عقلية جاهليّة في القرن السادس الميلادي

فازع دراوشة| فلسطين

قال طرفة بن العبد رحمه الله :
ولا تذكرِ الدهرَ في مجلسٍ
                 حديثاً إذا أنتَ لم تحصِهِ
ونُصَّ الحديثَ إلى أهلِهِ 
                 فإنَّ الوثيقة في نَصِّهِ
بيتان، من وجهة نظري المتواضعة، بالذروة في البيان، و”إن من البيان لسحراً”، كما قال سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم.
ولولا تأكدي أن قائل البيتين وفق المراجع الأدبية هو طرفة بن العبد، لما اعتقدت أن القائل وُلد وعاش بما يسمى العصر الجاهلي. فطرفة- رحمه الله- ولد في العام 539 ميلادي، وتوفاه الله  قتيلا سنة 564 ميلادي، وعليه يكون قد عاش على سطح هذه الفانية خمسة وعشرين ربيعا بما فيها طفولته. وترك لنا من الشعر الجميل (ومنه  واحدة من المعلقات، سبعا كُنَّ أم عشراً) ما خلّد اسمه في السِجِلّ الشعريّ والأدبيّ العربيّ.
ومع علمي التام بدلالة المصطلح (الجاهليّة)، إلا أنني تعتريني حالة من عدم الراحة نحو هذه التسمية غير الموفقة وأميل لتسمية أخرى ولتكن: “ما قبل الإسلام”. ذاك أن بفترة ما قبل الإسلام  من الأمور الإيجابية ما قد يعادل نقيضَها أو يَبُزُّهُ أحيانا. وليس موضوعي في هذه السطور عقدَ  موازنة بين الأمرين في المجالات كافة.
والجميل بهذين البيتين أنهما يلخصان بثمانية عشر كلمة فقط موضوعا من أهم المواضيع في الحياة عامة، وفي العلم والتعلم والبحث العلمي خاصة. فالبيتان ينصّان بكل جلاء على التوثيق وعلى الميز والتمحيص وعلى نسبة الأمور لأصحابها ومبدعيها. وبهما استخدام نادر لمفردة “الوثيقة” والتي عنى بها التوثيق، ولا إخاله عنى “الوثيقة” بمعناها الدلالي الحديث والمجايل.
وكم قرأنا، وكم سمعنا، وكم عايشنا قصصا تفيض بنقيض ما دعا إليه طرفة رحمه الله. فكم  منتحلِ شعرا أو نثرا أو فكرا أو أفكاراً أو آراء ليست له البتة، وهذا أمر معيب وخياني، ونقضاً للأمانة التي حُمِّلها الإنسان وتحملها جهلا واعتباطا.
وثمة من يسرق  الأفكار دون إشارة لصاحبها، ولعل هذا أسوأ من سرقة النص كاملا؛ حيث تضيع الأمور وتختلط “أنساب” الفكر والعلم.
وفي جميع الأحوال، يتوجب على الراسخين في العلم والاطلاع والمعرفة نسبةُ الأمور إلى أصحابها يحكمهم في ذلك ما جبلوا عليه من خلق قويم وعقيدة راسخة وأمانة قوية وعلم نافع.
وكم أتمنى أن تحفل مقرراتنا المدرسية والجامعية، وحصصنا التلفازية بمثل هذه الأشعار كي تصبح شائعة ومستخدمة وتغدو جزءا قويا من التكوين الثقافي للناشئين العرب، وغيرهم من المتعلمين والمثقفين.
وما ذلك بالأمر المستحيل التحقيق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

أعْتَذِرُ

لِمَنْ وَضَعَ الطَّعَامَ أَمَامَ أَبِي

أَكَلَ وَابْتَسَمَ وَشَكَرَ رَبِّي

أَعْتَذِرُ

لِمَنْ قَدَّمَ الْخُبْزَ

لِأُمِّي وَطَرَقَ بَابِي

لِمَنْ سَأَلَ عَنِّي

كَيْفَ كَانَ يَوْمِي وَمَا…

ماهين شيخاني

هناك لحظات في حياة الإنسان يشعر فيها وكأنّه يسير على خيط رفيع مشدود بين الحياة واللاجدوى. في مثل هذه اللحظات، لا نبحث عن إجابات نهائية بقدر ما نبحث عن انعكاس صادق يعيد إلينا شيئاً من ملامحنا الداخلية. بالنسبة لي، وجدتُ ذلك الانعكاس في كتابات الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913-1960).

ليس كامو مجرد فيلسوف عبثي…

فراس حج محمد| فلسطين

المقدمة

تُمثّل رواية “ميثاق النساء” للروائية والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الآداب عام 2023، إضافة نوعية في المشهد الثقافي العربي المعاصر. لقد نجحت الكاتبة في تقديم عمل أدبي عميق يتجاوز كونه سرداً فنياً ليلامس قضايا اجتماعية ونفسية حساسة، خاصة في مجتمع يتسم بالخصوصية والانغلاق مثل المجتمع الدرزي في…