إبراهيم محمود
” ومعي في صميم الكتابة رفيقة دربي في عيدها الكردي، بمقاييس اللامألوف “
أمي، أي أمي، حتى أعالي اللامرئي
أودعتِنا كامل روحك منذ دزينة من السنوات
وبيننا الآن مساحات شاسعة من كيلومترات الأوجاع المربعة
وفي نسختها الكردية
كما لو أنك في سنتك الربع مئوية
وأنا أحبو
بظلّي الهزيل
وضحكتي الطفولية
أنني أمشي وأترنح في مشيتي
ويداي تتسلقان هواء المكان
وأنظر إلى وجهك الممتلىء نجوماً
وجبهتك المضاءة كالأمل
وابتسامتك التي تبث مروجاً
وأنا أشاكسك بضحكي المستفز
وأقلب طاسة الماء
وأنت تشدّينني من شَعري
وتستغرقين في ضحك مواز
كما لو أنني ابنك ذاك
دون هذا العمر الذي حفظ الكثير من المآسي الكردية، وبنات جنسك في متنها
أستحم في براءة القرية الممشطة بزرقة سماوية
كما لو أنك الآن تكررين ذات العبارة: اهدأ سأشتري لك ” قدَامة ” ezê noka ji te re kirim
كانت القدامة أكثر تلبية لرغبات ذائقتنا الطفولية!
فأهدأ
ونظري سابح في رحابة وجهك
وهنا تسبقني الكلمات التي تعرفينها جيداً بلغتك الأم:
Ez gelekî hej te dikim dayê ez tême dest û lingên te !
وأنا كلّي ثقة أنك تسمعينها الآن بحركاتها، لأن روحك التي تسكننا تعلِمنا بذلك .
كلّي ثقة أن وجهك الذي تسبح صورته في سماء خيالي لا زال هو هو.
أن يديك المضمختان بأريج العطف، لا زالتا تؤممان على وداعة المكان ذاك.
أن ظلك المحسود شجرياً يمد بموجه الشفيف في نواصي الجهات الأربع .
أرأيت يا أمي، لكَم أنا أهدهد نبض قلبي على دندنة صوتك المتوَّج بالحياة.
لكم أجعل هذه السنين الطوال طوع العمر الذي يبقيني رضيعك المتواصل، وصغيرك الصاعد في طفولته رغم أن الشيب تملّك أغلب السواد الموزع بين رأسي وسواه في جسمي !
نعم،لازلت صغيرك الذي يرضع من ثدييك الينبوعيين المأخوذين بدفء الأعماق، هوذا حليب يؤمّني إلى حيث تبقين بوصلة هدايتي وأملي في الحياة، ارتقاء بالجسم الغض إلى الجسم المعد للقفز فوق هاوية وأخرى، حليبك الغاية في العافية، الذي كان يشدني إلى الجنة التي تبصَم بكامل جسمك، وليس حليب نيدو المشكوك في أمره. أنا هو ذاك الصغير الذي يفتح عينيه لتهبط سماء وجهك بلسماً سحرياً يتشرب قلبي المنتظَم بحبّك، رغم أنني أصبحت جداً لأحفاد وحفيدات، لأشعرني صغيراً وأنا أشد بعضويتي إلى الحياة، فيكون ارتحالي في عقود السنين شبوبياً باسمك .
أن أعيش بهذا العمر صغيراً، إشعار بمفارقة العلاقة مع المرأة، والتي تعرَف بكينونتها بوصفها امرأة، وهي وحدها من تعرَف ما تعنيه المرأة، وكيف تكون امرأة، ومتى تجرَّد من كونها امرأة، وليس ما هو مشاع وسائد في الثقافتين: العامة والثقافية الرسمية إجمالاً، حيث يجري النظر إلى المرأة، والتعريف بالمرأة، وضعها في دائرة مفهوم الجنسانية، مقطورة من قبل الرجل: الذكر. لأنني عندما أسمّي نفسي متقدماً في العمر، وأنا محمول بعلامة الرجل الباذخة، تصبح الطفولة عينها مسرح عمليات الرجل، ولا يعود الطفل، من لحظة تشكله جنيناً في الرحم، إلا وديعة الرجل المعتبَرة في رحم مراقَب، ومعايَن من قبل ما هو قائم وموجه في الخارج.
من هنا أردت الحديث عن نفسي، وأنا أشير إلى أمي التي رحلت منكوبة ومنهوبة اعتباراً في نوعها، كما لو أنها تلخص واقعاً، تاريخ معمورة” خليفة الله على الأرض ” في تكوينها الجسمي/ الجسدي، حيث تستحيل مساماته جراحات لا تندمل، بل تشتعل آلاماً، وهي شاهدة، بما يضعه الرجل من ملح ذكورته الحارق فيها، شهادة على أنه مفارق لها جهة التراتبية، نافذ فيها جهة التأديبية: الأنوثة إثم المرأة المحكومة من قبل الرجل من بدء الخليقة إلى قيام الساعة!.
ولأعد الآن مجدداً، بعد هذه الفقرة الاعتراضية، وهي تنويرية، لأبث ألمي الذي لايزال يتنفس في ذاكرتي، وفي بنيان ثقافتي المكتسبة طبعاً، رغم الحصار القائم جرّاء الضخ الثقافي المقروء واليومي، والذي يشدد على أن المرأة امرأة، والرجل رجل، جهة التفاوت في القيمة :
أترين يا أمي، يا أمي الكردية، يا ابنة أبأس كائنة، وممثلة أبأس قيمة، كيف يجري صوغ الحكْم عليك، باسمك، وتحميلك بوزره، ووشمك بما هو نافر ومرئي من خلائق الأرض قاطبة، كيف يتم النطق المستمر بالحكم، على مدار الساعة، ليس عبر الكلام، أو الكتابة فحسب، وإنما من خلال كل ما هو قائم: حواسياً، عمودياً وأفقياً أيضاً، وحصرك داخله، لتكوني ما لست أنت..
نعم، يا أمي، يا أمي الكردية، يا الإنسان دون أن توصيف، تجنباً لأي تحريف، هو ذا المكر الذي سُرّب إلى الثقافة التي لم يؤخَذ بنسبة من رأي منك، أو من بنات جنسك، وأطلِقَ له العنان هنا وهناك، ليجري التأكيد على أن كل النساء سواء، وحواء هي النسخة الأصلية الشاهدة على مدى الإيقاع الظالم بالإنسان، بالبريء، والمظلوم قبل هبوطه: الرجل: آدم، كما هو المصاغ دينياً وفقهياً، وأن كل الشرائع والدساتير التي تتابعت إلى الآن، إبقت على حواء الناقصة الكينونة .
لكم أشكر فيك، أو عبرك حواء الأولى: لعظمتها المستباحة آدمياً، فلولا هبوطها المعتبَر رمزياً، لما وجِدت أنت، ولما كنت أنا أنا، رغم كل ما قيل ويقال فيك، لأنني أجد في حواء تلك الطليعية الأولى في تاريخ التكوين السماوي، في الفصل بين المسموح ونقيضه، في مقارعة المجهول، لحزة إقامة العلاقة مع الثمرة المحرمة ودلالتها. ليكون البدء بك، باسمك، وليس اختزالاً لك .
ولأشدد على فعل المخاتلة المستمر من قبل الرجل الذي أنسَّب إليه جنسياً، في تلك الأوقات، أو المناسبات التي يجري الاعتراف فيها بمقامك، وما في ذلك من معسول المضاف أو المضاف إليه قولاً عما تكونين عليه واقعاً، وعما يجب أن تكونين عليه مكانة، دون أي تغيير في المحتوى.
ألا ما أكذب هذا الجنس في مجمله يا أمي، يا أمي الكردية، فيما يقول ويفعل، في مزاعمه، كما في وهم” عيد الأم ” أو ” عيد المرأة العالمي ” وهو الذي يمشهد دفعة واحدة مسيرة الجرح المفتوح والملتهب بفعل فاعل معروف في إيلامه: الذكر، فلا تصدقي يا أمي ما يقال ويجري ترداده من تعظيم مزعوم، أو تفخيم واهم، عما تكونينه قيمياً، كما يشهد الواقع المنكَّل به هنا !
يا أمي، يا أمي الكردية، وأنت هناك هناك، حيث يحيط بك التراب البارد والموحش، الهواء البارد والموحش، حتى في عز الصيف، والماء الموجوع والموحش، أمنت ِ على روحك، رغم كل شيء، وتحرّرت من عسف الحياة المحرَّرة بالرجل، فلا زالت الصورة نفسها، لا بل أكثر من حقيقة الصورة، في كيفية الدفع بالمرأة اسماً في البازار الذكوري.
أنا شاهدٌ نوعيّ يا أمي، شاهد كرديتي التي يأتيها الطعان من الجهات كافة، لأنها توازن فضائياً بين توأمي الحياة، وتنتقم عبر توجيه الطعان إلى ما يجري تجريده من كل قوة، والتسيّد عليه، أعني من تكون من بنات جلدتك، والزعم للعالم أن المرأة الكردية في تاريخها الطويل صاحبة الظل الطويل، والمأثرة الطويلة، وطول الباع الراسخ في الزمان والمكان، وهو ما يعدِم كل أثر له، إلا لدى الذين يحفّزون أتباعهم على لزوم تحويل المتردد واقعاً، والواقع قولاً معدوم القيمة .
وإذا كنت أردد بيني وبين نفسي، وطيف روحك طيَّ روحي: عيد سعيد، نوروزك مبارك، وجهك مبارك، جسمك مبارك، صوتك مبارك، اسمك مبارك، خطوك مبارك، ظلك المجنَّح بالعبق مبارك، نفَسك مبارك، ابتسامتك مباركة، شعاع عينيك الفاخر مبارك، كلة مباركة يا أمي، فليقتصر أداء الواجب علينا اثنينا، وكلي ألم وحسرة، أن بنات جنسك اليوم، رغم كل ما يمكن مشاهدته من إمارات طلاقة أرواحهن مغلولات الروح، يمضين من تعرية روح إلى أخرى.
أعلم أن الذي أخبرك به، ربما يثير حفيظة والدي المرحوم المدفون بعيداً عنك، لأسباب لا يد لي فيها، كونَي أشير إلى ما هو مفجع، ويمضي بنا في التاريخ المعاكس، سوى أنني وجدتني من باب الواجب متحفزاً لأن أنقل إليك حقيقة ما نحن عليه، وما كان في مقدوري أن أسمِعك ِ ما سمعته، لولا ضغطي الذاتي على نفسي، والرجوع بنفسي، بذلك، إلى الوراء، فأكون ذلك الطفل الصغير، الذي لا يأبه للقواعد الرصينة الحصينة المتينة المكينة المعزّزة بجهامة عبوس الرجل المعتد بجنسه الذكوري، بمقدار ما يخلص لطبيعة طفولته، دون مراجعة معينة لما يترتب على قوله، ولعلي بالطريقة هذه تحديداً، أسعى ما استطعت، إلى مكاشفة ما أراه مغيّباً، أو محجَّباً، أو يحظّر الاقتراب منه، وتهجئته، بخصوص بنات جنسك، أو ما يخص عراضات جنسي، لأكون صنيف التاريخ الذي يخرج على اسمه وعلامته الفارقة، ويكون لك، ومن هن من صنافة جنسك، ما يليق بهن، أو يحق لهن الحضور من خلاله، وهن متكاملات العقل، بهيّات الروح، كما هنّ أصلاً !