كاوا عبد الرحمن درويش.
صبر دهراً حتى أضاع رشده، أفقده هاجس الذرية بصيرته، وأرهق كاهله اللهاث وراء ولدٍ يحمل اسمه بين رجالات القبائل، تزوج مثنى وثلاث ورباع وأكثر، كلَّما ولدت له احدى زوجاته ابنةً وأدها قبل أن تبلغ سن البلوغ، وحين لاح له موعد مخاض زوجته الصغرى، عقد العزم أن يغرس بيده شجرةً ويعلق عليها آماله، وفي صباحٍ شتويٍ قارسٍ غرس شجرةً في فناء داره، وعلق عليها أمنيةً ثم رفع رأسه نحو السماء متضرعاً، ودعا في سره: اللهم صبياً يرثني ويترحم عليَّ من بعدي.
ساعاتٌ وكان الليل يحلُّ عليهم داكناً عاصفاً ثقيلاً، اشتدت آلام زوجته واختلطت صرخاتها بقصفات رعدٍ ووابل مطرٍ يملأ السماء، طالت آلام المخاض، وهو يذرع فناء منزله جيأةً وذهاباً من غرفة الزوجية حتى شجرته، داعياً ربه أن لا يتأخر ضيفهم الليلة، وأن يكون خفيف الظل، ولداً يكحل به عينيه ويرث من بعده اسمه وأملاكه، مضت ليلته طويلة بطيئةً على هذه الحالة، وأخيراً حل الفجر وجاء معه الفرج، وخرجت الجدة مبتسمة الوجه لتبشِّره بأن زوجته وضعت له أنثىً كالقمر فسموها قمراً.
كانت تلك المرة الأولى التي يبصر فيها قلبه يلهف لفتاة، فدأبَ في كل صباح على أن يحمل وعاء اللبن فيرفع عنه القشدة ويمزجها مع العسل فوق قطعة خبزٍ، ثم ينتظر بفارغ الصبر حتى تستيقظ قمر فيطعمها اياها بيديه.
كبرت الفتاة وكادت تبلغ سن البلوغ، حينها أدركت أن دورها آتٍ وأنها مائتةٌ لا محالة، وفي احدى الصباحات كان الوالد قد باشر بتجهيز حفرتها لتلقى جزاءها مثلما لقت من قبلها أخواتها.
بدت واقفةً غير خائفةٍ أمام حفرةٍ مستطيلة الشكل، تحت الشجرة نفسها، تلك التي غرسها والدها بيده ليلة تفتحت عيناها على الدنيا، كانت تمعن النظر فيه وهو واقفٌ داخل الحفرة، الحفرة التي ستغدو بعد قليل سريرها النهائي ومرقدها الأبدي، لمحت وجه أباها ملطخاً بالأتربة، فسارعت لمسحه، أحس بدفئ يديها، وراعه كثيراً ما لقاه منها، رقَّ قلبه وبكى لأول مرة في حياته فاحتضنها كثيراً وقبَّلها، ثم تراجع عن فكرته فأعاد التراب لمكانه.
تتالت السنين ورُزِقَ بطفلٍ ذكرٍ سرعان ما استأثر بكل شيء لنفسه بما فيه قلب أبيه ومكانة أخته.
كبرت الفتاة بائسةً مكسورة الجناح محرومةً من أبسط حقوقها، بما فيها التعلم والقراءة والكتابة التي حرمت منها، بحجة الاختلاط بالذكور.
عاد الأب لحياة الغزو، فصال وجال، وكرَّ وفرَّ، وطعن هذا وقتل ذاك، حتى بلغ من العمر عتياً، فقرر التوبة وفتْح صفحةٍ جديدة، لجأ الى التزهد وأمضى أوقاته في العبادة علَّه يكفِّر عما اقترفت يداه من آثامٍ بحق بناته وخصومه على حد سواء، تدهورت صحته شيئاً فشيئاً حتى لزم الفراش، وأيقن أن ساعته قد حانت، اقترحت عليه زوجته أن يوزِّع تركته وهو على قيد الحياة، فأخذ برأيها، وأوصى أولاً بأن تُوزَّعَ منها بعد وفاته شاتان وكيسان من القمح وكيساً من الشعير على الفقراء، ومن ثم أوصى بكل أراضيه وأملاكه لابنه الوحيد.
اغتمت قمر وحزنت، حاولت الأم ثنيه عن قراره ولكن دون جدوى، أما هو فقد فقال جملته الأخيرة أمام الوجهاء والأقرباء ورجال الدين: لن أترك شيئاً لفتاةٍ لا تحمل اسمي من بعدي، ولن أحرم ابني خليفتي وحامل اسمي من شيء، ثم دوَّن وصيته وسلَّمها لزوجته وفارق الحياة.
في الصباح كانوا يدفنونه بحسب وصيته تحت ظل شجرته، في نفس الحفرة التي حفرها ليدفن فيها القمر يوماً، انتهت المراسم وذهب كلٌ في شأنه.
مضت الأيام وتزوجت قمر رجلاً مسكيناً تعساً لا حول له ولا قوة، أما الابن فقد ورث عن والده حياة الغزو والنساء وبدَّد كل ما تركه له والده من ثروات هنا وهناك، فلم يكترث لوصية والده ولم يوزع منها شيئاً على الفقراء.
توفيت الأم أيضاً وتتالت السنين ولم تزل وصية الأب عالقة في ذهن قمر، فلم تستكن بل استمرت تكافح مع زوجها وتعمل ليل نهار، تدخر ما تستطيع ادخاره من أجل تنفيذ وصية أبيها.
وفي ليلةٍ داكنةٍ عاصفةٍ ثقيلة كانت دعوات قمر لأبيها تختلط مع قصفات رعدٍ ووابل مطرٍ يملأ السماء، واقفةً تحت شجرة أبيها تبشِّره بتنفيذ وصيته مثلما طلب من ابنه فوزعت شاتين وكيسين من القمح، وكيس شعيرٍ على الفقراء.
أما الابن فلم يكن بعيداً كثيراً عنها، فقد كان في إحدى المضارب المجاورة متقياً تلك العاصفة المطرية، ملتجئاً الى مجمَّع خيمٍ مرفوعةٍ فوقها أعلامٌ حمراء وقهقاته وقهقهات نساء ليله تختلط مع قصفات رعدٍ ووابل مطرٍ يملأ السماء.
________________________________