ماجد ع محمد
مثلما لا يتوافق دواء هذا المعتل مع البلسم الخاص بجسد ذلك السقيم، كذلك الأمر فما هو ضروري لصحتك البدنية أو النفسية قد يكون مضراً بصحة شخصٍ آخر، وكما تكون بعض العقاقير منقذة لحياة بعضهم مِن الهلاك فقد يقود العقار نفسه غيرهم إلى ديار المهالك، والأمر ذاته في إطار المحادثات اليومية التي تدور بين الناس عن الأمور السياسية أو الاقتصادية أو العقائدية، إذ بالرغم من أن الجدال عادةً ما يقربنا من عالم الحقيقة الشخصية للأفراد، إلاَّ أن المجادلات نفسها قد تسوق غيرنا نحو الهاوية، كما أن الدخول في معترك المساجلات الدينية أو القومية أو أيٍّ من القضايا الإشكالية ربما كانت نتائج خوضها محط الترحيبِ في مجتمعٍ ما، بينما مجرد التطرق إليها في مجتمعاتٍ تربت على القسرِ والإكراه قد يكون البحث فيها جالباً لسوء الفهم وسبباً لخلق المعضلات.
وصحيح أن مناقشة المواضيع العامة والقضايا التي تهم شريحة كبيرة من الناس في اللقاءات اليومية والتركيز عليها في وسائل الإعلام على اختلاف منابرها قد تخلق رأي عام في فترة زمنية ما، هذا إن لم تخرج باستنتاجات يجمع عليها أغلب من تناولوها أو شاركوا في بحثها، ولكن بنفس الوقت مَن يضمن بألا يكون الإفراط في الإشارة إلى الأخطاء أو الإكثار من الحديث عن قضية ما سبباً مباشراً لولادة المآخذ على منتقدي الظواهر السلبية في المجتمع أو الدولة التي تحوي الأطنان من تلك المثالب.
إذ بالرغم من أن “النقاشات والرغبة في التواصل والإقناع عند البشر تحد غالباً من حجم العنف والصراعات الجسدية الناشئة عن عدم فهم نوايا الآخر ورغباته، وذلك بخلاف الحيوانات التي يكثر لديها الصرعات بسبب عدم فاعلية التواصل والفهم بينها” وفق تصور الكاتب يوسف صامت بو حايك في كتابه “رجل القش”، إلاَّ أن ما يقوله الكاتب لا ينسحب على جميع البشر ولا على جميع الأمكنة، وذلك باعتبار أن النقاش والحوار ينبغي أن يتم بين أطرافٍ متساوية الإدراك، وأناسٍ يحترمون رأي الآخر واختلاف وجهة نظر الغير، أما في مجتمعاتنا المليئة بكتَّاب التقارير والتي يحضر فيها المسدس عند ارتفاع نبرة الجدال، وتكون لغة التهديد والإرهاب هي السائدة، فعدم الدخول في أي جدال أو نقاش حينها والاحتفاظ بالرأي الشخصي ربما كان أكثر سلامة من إظهار المرء لما يستبطنه أو يخفيه، باعتبار أن الكلام يكون بمثابة الممسك والإقرار، لذا السكوت وعدم الدخول في أي جدال على غرار عالم الحيوانات ربما كان الطريق الأكثر أمانة وسلامة في مجتمعاتنا التي سرعان ما ترى طرف فيها منتفض ضد الجور والاستبداد حتى تراه هو نفسه ممارساً في غده نفس القيم التي ثار عليها في أمسه.
إذ صحيح أن التعبير عما يقلق المرء والترويح عن النفس من خلال البوح قد يساهم في تخفيض نسبة التوتر الداخلي لدى الإنسان، وقد يخلصه البوح المؤقت من همومٍ تراكمت لديه في أعماق ذاته والتي كادت أن تغلق فضاءات الانشراح لديه، إلاَّ أن الكلام في البلاد التي يحكمها منطق النفاق والمراءات والتزلف بناءً على الثقافة الحرباوية والسطوة الأمنية التي تحكم البلد من رأسه لأساسه، فمن غير السليم أن يتورط المرء أينما كان ومتى ما كان في التعبير عن تصوراته عن السلطة وحرماتها أو حتى بالحديث عن الفساد ورموزه بالرغم من كثرة مدعي محاربة الفساد.
وبديهي أن المرء من خلال الحوار والجدال يكشف عما يفكر به، وعما يشغل باله بمحض إرادته، وهذا الأمر ليس بجيد في دنيا السطوة ومناخات تسود فيها التهم الجاهزة للنيل من الآخر، فإن تكلمت مثلاً في حضرة المتطرف الذي بيده الحكم والسلاح عن حرية الأديان قد يقودك الحديث في النهاية إلى اتهامك بالكفر والإلحاد والزندقة، فوقتها بدلاً من شرح وجهة نظرك تكون قد حفرت قبرك بيديك.
كما أن النقاش أو الحوار يكشف عن كنه الشخص، فإن كان الفردُ قبيل الدخول في الجدال مهاب الجانب بكونه ما يزال مجهولاً بالنسبة لمن يحاوره، فإنه بعد أن يظهر نقاط ضعفه فعندها يكون لقمة سائغة لدى الطرف الآخر الذي لم يكن ليعرف مكامن الضعف لولا الدخول معه في النقاش وعرض كل أوراقه وخصوصياته أمام الذي يجادله.
وحيث أن كشف الإنسان لمكامن الضعف أمام الشخص الدنيء أو المعادي أو المتسلط يُذكرنا بقصة جميلة من الأدب الزائيري، وهي عن حيوان الزباد الذي كان يأكل الطيور بيسر ولا يعترض سبيله أحد والذي لم يكن ليتجرأ على الاقتراب من الديك دون سائر الدواجن، بما أن حيوان الزباد (الزبادة) كان يتصور بأن عرف الديك هو عبارة عن لهيبٍ ناري خصه الله الديك به من دون كل الحيوانات، لذا كان يخشى الاقتراب منه قبل معرفة السر وحيث تقول القصة: “قبل زمن طويل، كانت الزبادة تلتهم كل الحيوانات التي تصادفها، لكنها كانت تخاف من الديك، وذات يوم التقت الزبادة الديك وقد اتخذت موقعاً بعيداً منه، وقالت له: أيها الديك، لماذا تحمل على رأسك ناراً أينما ذهبت، وكيف تتصرف حتى لا تحرقك؟ رد عليها الديك: أيتها الزبادة، أنت مخطئة، فما أحمل على رأسي ليس ناراً هو الله الذي أراد أن يزيّن رأسي بمنحي هدية هي عرف، فإذا لم تصدقيني، اقتربي مني والمسيها؛ سترين أنها ليست ناراً، بل هي لحم؛ ترددت الزبادة قليلاً، لكنها دنت على أي حال، ولمست عرف الديك، وعندما تيقنت أن الديك نطق صدقاً، أكلته؛ ومنذ هذا اليوم والزبادة تلتهم الديكة، وهؤلاء يخشونها”.
ويُستنتج من فحوى القصة أن طيبة الديك في شرح حقيقة ما هو عليه، وكشف سره، وفضح خصوصيته التي كانت غامضة وكانت واحدة من أسباب الردع لدى حيوان الزبادة اللاحم، وإظهار السر الذي كان السبب الرئيس في خوف الزبادة منه أدى بالديك إلى الهاوية، وبأن يغدو من ضحايا الزبادة كغيره من الطيور الداجنة التي تفترسها الزبادة بكل سهولة وبلا أيّ خوف من عواقب الاعتداء؛ وحيث أننا نفهم من قصة الديك وخصمه اللدود أنه ليس من الحكمة أن يكشف المرء عن أسراره ومكامن ضعفه لمن كانوا في مقام المنافسين أو الخصوم والأعداء.