غريب ملا زلال
الأربعاء ( 17-11-2021 ) و في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق غادرنا الفنان التشكيلي رزكار فقي عولا كضحية من ضحايا جائحة كورونا، عن عمر يناهز السابعة و الخمسين ( 1964 – 2021 )، من قضاء رواندوز، كان خطاطاً، و كتب الشعر، قدم أكثر من عشرة معارض فردية، و شارك في الكثير من المعارض الجماعية في كل من ( أربيل -دهوك -السليمانية – رواندوز – بغداد – ايران، سورية، المانيا، بريطانيا … إلخ )، عمل أستاذاً في معهد الفنون الجميلة بأربيل، غادرنا رزكار و هو الذي كان يجعل للفن فتنته، و يوقظه من روحه لئلا يجزم الرحيل قبله، يروض الألوان لتلون كما يشاء هو روحه و روح المكان على مدار الكلام، فهو يتحرك في رحابها برؤية بيانية علّه ينبني عليها خطابه، مأخوذاً بالجدة، مفتوناً بها في غاية الدقة، و كأنه ينجز عشقه و هواه، كأنه يحقق رغبته في إحتوائها، فلا سبيل أمامه ليتجنب البسيط، الطيب، فيطارد الفتنة لإبراز قيمها الفنية حتى تفي حاجاته، و من منطق الإيمان بالألوان و بقدرتها على إنشاد النشيد مهما كانت محاطة بخصال مفعولة بها، فهو يمارس عليها نوعاً من إنفتاحه على دروبها منذ لحظة حلولها في فضاءاته،
لا تخذله ريشته حين يلوذ بها ليرتادا معاً تلك الدروب و تلك الفضاءات علهما ينتشلان منها ما هو طافح بالإندفاعات و الحياة، طافح بالحس الإنساني و الجمالي، ما يضعه في حضرة خيال نشط يرتقي به و بتفكيره، و بشعوره بوصفه تجديد لطاقاته، و تجسيد لقيمه المعرفية منها و الجمالية، و في ضوء تقبله للبدء في رؤية احتمالات مفتوحة لمعايشة أبعاد جديدة من الموضوعات الفنية، و بإمكانات جديدة في مناطق جديدة من العمل الفني من الأهمية بمكان أن يكشف العلاقات القائمة بين مفرداتها وفقاً لمنطق الضرورة اللاموضوعية الذي تنسجم مع دوافعه الصارمة و هي تسبر مساراته مفعماً به و بنفسه التي بقيت أمينة لعمليات تشكل عوالمه الداخلية و لحركاتها المرسومة بصدق بغية التعرف على تفاصيلها بكل مفاتيحها .
رزكار و بدرجة كافية من التجريب يسرد تجريدياته اللونية، تسوده رغبة كبيرة في الوصول إلى حالة من التشبع، إن كان عبر عدد من عوالم الألفة بينه و بينها، أو عبر حالة تجعل منها ( من تجريدياته ) في إمتزاج بشكل تكاملي موزعة على فترات متقاربة حتى يزيد من عوالم الألفة بينها، و هذا ما يزيد من عوالم الرغبة لدى متلقيه في التعرض لها و اكتشافها من جديد و الإستمتاع جمالياً بها، و يسترسل بها، فما ينبعث منها كافية للإشارة إلى روعة أسلوبه، و اتفاقها مع وسائله التعبيرية في إبراز رؤيته و قيمها، التي ستيسر عملية الإقتراب منها و التعرف عليها و التواصل معها، و فهمها، أو التخاطب حولها، فخبراته لا تقف عند مجال التخيّيل و رفع مستوياتها، بل ترفع من شعور متلقيه أيضاً بالاستمتاع و إيقاظ أحلامه النائمة في التخوم، فهو يؤكد أن عدم واقعية عالمه الخيالي له آثاره المهمة في تكنيك فنه، و بأن نشاطه و خبراته الفريدة و الخاصة في دمج أو صهر الواقع الداخلي بواقعه الخارجي تتسم بالحيوية و التلقائية، و على نحو خاص حين تبدأ ذكرياته القديمة بالإنبعاث، و لا تحجب طروحاته الفنية الخاصة التي تجمع بين اللون و حالاته و هو يسترد وهجه و عنفه، أو إبتسامته و رقتها، فالجمع بين الشيء و نقيضه هي من مواصفات العمل الفني حسب تعبير فرويد، فهذا الإهتمام الكبير الذي يفعله رزكار مع خلطات ألوانه نابع من بهجته الإنفعالية كقيمة فنية، و كقطب جمالي نحو تحقيق حاجات تعبيرية له و لمتلقيه معاً، دون الوقوف عند حدود العمل الفني الفردي، بل من خلال مادتها الخاصة، أو لغتها، أو من خلال بنياتها و علاقاتها الداخلية ببعضها التي تجعله يكتسب قيمة جمالية متحققة من اللعب الخاص بالضوء و اللون، التي تجعله يكتسب قيمة معرفية أيضاً حين يعطي كل الأهمية لللاشعور و جوانبها السلوكية، فما يثيره رزكار جمالياً من خلال أعماله و التي يحيطها بنغمات جميلة و ممتعة له و لنا بصرياً يجعل منها معزوفات موسيقية تعمل في تنشيط منابع خياله، مع تحفيز كبير لعمليات الخلق و هذا ما كان يجعله في حالة متميزة من النشاط الدائم و التي تدعو إلى التأمل الطويل .
رزكار فقي يعرف تماماً كيف يحافظ على حقوله اللونية حتى تثمر، و هو على دراية تامة بكل أسرارها، تلك الأسرار التي لا تمنح مفاتيحها إلا من كان عاشقاً لها، و ملهماً بتفاصيلها، محباً لحديثها، ساعياً إلى الإقامة فيها، لا أساس من التعالي، بل على أساس من الحس المشترك و اللغة المشتركة، حينها سوف ينكشف كل منهما للآخر على أنه الأجمل، هذه الفلسفة التي سعى رزكار لخلقها، و لقطفها هي ذاتها التي جعلته يعتمد في إظهارها على إحالاته الذاتية التي تحولت إلى وقائع لونية و تشكيلات تجريدية تطيع أوامره و مشاعره و مواقفه حين توضع تحت مساءلاته، فهو لا يفقد الأسس التي تؤنسن لغته اللونية، و لا يهدرها وراء عزل أو وصف بنيات تجربته، أو وراء ما يهدف منها، بل يؤصل الأسس التي تجعله مستديماً في طريق بحثه، الأسس الضرورية التي يجعل من مشروع بحثه حقيقة معرفية و جمالية محكومة بالنجاح التي بدأت أظهرت بوادرها من إنتقاله من حقول واقعية تعبيرية إلى حقول تجريدية تذهب بك إلى الحد الأقصى من الإحساس الجمالي .