«القديسة الإيزيدية بيكَي في تاريخها الطويل: دراسة انثروبولوجية- تاريخية» الإصدار الأحدث للباحث إبراهيم محمود

أحدث إصدار للباحث إبراهيم محمود، بعنوان ” القديسة الإيزيدية بيكَي في تاريخها الطويل: دراسة انثروبولوجية- تاريخية ” عن مركز لالش الثقافي والاجتماعي، ويقع في ” 366 ” صفحة، من القطع الوسط، وتجليد أنيق .
ويعتبَر الموضوع جديداً في ميدانه، بناء على دراسة جامعية، وبالتركية، ليشار باتمان، وتحت عنوان ” بيكي القديسة الإيزيدية الخالدة من الكورد المضطهَدين ” وتاريخ نشر الأطروحة ” 2014 ” دار نشر Tevnê.
ومقدّم الإطروحة هو يشار باتمان  Yaşar Batman، وهو من مواليد ” 1968 ” باتمان أنطاكيا.
إن طريقة تناول باتمان لموضوعه، وهي بدقتها، وعمقها، وتشعُّب أبعادها، في التركيز على شخصية بيكي، ومن موقع صفة القداسة التي أُسنِدت إليها، لأنها تستحق ذلك، وتوسيع دائرة السؤال الذي  خُص بها كل ما يتعلق بعقيدتها، ومن كانوا يشكلون أساس عشيرتها دنان ” دينا في الكتاب ” وفي رقعة جغرافية لها شهرتها في انفجار أحداث درامية” ويران شهر ” وكيف أنه بذكائه الأكاديمي، أفلح كثيراً في إماطة اللثام عما هو خفي تاريخاً وجغرافية، جهة موقع الإيزيدية في تلك الناحية، وتداعياتها، وارتباطها بالخارج، حيث ينتشر الإيزيدية ” في شنكال سنجار، خاصة “، وتأثير هذا التحول القسري على الإيزيدية أنفسهم، دون فصله عما جرى، جهة هذا الإكراه والعنف في مراحل تاريخية وأمكنة جغرافية مختلفة، ليكون فضل هذا الكشف عائداً إلى الباحث عدا عن جانب الإخلاص لمتطلباته البحثية من شجاعة رؤية، ودقة توصيف، وسياسة كتابة نافذة المفعول، ليكون هذا العمل، وكما أشير إليه، في التقديم للكتاب، فريداً من نوعه.
وقد رحل فجأة وهو في أوج عطائه، سنة 2022.
وقد جرى التوسع في الموضوع، في ضوء الدراسات الحديثة، وربط ما كان بما هو معاصر، على صعيد تحدي الشخصية الإيزيدية دفاعاً عن هويتها القومية والمعتقدية .
أما عن الفهرس، فيتضمن العناوين التالية:
واجهة ضوئية
علامة قائمة
الإيزيدي والماء
في مفاتحة المجهول- المعلوم
هذه الجغرافيا…هذا القهر المتنوع
بيكَي على مسرح التاريخ
جسد القديسة البطلة من منظور الألم
 مسح جغرافي وتاريخي للمنطقة
ساعة إعلان الحقيقة
هل من قول مأمول في المعتبَر مختَتم الكتاب؟
ملحق الكتاب
سيرة ذاتية للمؤلف
ومما جاء في التقديم:
قبل عدة عقود قرأت فقرة لافتة في كتيّب عن الماء، ورد فيها أنه من السهل الإشارة إلى الماء، أن تسمّيه، إنما من الصعب تعريفه.
طبعاً، يمكن أن يقال عن أنه عبارة عن سائل، وأنه، كيميائياً، يتكون من ذرتيْ هيدروجين وذرة أوكسجين. لكن ذلك ليس هو التعريف المطلوب. ربما، هكذا، يكون الموضوع المرئي والمحسوس والذي نتعامل معه على مدار الساعة، وهناك ما يشده إليه، ويمتحن المعني به في نطاق المجرَّد، حيث العلْم، أي نعرفه بحكْم الخبرة، ولكنها خبرة حسية، أما على صعيد التعريف، ففي ذلك معضلة العلم، وربما طريقة تفكيرنا في اسم شائع كهذا.
أشرتُ إلى الماء، وما فيه من حضور بيننا في واقعنا الحياتي، ومفاجأة السؤال المنصبّ على التعريف. طالما أنه يواجهنا بما لم نتهيأ له، أو نحسب له حساباً. فالماء يمثّل نسبة كبرى في تكويننا العضوي، ورغم ذلك لا نعلم بحقيقته كثيراً( وهذه مفارقة طبعاً !)، ليكون مثال الماء الكبير أهمية لنا، مدخلاً للحديث عن الإيزيدي، عن الكوردي الإيزيدي تحديداً، وكيف أننا نعلَم بأمره الكثير، كيف لا ونحن جميعاً كورد، باختلاف الانتماء الديني. نراه، نجالسه، نقيم معه علاقات مختلفة، ننسج حكايات، أقاصيص، نتشارك في هموم ، نتشارك في تاريخ يجمعنا ناحية الاثنية، ورغم ذلك، كما هو سؤال الماء: هل يمكن تعريف الإيزيدي كما هو؟
ألا يختلط بالتعريف ما هو حسي ليحول بين المحتوى العلمي الفعلي وما هو مطروح في الواقع؟ نلاحظ أن الماء لا لون ولا طعم ولا رائحة له. هل تم النظر إلى الإيزيدي بعيداً عن حكم العاطفة والأحكام المسبقة، وعلى أنه كيان مستقل بذاته جهة الشخصية ومكوناتها التاريخية، الدينية، الثقافية ، الاجتماعية، النفسية، السياسية، والفكرية، كما هو…الماء ذاك…إلخ ؟
كيف يجري تعريف الإيزيدي؟
غالباً ما يُعرَف به على أنه الآخر البعيد والمقصي الذي يحاط بالشبهات والشكوك والتكهنات. إنه الآخر الذي يعِدُ بما ليس فيه. ويُنظَر إليه بما ليس فيه،  ويطلَب منه مما ليس فيه، ليصار إلى تقديمه بما ليس فيه ومنه… إن هذه الحالات تشكل ظاهرة مسجَّلة في التاريخ السائد في أوساطنا، وعلى أكثر من صعيد، حين يصار إلى تنميطه، أو تثبيته ضمن إطار: معتقدي، ثقافي، ونفسي، ومحاولة تأبيده، تعبيراً عن موقف مستدام منه، وهو ما نتلمسه كثيراً في الأدبيات الدينية والاجتماعية والثقافية المتداولة .
يجري التعبير عن الإيزيدي بصورة متناقضة: بوصفه الآخر، وهو المغاير في الحالة هذه عنّا( أي نحن الذين نعتبر أنفسنا عالِمين بأمره، مدركين لحقيقته من النواحي كافة، من الجانب الديني ذي الدور المفصلي في ذلك، وتداعياته الاجتماعية، وتهيؤاته النفسية الشعورية واللاشعورية، جرّاء تراكمات تاريخية، بالتأكيد، كورداً وغير كورد، مما يخالطونه، أو يجاورونه هنا وهناك، حيث يعيش ومنذ زمن طويل )، سوى أن هذه المغايرة، من زاوية أخرى، تكون معتِمة، محوَّرة، نابعة من تلوين ثقافي يقوم على أحادية الرؤية، لتكوّن له صورة كما نريد نحن، لحظة إقصائه عن حقيقته الفعلية .
أن يكون الإيزيدي الآخر المغاير، ففي ذلك فضيلة لا أسْمى منها بالمفهوم الأخلاقي، سوى أن الدفع به إلى خانة المغايرة كلياً، في سياق تجريده مما ينسّبه إلى عالَم مختلف،  لا بل ومخالف لما هو معهود من قبل المنتمين إلى دين مغاير، وفي نطاق التراتبية القيمية، يفقِر العلاقة في عمومها، ويكون العنف عرّاب التصنيف القيمي أو الاعتباري بامتياز . 
ليس التناقض المحوري الذي يستشرف بنا ما هو متنوعُ المسارات تاريخاً، اجتماعاً، سياسة، فكراً، علماً وتربية، هو الذي يستحق النظر في بنيانه القاعدي، أو كيفية نشأته بالصورة المقدَّمة هذه، إنما الذهنية التي تفتقت قريحتها عنه، وطرحته بالطريقة هذه، في تلك الثنائية غير المنظور إليها: الإيزيدي كما ينظَر إليه، والإيزيدي كما يعتَّم عليه، وارتداد التناقض هذا إلى سياق تقنية الشخصية الجمعية التي تتموضع في مرتبة لا تعلوها مرتبة، ومن خلالها يصار إلى إطلاق أحكامها على الآخرين، بوصفها نابعة من الواقع. وهو الواقع المرصود من خلالها، وليس كما هو، لأن الواقع تنوع واختلاف. إن وجود آلاف مؤلفة من البشر في مجتمع معين، لحظة النطق بالحقيقة التي تنير فضاءهم النفسي والعقلي، يعني وجود آلاف مؤلفة من نِسَخ الواقع، ولكل نسخة طبعتها الخاصة، ومادتها الخاصة، ومحتواها الخاص، وموقعها الاعتباري الخاص. تلك هي شهادة الطبيعة نفسها في تنوع مكوناتها، جهة المرئي واللامرئي فيها، إن أردنا التعامل معها علمياً: من مأخذ فيزيائي، كيميائي، حيوي، أو فلكي. لا شيء يشبه سواه، جهة التدقيق في الاختلافات.
ربما بالطريقة هذه تشرئبُّ العنصرية، بتنوع مراتبها وعصائبها ومراكبها عنقَها، وتفرض عنفها السلطوي الضارب والضاري. ومن هذا المدخل الواسع في مقدور أي ساع إلى الحقيقة وهي بمفهومها المركَّب، أن يباشر تحرّي بنية التنوع وأصل الخلاف والاختلاف، أي ما يجمّد الاختلاف ح ظلة الخلاف ، وما في ذلك  تضييق الخناق على ما هو علمي في الحياة، لا بل ومن إفقار فظيع ومريع لكل ما يصلنا بالحياة، وما بيننا في سلوكياتنا اليومية: في الشارع، الحديقة، المؤسسة، البيت…إلخ، وما يقصينا عن أنفسنا وبأنفسنا بالذات، كما لو أننا نرفض الاعتراف بالتنوع، حيث إن أولى فضائله تنعكس على تعاملنا، ومن البداية على أنفسنا، وفيما بيننا، وما لذلك من متعة الشعور بهذه الرحابة العائدة إلى التنوع والاختلاف، بهذا الفضاء الحيوي الذي يمنحنا مقدرة أوسع في النظر إلى داخلنا وخارجنا، مآل ذلك: الشعور بالسعادة في روعة معطياتها !
أين يتموقع الإيزيدي واقعاً؟ ليس من شيء في شيء إن جاز التعبير. لعله الحرمان الكارئي بمردوده القيمي، باعتباره إنساناً، كما هو أي إنسان في أي رقعة في العالم. حيث يجرَّد مما هو عائد إليه، وما يمنحه بُعداً شخصياً، يحدّد له صورته ذات الأبعاد الثلاثة من الداخل، ويُصغى إليه، وينظَر تجاهه، ويفكَّر فيه من موقع الاختلاف، وهو ما يفتقده ليس لعدم كفائته في تجسيد خاصية الاختلاف، وتمثيله الوجداني والتاريخي والنوعي كونه إيزيدياً، وإنما لأن هذا” الآخر ” الذي شُد إليه، وجرى تأطيره المزمن، ضمن مواصفات لا صلة له بها لا من قريب ولا من بعيد، إنما هي إسقاطات نظرة هذا الآخر الذي يعتد بفسه، وهو يمنح نفسه أصالة الوجود، كأفضل موجود، وبأفضل مكوّن فكري ونفسي .
النظر إلى الإيزيدي، باعتباره الآخر الذي لا يجارى، كما نوَّهت، لا يعبّر عن كرَم أخلاق، أو سوية تكوين نفسية، وإنما يعرّي بنية الثقافة في تعدد مكوّناتها، حيث يصار إلى طرحه خارجاً وبعيداً، وما يترتب على ذلك من إيلام موجع له.
إنها شهادة تاريخ بتعدد لغاته، سوى أن القاسم المشترك الأكبر هنا، هو الاتفاق على تنميط صورته، ولصقها به .
هَلَا حاولنا ذات مرة، ذات يوم، ذات لحظة، التفكير في الإيزيدي، ليس كما ننظر إليه، فينظر إلينا بالمقياس عينه، وإنما كيف يكون كما هو، في مختلف حالاته ومناخاته النفسية؟ أن نفكّر فيه وكيف يفكّر هو فينا، نحن الذين نقصيه عنا، من موقع الخلاف، وتنحيته جانباً وبعيداً، مأخوذين بالتوجيه الديني، وكما نفهمه ونطبّقه نحن، وليس كما هو، حيث ينتمي إلى تاريخ، وإلى موقع، وشبكة علاقات، لا يلغي التمايز النوعي، الجنسي والاثني طبعاً، إنما يلوّنه ولا يكوّنه، خلاف ما هو معاش ومتداول هنا وهناك. كما لو أنه في البدء كان الدين، وهو السابق على من يدين به أو يكون مستهدَفه وحامله .
أن يكون الإيزيدي ضحية تاريخ، ومن أكثر من زاوية، الإيزيدي هذا الذي نتحدث عنه بلغة الجمع، وهو بلغة المفرد، رغم أنه مفرد بصيغة الجمع طبعاً، دون نسيان جانب المفارقة في طريقة تعبير كهذه، ومزالق الرؤية الاعتبارية، لحظة اقتفاء بنية هذا المنحى من القول والكتابة، فلأنه لا يحتاج إلى برهان تاريخ، أو شهادة تؤكد هذا البعد التضحوي والمأساوي في شخصه، بكامل حمولته الانسانية، حسبنا أن نتحرى ما هو مكتوب، وما هو مرئي في جهاتنا المكشوفة، ليتأكد هذا التحويل الديمومي له، تحت وطأة معتقدات مركَّبة، وما يمازجها من عنف، وتبرير مثاب عليه في تطبيقه.
طبعاً، ليس الذي تعرض له في حمّى مطلع آب 2014 من غزو داعشي تصفوي، ومتضمناته من عنف دموي وقتل جماعي، وسلب ونهب واغتصاب وأسْر، وخطف نساء وأطفال، في سنجار وأبعد، وفي وضح النهار، وأمام أنظار العالم، المعتبَر متمدناً وغير متمدن، ومعروضات شاشات التلفزة في جهات المعمورة الأربع، والدلالة الرهيبة لذلك، وتداعيات هذا الغزو الإرهابي بعائده الديني الإسلامي وفتاوى القيّمين عليه، أكثر من غيره، حيث ذاكرته الجماعية تنزف دماً وتولّد آلاماً، وتثير مخاوف، إلى هذه اللحظة، ليس هو ختام خوف الإيزيدي على نفسه أهلاُ ومجتمعاً، مكاناً وزماناً، إنما كما علَّمته ذاكرة المكان، حلقة مضافة، ولها نوعيتها، إلى سلسلة الحلقات التي تعرّف به: أضحية التاريخ المتجددة زرافات ووحداناً، وليس من يقين تاريخ، يخص هذا الآخر المعبَّأ بالعنف في تنوع أساليبه، على وجود نهاية لهذا الدم المسفوك فيه . 
العيش تحت وطأة الفرمانات، ظاهرة تاريخية، يعيش الإيزيدي أشباحها وأوجاعها وتوتراتها، وهو ممتد إلى الآتي في ضوء الموجود، ومن قبل هذا الكم الهائل من الذين يتحدثون لغات كثيرة، ويركّزون عليه بوصفه ممثّل ديانة هي الاستثناء في التاريخ الشفاهي والمكتوب: الإيزيدية، ديانة نسيج وحدها، ولها قواعدها، ومضمونها الأخلاقي: الدنيوي والأخروي، إنما تحتفظ بخصوصيتها، وهي تصدم من يصعب عليه تفهّم ديانة كهذه، لها تاريخ نشأة ومجتمع وثقافة بالتأكيد .
أتحدث عن تجربة حياتية لها عمرها المأخوذ في الحسبان، تجربة، ربما تضيء ما تحدثت فيه حتى الآن. وعندما أسمّيها تجربة حياتية، فكونها موصولة بمجتمع، له مكانه وزمانه، وفيه من يعرَفون بمعتقداتهم وأفكارهم وشعائرهم، وأنا أنتمي إلى هذا المجتمع، والذي يمتد في مساحة جغرافية واسعة، ليست واحدة في بنيتها التضاريسية، أو اللغوية كذلك. ثمة الكورد، العرب، السريان، والأرمن .
أركّز على ما هو كوردي، لأنه يعنيني في الصميم، لأن فيه يتداخل الديني والقومي، إنما يتقدم الديني، في المجمل، على ما هو قومي. والديني هنا، في تطبيقاته، يغيّب الواقعي كثيراً، ويطرح تصورات مستقدَمة، تؤثّر في التكوين النفسي والعقلي، وما يستدعي هذا التأثير من علاقات لها مسار مغاير لما هو الواقع الذي يُسمّي من فيه وما فيه ثقافياً .
هذا التوجُّه المعتقدي، وطابعه التغليفي للنفس، يدشّن علاقات، ويمثّل ذاكرة جماعية، وما فيها من ثواب وعقاب، جهة الالتزام بحرْفيتها، أو قانونها الجماعي : الديني والمعتقدي، وآثاره الفاعلة في التقسيمات الاجتماعية وتسخينها.
جهة العلاقة، لا أسهل من أن يُسمّي كلٌّ ممن ذكرت. سوى أن المسلم والذي يضم هنا العربي والكوردي، والمسيحي، والذي يضم بدوره: الأرمني والسرياني، ودون نسيان اليهودي، رغم الحضور القليل له، هو الذي يحتفظ بتاريخ له في منطقتنا: قامشلو والجوار، هؤلاء ممثلو أديان تعرَف بالسماوية، ليبقى الإيزيدي الاسم الغريب، والباعث على الغرابة، والمثير لتصورات، وخيالات، لها صلة مباشرة بأصل الشر، ومن يمثّله في بنية النص الديني السماويّ الاعتبار.
لا يهم هنا، ما إذا كان الإيزيدي وحدانياً في دينه وفي معتقده، حيث إن اسم الله لا يفارقه. لكن نوعية الصّلات بما هو إلهي، والمساحة ” العلْوية ” الفاصلة بين الإيزيدي وخالقه، وما يعنيه الشر  وممثله ” الشيطان ” يطيح بكل الذي يتهجاه الإيزيدي، ويقصيه عما هو توحيدي بالذات. أي كونه المؤمن بإله واحد ” هو الله “، سوى أن نظرته إلى ممثّل الشر السابق ذكره، لها موقع اعتباري في العلاقة بخالقه. ليحضر طاووس ملَك، معزّز عمق الخلاف بين قائمة الديانات الآنفة الذكر، والتي تشترك في تسمية ممثّل الشر، أو حامله اللامرئي والذي يتسلل إلى النفوس والرؤوس، أو يوسوس في الصدور حرْفياً، ولا يعود ينظَر إلى الإيزيدي إلا من هذا الموقع، كما لو أنه المجسّد الحي تفكيراً وتدبيراً لهذا الشر الذي جرى ويجري التخوف منه، وجعْله محورياً على الأرض، وفي كيفية ارتكاب المعاصي، كما لو أن مختلف المحاولات التي تبذَل ومن جهة المسلم أكثر من غيره، وللكورد موقعه في هذا المضمار تاريخياً، في كيفية تكوين الصور التي تخص الإيزيدي، ومن موقع مغاير لما هو عليه، وبناء الحكايات ونسج الأقوال والأمثال والأقاصيص وتلفيقها، وبثها هنا وهناك، كما لو أن كل ذلك أصل من أصول الجهاد، بمرجعه الديني، وتسويغ لكل قوة باطشة، أو نيل من الإيزيدي، وقد جرى اختزاله، وتفعيل أثره في ممثل الشر الموسوم، وما في ذلك من ثواب مشدَّد عليه . 
إنها الطريقة الأقدم، الأعرق، والأكثر اعتماداً في التاريخ، على صعيد كتابة التاريخ عن الشر وكيف يتم توصيفه، وتبعاً لأي مقياس، يتجري التعامل مع الإيزيدي شخصاً دون أن يكون كسواه من بني البشر، صاحب عقيدة، دون أن تكون كأي عقيدة تصل المؤمن بها بالخالق الأوحد، وتسمّي ممثل الشر ذاك، وليس كما هو اعتقاد الإيزيدي بصدد مفهوم الشر، وما يعنيه طاووس ملَك رمزاً ومكانة وتعبيراً وعمق تمثيل .
هذا التباعد والذي تشكّل وجرى تأبيده إلى الآن، بين الإيزيدي ومن عداه، ممن أشرت إليهم سالفاً، ليس للإيزيدي من دور فيه، أو رصيد قيمي، أو سهم اعتباري، بمقدار ما يكون المنذور الدائم للعقاب ولصنوف العنف وعوائده واقعاً .
ثمة أكثر من صدع لا يمكن ردمه بسهولة. ويظهر أنه وجِد بفعل فاعل طبعاً ليبقى، وليؤدي دوراً في العلاقة بين الذين آثروا أن يحفروا للعنف العائد إليهم مجرى، يسيّرون فيه الكثير ممن يعانون منه، ويكابدونه، كما لو أن : العدو هناك، وهو المرئي، وليس مرئياً في نشأته جهة ممثل الشر، ليكون ذلك ضماناً لعودة التوازن إلى المجتمع، أي حيث ينظر إلى الإيزيدي من الخارج، بمقدار ما يحوَّل مصدر الخلل في المجتمع ومن قبل المشدّدين عليه بوصفه المنذور لعنفهم، إلى الخارج بالمقابل، كما نتلمس في سلسلة الفرمانات التي توجّه من قبل السلطات المتنفذة، وأدواتها: التابعون لها  حُكْماً!
نعم، أستطيع التأكيد على حقيقة معاشة، وهي المتمثلة في الفصل بين الكوردي والإيزيدي، ومن معطى ديني بجلاء. ففي المنطقة التي شهدت طفولتي، صباي وشبابي، كان من السهل سماع من يقول: كوردي، وإيزيدي، وليس : كوردي مسلم وكوردي إيزيدي، وعنف هذا التمييز، ومن يقف وراءه. أكثر من ذلك،  ما كان يشار إلى الإيزيدي باسمه مباشرة، إلا نادراً ولعقود من الزمن، جرّاء تأثير المعتقد الديني: الإسلامي العملي. بمقدار ما كان يشار إليه عبْر ربطه بعلامة نبْذ ” حاشا ” وهي مفردة تعني تجريده مما هو إنساني، ولا بد أن ذخيرة تاريخ جماعية وراء هذا النوع من التسميات . 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…