أنا وإبني

 

د آلان كيكاني

أقلب صفحات الانترنت، وتقع عيني على صورة ملونة لأم كلثوم:
– تعالَ شاهد معي هذه الصورة.
فيبحلق إليها بعينيه المتعبتين بحكم صراعهما المستديم منذ سنوات مع شاشات الكومبيوتر والآيباد والآيفون ويرد:
– ومن هذه يا أبي؟
– إنها أم كلثوم!
فتستقر عيناه في الفراغ ويفتح فاه:
– ومن أم كلثوم هذه؟
– سيدة الغناء العربي. كوكب الشرق …
لا تنم ملامحه عن اهتمام أو فضول لمعرفتها، فأتابع:
– أدمنَ والدك على سماع صوتها في مراهقته وشبابه. ألا تعرفها؟
فيبتسم ويستدير وينصرف إلى أدواته، إلى عالمه الخاص، إلى قوقعته التي بنتها له التكنولوجيا الفائقة حتى بدا وكأنه مفصولٌ عن الواقع…
وكأي أب فضوليّ يجيز لنفسه التدخل في حياة ابنه وشؤونه الخاصة، أقوم بمراقبته بخبث من زاوية عيني. فأراه يركز بصره على شاشة الموبايل وفي أذنيه جهازان مثل حبتي حمص. ثم لا يلبث أن يضحك تارة، ويعبس أخرى… وتارة تتغير ملامح وجهه إلى درجة لا يعود يشبه نفسه! …
هل جنَّ ولدي؟ أسأل نفسي. يا إلهي ماذا أفعل؟… وبعد تفكير قصير أرى أن خير الحلول هو الانصراف إلى مكتبي…
لكن سوسةً ما، لا تنطفئ في داخلي. سوسة امتلاك الأب لابنه. فأعود إلى سؤاله في مناسبة أخرى:
– هل تعجبك هذه الأغنية؟
فيخرج حبة الحمص من إحدى أذنيه ويصغي قليلاً ثم يرد:
– ومن هذا يا أبي؟
فأخرج عن طوري:
– أكاد لا أصدق يا ولدي… هل معقول أنك لا تعرف شڤان پرور؟… هذا الذي أرضعنا حب الوطن وعشق الحرية بصوته الشجي وألحانه العذبة…
ولكي يرد الهجوم بهجوم مماثل ينقر على شاشة تلفونه ويريني صوراً لأشخاص لا يشبهوننا في شيء، كوريين، وأمريكيين، وأفارقة، وهنود ويسألني:
وهل تعرف أنت هؤلاء؟
أعدل نظارتي السميكة أمام عيني وأستسلم.
ثم ينقر على رابط أغنية لم أسمعها من قبل ولم أسمع مثلها ويتابع:
وهل تعلم أن هذه نالت عشرة ملايين مشاهدة خلال اسبوع واحد؟
أتجهم مهزوماً ويبتسم منتصراً ويستطرد:
– واحدة بواحدة!
وينصرف.
أنا في عالم وهو في عالم. أنا في واد وهو في واد.
لكن هل أسكت له؟ هل أتركه يُسرق مني؟ هذا الذي بنيت عليه الكثير!
لا لا، هذا محال. سأعيده إلى جادة الصواب.
أتناول ألبوماً قديماً من الصور وأدعوه إلى المشاهدة:
– هذا جدك يقف بجانب حصانه الكميت. التُقطت الصورة قبل سبعين سنة… وهذه جدتك مع خرافها والصورة عمرها أكثر من ستين سنة. وهذا بيت شعرهما، أنظر إليه ما أكبره… وهذا عمك، بكرهما، عندما كان في الخامسة…
أرى عليه أمارات الضجر والتململ، وسرعان ما يعبر عنهما:
– لكن ما الفائدة من هذه الصور يا أبي….
وفجأة يفزّ كالملسوع ويمسح صفحة وجهه محاولاً تلطيف أثر اللطمة عليها.
أما أنا فأموت في غيظي وألجأ إلى غرفة نومي. ألهث حنقاً.
لكن ما كل من تمدد على سريره نام. من الظاهر أبدو نائماً ولكن براكين الغضب تعتمل في داخلي فأفكر وأفكر:
إنه يسير حثيثاً باتجاه عالم ليس لنا فيه شيء. ومن المتوقع ألا يغار على ابنة عمه غداً فيراها مع غريب دون أن تتحرك شعرة في جسده ويا للعار! من كان يتوقع أن يحصل هذا في قبيلتي؟.. ثم ينبري بعضي ليقول لي، وماذا حققت أنت يا من كنت على استعداد لقتل شخص تناول ابنة عمك بكلمة سوء؟
إنه يمضي إلى الهاوية، إلى حياة لا مبادئ فيها ولا عقائد. إنها كارثة حقاً. هل يمكن للحياة أن تكون دون هذه النواميس؟ لا لا، لا يمكن للحياة أن تكون بدونها… لكن صوتاً من أعماقي يخاطبني: وفيمَ أفادتك المبادئ والعقائد؟ ماذا جلبت لك غير الدمار؟
على هذه الطريقة أحرم جسدي من النوم وأعكر ساعة راحتي
أنهض متشنجاً وأبحث عن حبة بانادول. ثم أمضي إلى عملي.
هكذا أنا.
لا أستطيع السير مع التيار ولا أستطيع مقاومته.
فأراوح مكاني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…