أوّل الأحلام آخر الأحلام

 خالد إبراهيم

 في كلّ مساء أدنو من خزانة ملابسي، متنشّقاً عطري القديم، على قميصي الكاكي، وطقمي الرسمي، الحديدي اللون، أتجرّأ، أرتدي ثيابي، وكأنني سألقي خطاباً أهدّد فيه، أقتص، وأغيّر، كأنني قاض في محكمة، محكمة الجنايات العليا لدور التشرّد ودور الدعارة والعبادة. أتهيّأ، ألوب الغرفة طولاً وعرضاً، عارياً من ضحكة شاردة، وابتسامة صلدة، يراودني طنين وأنين ووتين ويقين ألا أعود حين تسابقني وردة ذابلة، نحو مقبرة، أو تحت وطأة أفق بعيد المدى.
 أهمُّ بالخروج، أتوقّف كعادتي أمام جهاز القهوة، ملقياً نظرة على منفضة السجائر، وعلبة الكبريت التي تشعرني بالطمأنينة منذ الأزل ولا أدري أن لماذا؟، أتغلّب على حيرتي، شاحذاً ما تبقى من قوّة مغروزة في عمودي الفقري المصفّح، متأبطاً حاسوبي الصغير، وأخرج من نطاق العزلة، متوجّهاً إلى براري الأثير، وحيداً تحت جدران العتمة، كي أصل الى سفح غيمة. 
داخل القطار المتّجه نحو عمق المدينة، ومن خلف زجاج النافذة العريضة، يصدح صراخ يثقب الأذان، تأتي إحداهن لتهمس في أذني المصابة بالشلل: ـ من أين أنت؟ تبدو حسناء، ذات بشرة برونزية، يقف على نهديها ألف قطار، وملايين المحطّات، بيد أنني لا أشعر بالأمان، في عينيَّ المبتلتين حزن يسبق الدمع عبر لهاث يخنقني. حدّقت فيها بصمت مزنّرٍ بالقهر، عدت الى نافذتي، لمعان زجاجها البائس، يترجم إطلالتي الباردة في هذا العالم، ها هي تنظر إلي، وكأنها تقول لي: ـ أي خراب ينثر ما تبقى منك، وأي لامبالاة ترتديك قميصاً أبيض ملطخ بالدم؟. جلست في مقاه لا تعد ولا تحصى، وجرّبت أغلب الكراسي، وما بين يدي هاتين تعب الهواء من صبّار وجفاف الانتظارات المرهقة، مشيت في كل الشوارع مرهقاً وكانت الأرصفة تتلوّن كالأحزان التي هدّت كاهلي وفي كل حزن نبتت شجيرة وسط كل شارع سقطت فيه دمعة. عهدت على نفسي ألا أكتب شيئاً عما مضى، ولكن كل الأشياء تشدّني الى حفر خالية، عطشى الكلمات، عطشى العذابات، عطشى للحنين، للوجوه التي كانت تقول لي: هنا توقّف الزمن. قالت: ما بال هذه الندبة في كف يدك اليسرى؟. ـ لا أدري، أحيانا تؤلمني، وأخرى تحزنني. ـ لا تخف، سآخذك للطبيب، وسنستأصلها. هي لم تكن تمسح كفّي، كان أصبع قلبها ينفرد عزفاً في كف قلبي. حينها قبل ستة أعوام كان الحبّ أجمل، وكنت أجمل. عندما يعاديك حتى الهواء الذي تتنفسه، اخنق نفسك بعيداً، ولا تكترث للنسل، وللنصل. لقد كنت صامتاً، لكنني لم أكن أعمى. هنا وقبل الآن بعام، وفي مدينة البندقية، تحت وطأة يقين مشلول، وحنين سكران، أمام إحدى البيوت التي يطمر رصيفها الماء، وكظهر عجوز محني كان ذلك الجسر المنفوخ يحيط بكل تساؤلاتي.. هناك دفنت أوّل الأحلام.. آخر الأحلام.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…