نصر محمد / المانيا
( حين تتراقص ريشة فنان على ايقاعات اللون ، تجمع كل ما نظم
ومانثر من حروف بضربة لون وفي اي اتجاه كان لتتسلل للروح والإلفة والسكينة ،
والشاعر عندما ينظم قصيدة يبني بابياته قصرا على تخوم الشمس ،
لكن الأديب حين ينثر حروفه ، يشكل منها ماهية الحلم فتصلنا على هيئة عطر يسترسل في الأرجاء .)
اهداني الصديق الشاعر والكاتب عبدالرحمن عفيف كتابه ( غريق نهر الخنزير ) في مهرجان الفن والثقافة الكردية والذي اقيم في برلين مؤخرا
سعدت جدا بقراءة ( غريق نهر الخنزير ) وكان لي هذه القراءة المتواضعة
صدرت اقاصيص واشراقات واشعار ( غريق نهر الخنزير ) للشاعر والكاتب عبدالرحمن عفيف عن دار منشورات رامينا عام 2023 , لوحة الغلاف للفنان بشار عيسى ،
تصميم الغلاف والتنضديد : ياسين احمدي ، وبدون تقديم .
قبل ان ادخل عالم القراءة من بابها الكبير علي ان اتقدم للقارئ بلمحة عن الكاتب والشاعر عبدالرحمن عفيف .
عبدالرحمن عفيف شاعر وقاص ومترجم كردي سوري من مواليد عامودا / سوريا عام 1971 , درس الأدب العربي في جامعة حلب ، يعيش منذ عام 1996 في المانيا له ثلاث مجموعات شعرية ( نجوم مؤلمة تحت رأسي ) ( رنين الفجر على الأرض )
( وادي ديازيبام )
وايضا له ثلاث مجموعات قصصية ( الحجحجيك ) ( في سيارة ابن صراف ) ( دموع الملائكة او السعادة المطلقة ) ،
وله في الترجمة عن الألمانية ( الثلج يهب على الألفباء ) ( قصائد مختارة من الشعر الألماني ) ( شوقا اليك أبليت الزناجير ) ( قصائد للشاعر احمد عارف )
غريق نهر الخنزير : عبارة عن نوستالجيا الى ذلك الثالوث والوجوه الأثيرة ،وان كان المكان هو الفضاء الذي تدور فيه الأفلاك التي تشد روح الكانب ، لا سيما انه بعيد عن مكانه ( عامودا ) ، حيث ينقلنا معه في رحلة الى عامودا والغرق في نهره نهر الخنزير الذي لم يعد له وجود فيقول : في نص منابت العندكو
( للبلدة الصغيرة في الشمال ، ثلاثة جسور اسمنتية مقامة على نهر الخنزير ، ولو ان النهر جاف ويابس منذ ازمان ، جسر عند الجامع الكبير ، قريب منه تمكن تسميته بجسر الجامع الكبير ، والجسر الثاني هو جسر السوق ، بقربه دكاكين سمانة وبعض المقاهي على ضفة النهر ، والجسر الثالث والأخير عند المخفر فيسمى ب جسر المخفر ، وهناك ايضا المستوصف ودار البلدية ومبنى مؤسسة التموين في ازمان الطفولة )
الأقصوصة جنس يتيح للقاص الترحال في ثنايا الأفكار والمعاني والدلالات والكاتب عبدالرحمن عفيف كان وفيا لهذا التنوع متعددة القضايا التي طرحها في هذا الكتاب
يقول : في نص هو المكتوب المعشوق
( لنهر الخنزير دفتر ، يجلس او يقف العشاق على احدى ضفتيه ، وينادون أو يهاتفون من يحبون عبره ، وهو يكتب، يكتب الأهات
والحسرات ، والنداءات المعلومة والمجهولة التي بلا عنوان ، وقد يكتبه السنونو ، او قد تكتبه اسراب العصافير احيانا ، حينما يكون دفتره مغلقا وقلمه نائما ، بأجنحتها وارياش اذيالها ومناقيرها ، فيكون النهر حينذاك في أوج غبطته وسروره ، في اوج فيضه وحبوره ، فهو الآن المحبوب والمعشوق وهو المكتوب لا الكاتب )
ثمة هندسة متقنة يذكرنا بهيمنة الكاتب وتقنياته التي يتبعها ، فيأخذ الكاتب ريشة الفنان ويبدأ برسم االكلمات بلغة صوفية طفولية تتغلغل الجماد والحيوان والبشر ليعلن المصالحة مع المكان ويركز في ادق تفاصيله فيقول في نص ( حب السنونو القاتم )
( كانت تلك الظهيرة حارة لاهبة ، قد وصل فيها الصيف الى اوج اشراقهةوذروته ، فتعطلت المدارس والأشغال والناس في بيوتهم لا يغادرونها ، والسنونو كف عن تحليقاته في اعالي السماء،، وبقي في حجراته في السقةوف ملازما لها ، فأتخذت السقوف هذا القيظ اللاهب الصافي المهدئ والمسكن والمعطل لكل الاشغال والأفكار اليومة فرصة .
لتدخل في حديث هوى وعشق ، حديث طويل مع السنونو في صومعاته ، تعبر له بهمس وغمغنات سائلة عن لواعجها ومكا بداتها وعواطفها اللامرئية ، بتفاصيل دقيقة وشروح مستفيضة ، ذات تواريخ ومشاهد بل وبراهين بستدل بها ، ويثبت الهيام والغرام الذي لها ، ثم لتصل في همسها وحديثها عن العشق درجة عليا ، فتعلو وتشطح عن الانسجام والتمازج والتلاصق بين السنونو وبينها ، لتقول في همس يشبه خرير االماء بين الجبال ،
(( حبر اسود قاتم قاتم انت ، ياسنونو ، ياسنونو ونحن لك ماء ))
عبدالرحمن عفيف كتب قصص قصيرة عن حب حقيقي وتفاصيله عن ابار منزلية الى جانب اشجار التوت ، وعن اصدقاء
له يضحكون ، يسهرون ، يدخنون ، يشربون المتة ،
( الى الصديق غرناس معو )
( عادَ مِن المنفى إلى بلدته الفقيرةِ المتروكةِ المهجورةِ عازفُ الدفّ وقد انكشفَ له سرّ الحياةِ وهناك تزوّجَ مِن التي أحبّ ملامحها وشعرها ومشيتها في الطفولةِ وأوجد سينما للأطفالِ في المركز الذي أسسه في أحد البيوت المهجورةِ للموسيقى والفنّ والشعرِ عوضا عن السينما المحروقة التي احترقَ فيها الأطفالُ في ستينيّات القرنِ الماضي وأقام حفلات موسيقيّة برفقة آخرين فوقَ التلّ المهجورِ الذي صار رمزا للبلدةِ لكآبته وضآلته فحتّى بقيّة القبورِ التي كانت ماتزال فوقه هجرته لكن فوقه رقص الأطفال ثانية وغنّوا ومرحوا مع الأغاني وبهجتها المستعادةِ كذلك قامَ عازف الدفّ بحملاتٍ يشارك فيها أطفال كثيرون لتخليص الشوارعِ من القاذورات والنفايات وزرع بعض الزهور والشجيرات على جوانبها وزواياها وحين يبقى العازف أواخر الليلِ بعد الانتهاء من مشاغله الكثيرةِ وحيدا وحيدا مع الليل تغرورق عيناه بدموعٍ كبيرةٍ كثيرةٍ حيث لاتزال أمنيةٌ بعد يريدُ لها أن تتحقّق وهي أنْ يجري نهرُ الخنزير المارّ بالبلدةِ ثانية ذلك اليابس الجاف الممتلىء بالزبالات. تغرورق عيناه بالدموع الكبيرةِ الكبيرةِ حين ينام فيرى النهر في أحلامه يسيل ويجري ويفيض كما في الأيّام السوالفِ ليبتلّ لحافه كله ووسادة نومه ولحيته وشعره الطويل كلّه كلّه…)
عبدالرحمن عفيف يجد خلاصه وخلاص المجتمع بخلاص المكان والأحساس بالأخرين ، واستمرار حياة شهيد نهر الخنزير من استمرار الفكر السليم الذي يرصد الجمال في ادق التفاصيل ،
سأنهي هذه القراءة المتواضعة بما قاله عبدالرحمن عفيف في نص ( غريق نهر الخنزير )
( ربّما يمكنُ تسميته بغريقِ نهر الخنزيرِ فهو الذي شاهدَ مياهه تنخفضُ شيئا فشيئا ويوما بعد يومٍ بعد السيلِ والفيضان ورأى الناس بهيجين ومبتهجين فيه كأنّما في عرسٍ يجمعون منه السلاحف التي جلبها مع فيضانه ويصفّون الرّمل أكواما عبر مناخلهم القائمة على الأرضِ وهو عائدٌ من الاعداديّة في الصفّ السابع حيث المدرسة على الضفّة العليا ويصير المشيُ نزولا نزولا قليلا كلّما اقترب من الطّريقِ الاسفلتي على جانبِ النهرِ. وشاهدَ العشّاق وأصدقاءهم وهم يتمشّون في العصريات والمساءات مارّين من على الجسرِ من الضفّة اليمنى إلى الحارةِ بعده حيث بيوتُ المشايخ وتكاياهم ذاهبين إلى فتياتٍ شقراواتٍ هناك بلا أملٍ تقريبا في حبّ أو اهتمام متبادلٍ. يكثرُ روث البقرِ في هذه الضفّة فبعض العوائل تربّيه وترمي بالروثِ مباشرة أمام بيوتها في النهرِ الذي بلا ماءٍ. فيمسك العاشقُ وصديقه أنفهما وأنفاسهما لمسافة عشرين مترا تقريبا حين عبورهما من هذه الجهةِ إلى الضفّة المقابلةِ ويعزّي العاشق نفسه وصديقه بعد اجتياز الجسر بقليلٍ وفتحمهما لأنفاسهما واقترابهما من بيت الفتاة الشقراء التي يحبّ:
هناكَ روثٌ وهنا ريحانٌ.
ربّما يمكنُ تسميته بغريقِ نهرِ الخنزيرِ هكذا اعتباطا وعشواء فقط لذكرِ النهر والأيّام على جانبه عارفا تمام المعرفةِ أنّه لم يغرق قطّ أحدٌ في الخنزيرِ ولا أوشك أن يغرق أحدٌ.
هكذا اعتباطا وعشواء ليكونَ للنهرِ في تاريخه الطويل غريق واحدٌ لم يغرق فيه أبدا انّما عبره آتيا من الصفّ السابع الاعدادي إلى البيت أو رأى العشّاق وأصدقاءهم يمسكون أنوفهم ويكتمون أنفاسهم حذر الزبالات والروث والأوساخ المرمية هناك في نهر الخنزير الهادىء الصامت بلا قطرة ماء ولا ذرّة نفسٍ…)
اخيرا ، نصوص كتاب ( غريق نهر الخنزير ) كتبت بلغة بسيطة جدا ، بعيدا عن اية فانتازيات او ادعاءات خارج حدودها ،
غريق نهر الخنزير هي لم شمل الأقاصيص التي نشرت في صفحة عبدالرحمن عفيف فكانت بحق خطوة اخرى يخطوها الكاتب في اغناء تجربته ، هو كتاب جامع لأشد لحظات الحنين وكتاب الذاكرة المتجددة النابضة بالحياة