرة والمعبّرة، والتي حملها معها الباحث الصديق ختاري، على معنيين بالهم التاريخي عموماً، والإيزيدي خصوصاً، تعبيراً عن التفاعل الثقافي وأهميته.
أما عن الأحاديث الجانبية، فهناك الكثير الممكن قوله، وفي كل شارة تقدير وتأكيد احترام، وأسمّي هنا الباحث القدير خالد علوكه، مؤلف الكتاب الجميل: أفكار وآراء هادفة، والذي كتبت عنه لأهميته، حيث كان لحضوره ومناقشته ما يبعث عن التفاؤل، كما أن إهداءه لي كتاب باحثنا الكبير شمدين باراني” حبّات ذهبية إيزيدية ” طبعة ” 2020 ” ويقع في ” 744 ” صفحة من القطْع الكبير، وفي طبيعة أنيقة، لا يقدّر بثمن، وهو الذي توقف عنده في كتابه” أفكار وآراء هادفة ” ( صص 329-335 ) مظهراً قيمته المعرفية عما هو إيزيدي.
وهكذا الحال مع ثلاثة كتب هدية، وهي من عصارة فكر باحثنا العتيد: ممتاز حسين سليمان خلو:
إيزيدية شنكال ( سنجار) مآسي – أحد وشخصيات – فرمانات من سنة 1876إلى سنة 2016 م، طبعة ” 2016 “
ضحايا العمليات الإرهابية الأحداث المأساوية لأبناء بعشيقة بحزاني من سنة 2003-إلى سنة 2018، طبعة 2020.
أوجه التشابه بين الطقوس الدينية والدنيوية في حضارة بلاد وادي الرافدين والطقوس الإيزيدية، طبعة 2021.
إنها هي الأخرى مأدبة روحية، وتضيء عالم الفكر وتغذي إرادة البحث عن المزيد من المعرفة
آخرون.. آخرون.. أعتذر عن عدم ذكر أسمائهم، ممن تحادثنا وقوفاً، وتطرقنا إلى ما هو مأساوي فينا كردياً” مثلاً، جهة الذين أسلموا من الإيزيدية، وأساؤوا إلى إيزيديتهم أكثر . تلك خاصية ” ظلم ذوي القربى “.
إنما المهم هو أن الذي عايشته زمنياً ألهمني بما يبعث عن الألم، رغم مساحة الألم الكبيرة فينا.
وهكذا خرجنا بعد مصافحات وصور تؤبد الحضور زمنياً.
بالتأكيد: مضيت إلى بعشيقة وأنا لا أخفي توتري جهة المكان ومن هم أهلوه، سوى أنني حين خرجت، كان للمكان بأهليه ما يشدني إليه، وقد أحلَّ الطمأنينة محل التوتر، وما لأجله يكون الارتقاء بالحياة .
وصلت إلى دهوك، وكان الوقت ليلاً. سواء أن نهاراً كان عامراً في ذاكرتي الشخصية!