ثالوث نهريّ

إبراهيم محمود 

خابور دجلة والفرات…..
شهود عيان على ماء يُذبح من الوريد إلى الوريد
ذاكرات جمعية يُسعى إلى ذبحها من الوريد إلى لوريد
على خطوط نهرية جغرافية تُذبح من الوريد على الوريد
وحين أنادي يا خابور يا دجلة يا فرات
أين ذلك ” الدمع ” المتدفق المحيي للحياة بالطول والعرض
هاقد جف دمعي وليس من دمع متدفق كما هو المعهود :
خابورياً
دجلتياً
فراتياً ؟
أخرسُ كلُّ نهر
أعمى كل نهر
أصمُّ كل نهر
يا للجريان المكابد المصاب باللهاث
أمواه تسرد تواريخ من دماء مسفوكة
أسماء تتنفس في القاع دماً
ضفادع ملونة بالدم
رمال في القاع يغيظها الدم المترسب بين حبّاتها
أشجار على الحافات بلون الدم تكون
شعوب تتنفس رعباً
دماء متوالدة
وعوداً منقوعة في الدماء
هواء يتحشرج في رؤية أنهار يُدفَع بها إلى الانتحار
أحلام سرعان ما تنقلب كوابيس ملونة بالدم
تعالوا إلى مذبحة مجانية
تعالوا إلى استباحة مرخّصة من حكومات منصوبة بالدماء المهدورة
طي سياسات تأبى أن تفارقها الدماء
وهي تتوحم بها
ثمة سلالة أرطغرلية أكثر من غيرها
لا يشبع جوعَها الهمجي لحم يطرح باطراد في الأنهار الثلاثة
لحمُ أمم وشعوب أدمنتها أكثر من غيرها سلالة أرطغرلية
وبلغة اللحم المتقطع والمضرج بالدماء الكثيف
تقول هي ذي حدودي
بلغة اللحم المهروس والمعجن بالدماء
تقول هي ذي خطوط اتصالي بالعالم
بلغة اللحم المنقوع بما يكفي الدماء الفتية
لشعوب مجزأة تقول هي ذي أمانيّ إلى يوم يبعثون
بلغة اللحم الطازج لأناس مكانيين
تقول هاتفة: هي ذي قوتي قانوني وبالعكس
والرعب يتلبس الخابور دجلة والفرات
لا صوت يصدر والتربة العطشى تروّع الماء المتحشرج
لا سمع كاف حيث الماء دون الحد الأدنى من الخرير
لا عين تكفي لمقايسة الماء الجاري كعهدها به
وأنادي أين الماء؟
أين أنت يا ماء أنسباء الجنة الموعودة؟
أين سمعك الزلال
بصرك الزلال
لسان الزلال
أين أحلامك الخضراء
أين آفاقك المتلالئة بالأخضر عالياً
لكائنات مسجلة باسمك أبعد من حدود كتفيّ النهر؟
يا للنظرة الملول
للحرف المتقطع الملول
يا للسمع الضعيف الملول
الماء أذن تستغرق طبيعة كاملة
الماء لسان بليغ بما يتدفق فيه ومنه لطبيعة كاملة
الماء عين كشافة مسافات 
وأنادي أنهاري الثلاثة:
أي ذهول أحالك إلى ما دون الطبيعة الجامدة؟
ليس لخابور عين كافية لذرف دمع 
عين مفتوحة على سماء تضخ ألسنة من لهب
تربة مبقورة تحتفظ بعروق ماء تبقبق 
إنما أرى الفاجعة النهرية
ليس لدجلة تلك العين النافذة بمعاركها العميقة عبر دواماتها
بصهوات النهر التي لطالما أنزلت خيّالاتها الراغبين في قطعها إلى أسفل من دون رجعة
أي نهر هذا النهر بمائه ” الكبير ” كما كان يُسمى، وقد فرّغ من بلاغته
أي عطب سياسي ملوث أوقف النهر في نقطة جغرافية مصطنعة مفصلية
أي توقيف في حكْم مبرم نال من النهر وقد أخرج بعيداً عن سياق مسافاته البعيدة
وأعدَم في الشعراء جمرة قلوبهم الخيالية
وفي العشاق تدفقات صورهم الشعرية النفاثة
وإقصاء آلهة الماء وجنياته وتيتم ضفتيه
ليس للماء ذلك الدفق السريع ليعزّز به صوته الهادر
مزحته في مداعبة المزيد من تربة الضفاف
تلون الماء المنتظر علامة خير وخصب بازدياد 
ليس للفرات ما يبقيه فراتاً
أي داء اسقريوطي نال من قاعدته ليُرى بائساً شبه مفلساً من رصيده الطبيعي
أي حرمان له مما يصله بذؤبات القمر ذات الرنين الباعث على لذة مائية النسب
أي تقطيع لأوصال النهر في وهن مجراه
في عزوف نداماه عن ملاقاته دورياً
ليس للفرات تلك القوة للبكاء على ما هو عليه
إنه يعيش احتضاراً في نقاط موزعة عليه حيث كان يجري مفتخراً بتدفقاته الذاتية
لأرى ما لم أرد أراه
وأستدعي ملحمة النهر قبل عقود من الزمان
يا للأعراس التي كانت تقام على مدار الساعة
قبل حلول سماسرة القحط المتصنع
قبل انطلاقة مافيا الجغرافية الرسمية
بلجم الدفق المائي 
بإقلاق جغرافيا كاملة
وركل التاريخ بحذاء ذي رائحة كريهة
ويقول الخابور بصوت واهن واهن:
هوذا أنا فمن أكون أنا وما عدتُ أنا؟!
ويجيب دجلة في الحال
وهو ذا أنا وما عدت أنا بالمقابل
وفي الحال يتردد صوت الفرات:
وهل أنا أقل ألماً في أصغر جرح منكما؟
ما أكثر طين النهر المتيبس في الشمس الحانقة على المرئي
لكم استحمت في هذه الأنهار ولطَّفت مناخها
لكم أعطت فسحة لقمرها أن يتمسح بمويجاتها
مرسلاً شعره الغابي المسدول والشريطي إلى أعاليها
لكم امتزج الهواء المأخوذ بفضية السماء بتدفقات الأنهار هذه منتعشاً بالبرودة المتعوية فيها
لكم استمات الماء في الأنهار الثلاثة في التعبير عن وجوده متشبثاً بمجراه على وسعه
سوى أن التحكم القاعدي بالماء ألجمه وشده إلى المتدني في مستواه
هوذا الماء يندب وجوده
هوذا المجرى يخاض بسهولة وكان مبثع رهبة حتى الأمس القريب
هو النهر ينحسر ويتقلص عاجزاً عن تأكيد سويته
ويصيب الضفتين ذهول الجاري 
لا تعود الأنهار كما هو المقيَّد المائي باسمها
إيه أيتها الأنهار
أي مظلمة دفعت بك لتكوني ما أنت عليه
وتمضي الأنهار في صمتها
عارية إلا من كونها العاجزة عن استمرارها تضيق بها أنفاسها
إلا عن كونها المأخوذة بعجزها وهي تزداد انحساراً
عاجزة عن استبقاء طيورها التي كانت تفدها في تنوعها
طيور تحلق في علو ذهولاً
أشجار تستشعر دبيب عطش متنام في جذورها ذهولاً
ضفاف منهوبة من الرياح الطارئة وفي ذهول
حيوانات جارّة تعيش رعب الآتي وفي ذهول
ديدان تستمر في مناشدة الأعمق أكثر في التربة وفي ذهول
سماء تفتح فاهاً وهي تقابل أختاً لها في نائبة غير مسبوقة 
أسماء كائنات وبدءاً من النهر في امتحان محتواها وفي ذهول
مياه محكومة بقانونها الطبيعي مأهولة بلحظة التلاشي الفظيعة وفي ذهول
يا للثالوث المحكوم بالموت أفقياً وعامودياً
يا للثلاثي المخضرم في المحنة الطاغية
ماء في البازار العلني
أرض في البازار العلني
شجر في البازار العلني
حيوانات في البازار العلني
بشر في الباار العلني
حية، موت في البازار العلني
حكومات في البازار العلني
لا شيء كالنهر في اقتباس الحياة والموت
لا شيء كالنهر في تمثيل السياسات
لا شيء كالنهر في تعريض حياة كاملة للموت البطيء
لا شيء كالنهر في مكاشفة عورات الحكومات والأنظمة 
لا شيء كالنهر في تعرية السماسرة الحدوديين
لا شيء كالنهر في الشرق في تزييف الحقائق
لا شيء كالنهر في إلهاء السماء عمّا دونها
لا شيء كالنهر في دفن الآتي حياً 
لا شيء لا شيء لا شيء 
والزمان شرم برم….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…