الاضطهاد عارياً في مرآة الحرية .. حول رواية «شارع الحرية» لابراهيم اليوسف

ابراهيم محمود
إن سمَّيتَها رواية تاريخية، تكون قامشلو، وعبر ” شارع الحرية ” عتبتها وحلبتها، تكونُ على صواب، وإن اعتبرتهَا رواية سيرة ذاتية بأكثر من معنى لكاتبها، لن تكون مجانباً للصواب، وإن صنَّفتها في مجملها رواية تسجيلية، تكون محقَّاً ولو إلى حين، وإن قيَّمتَها رواية مكان له اسمه ومجتمعه في مضمار تاريخ معين، تصيب في القول، وإن اعتبرتها هي كل ذلك، لن تجانبك الحقيقة. ذلك هو التقدير الأول لرواية الشاعر والكاتب والإعلامي الكردي السوري ابراهيم اليوسف ” شارع الحرية ” الصادرة حديثاً بطبعتها الألمانية،2017، وفي مائتي صفحة ونيّف، ويظهر هذا الشارع محظوظاً، وهو يستأثر بأكثر من مساحة شارع من مدخل الحرية ومخرجها.
رد فعل أولي 
تُرى، ماذا يكون رد فعلك إن سئلتَ عن اسم شارع اسمه ” شارع الحرية “؟ إن كان لك علم جغرافي، ربما تشير إليه في عاصمة مثل ” القاهرة “، أو ” عمّان “، وهو موجود حقاً. وإن كنت من قامشلو وسئلتَ عن شارع فيها يحمل هذا الاسم أيضاً، ماذا يكون رد فعلك؟ قد تجيب بنعم أو لا. وأي رد فعل سيتشكل لديك، إن سئلتَ: هل يمكن أن يكون اسم شارع كهذا عنواناً كاملاً لرواية؟ حينها، كما أعتقد، إن كنت قامشلوياً: سيشدك الفضول إما إلى سؤال محتواها، أو الإقبال على قراءتها، أو انتظار من يعرّفك بها. 
إنما كيف أعِدَّ لهذا الشارع، وأي نوع شارعي يكون؟ وكيف تشكَّل مجتمعه وهو بامتداداته الجغرافية والثقافية والنفسية والسياسية؟ وأي حضور للحرية في هذا الاسم ومسمَّاه؟ ثم: كيف جاء التعبير عن هذا الشارع بجماده ورماده وعباده مداه؟
أنوّه بداية، ومن باب التركيز على نقطة لها صلة ببنية الرواية، وربما ليكون قارئها على بيّنة احتزازية قبل قراءتها، ليعلم طريقة نسْجها، إلى أن كاتبها أرادها” كما أرى” تعبيراً عما هو شعري ونثري في ذاته، عما هو ماض ومتجه إلى المستقبل، وأن ليس من حيادية، كما يُظن، في الرواية، فهي في مجملها تفصح عن شارع كردي النشأة، وينفتح على جهات كردية النشأة، رغم وطأة اللجم السياسي والإيديولوجي لسلطة تعلن حربها على ما له صلة بالحرية الناطقة بالكردية جهاراً.
بالطريقة هذه، ربما يجد القارئ نفسه متحمساً لتتبُّع الأحداث بمزيد من اللهفة، خصوصاً إذا كان نزيل هذا الشارع ذات يوم، على تخومه، أو حظي بزيارته والتقى بأهليه، واستحق حضوراً في أرشيفه، أو ينسكن بإلحاح فضول لا يقاوَم لمعرفة ما هو مسمَّى فيه وكيف.
وهنا لن يكون الروائي ابراهيم اليوسف سعيد الحظ، هادىء البال، كما يعتقد، وهو يتابع شغف قارئه في الانتقال من مشهد إلى آخر، من اسم إلى آخر، لأن لكل اسم موقعاً، ولكل موقع جانب تقدير اعتباري، وفي إثره سؤال منطقي ما عن مغزى هذا الإدراج أو الإلحاق أو التوطين للاسم وكيف.
فالشارع هذا شارع ابراهيم اليوسف قبل أي كان، رغم وجود مئات الأسماء المعلَنة بالدقة ومواقعها، وإشارات تزيدها توضيحاً، فهو إذ انشغل بكتابة روايته هذه، لا بد أنه استند إلى لائحة تقديرات لبَلورتها بصورة ما، وهو وإن اعتمد منطق ” مكر ” في الإنشاء الروائي، بجعله حاضراً في إسناد السرد إليه، ومفارقته، كما سنرى، إلا أن ذلك يزيد في ” بوليسية ” حبكتها.
وإن جارينا الفرنسي جان ستاروبنسكي بالتفريق بين كل من المبنى والمعنى، تبيَّن لنا السعي الدؤوب للروائي، من خلال الرهان على المعنى في جعل السرد حاضراً بماضيه وما يتحصَّل له تالياً، معنى تفكَّره وتخيَّره كما تدبَّره لجعل السرد مقوداً بالمعنى، وإن كان هناك مبنى حاضر من خلال وقائع وأحداث يمكن لأي كان، ينتمي إلى المكان ذاته تحديداً، أن يقول: أنا أعرفها، أعرف ذلك جيداً، أنا شاهدا عليها، لكن تلاعباً بالمسار وحضور الاسم هذا أو ذاك وغيابه جزئياً أو كلياً، أو دورياً، يخضع لسلطة أدبية، ذوقية تخص المعنى المتشكل في واعية الروائي، وما يعنيه ذلك من التنوع الهائل في طرق تمثيل ” السيرة الذاتية، وهي ” كيان مركَّب بين القول والتاريخ ” كما يشدّد عليه ستاروبنسكي في كتاب أثير له، وهو” النقد والأدب، الترجمة العربية،1976، ص81 “.
تاريخ يمضي به إلى الماضي، وقول يقوده إلى الحاضر، ويستشرف المستقبل، وتاريخ يُسمَّى من خلال وقائعه، وما هو مستبطَن فيه، وقول يخرِج الكاتب من صمته، وكأنه حاضر أمامنا.
كما لو أنه أراد، أو يريد، من قارئه، أن يعيش عذاباً يتناسب ومرارة الذاكرة، وحرارة القول الذي يُسمّيه كمتورط في الكتابة، مواطن رواية رئيس، لا بل ربما القيّم على الحياة والموت فيها هنا وهناك، حتى يتسنى له الدخول في عالم شارعه، ونهرية الحياة فيه وصخبها وشُعَبها، لعله اسم فخ، شرَك منصوب لقارئه ليزداد وعياً بمتطلبات قراءة رواية تعنيه، وتريده في مستواها.
في سياق المعنى
ابراهيم اليوسف، مرئي كثيراً بتأكيد المعنى الذي يشده إلى فكرة رواية تعتمد التجريب رغم وجود سمات نمطية في بنية السرد، حيث تظهر أحداث ووقائع تاريخ وبشر كرد إجمالاً بأسمائهم، وصدامات مع سلطة قاهرة تستبد بالمكان وأهليه، وربما كان استقرار الروائي نفسه إلى جانب عائلته في منفى اختياري هو الآخر نظير كثيرين، كثيرين جداً، أي ألمانيا، منذ عدة سنوات، ترجمة دقيقة لهذا الإقبال على كتابة رواية تبقي المكان كما لو أن عسف سياسة النظام ومن والاه لم يؤثر فيه، ربما أيضاً تعبيراً عن معايشة تحمل نبرة التصدي للغياب وتفعيل لغة الحضور.
وهو في إجرائه هذا يحاول التغلب على نمطية السيرة الذاتية بمناورات على الأسلوب نفسه، أي ما يجعل القول نفسه منقسماً على اسمه، وما يجعل القارىء ذاته في مواجهة ما يسمّيه وينفيه.
ذلك ما يخضع الاستعداد للقراءة متعدداً في التفاعل وعملية استقصاء الشخصيات وظلالها.
ما يأتي في الاستهلال يتطلب استشعاراً عن بعد جهة المشار إليه قيمياً (لا خيرَ في حبْرِكَ إن خلا من حبِّكَ ). إذ ما هذا المداد الموصوف ليكون مستعمله أهلاً له؟ حبر من نوع آخر.
وربما ما يحرّر القارئ من سيطرة النمطية وتداعياتها في إشارة تتطلب تدقيقاً في مضمونها، من خلال كلمة ” تصريح “، وموقعها من إعراب المعنى (بعد انتهائي من كتابة مخطوط الرواية، أدركت وجود صفات مشتركة عديدة بيني وبين بطلها، ما جعلني أطلق عليه اسمي، تجاوزاً. أعترف أن هذه المحاولة من قبلي، لم يستسغها شريكي في البطولة، ما دفعني لأن أعِدَه بإعادة الاعتبار إليه، في عمل روائي ثانٍ..!.
اقتضى الاعتراف
التوقيع:
المؤلف الافتراضي. ” ص 3 )
سيسأل القارئ الحِرفي نفسه، كما يكرر سؤاله: هل حقاً ” تمَّت ” العملية هكذا؟ قبل البدء بالمخطوط من خلال إنشاء متخيَّل، أم بعده؟ لأن تحديد الجواب يوجّه الرواية في مسار مختلف بالتأكيد، خصوصاً وأن ” اسمه ” أكثر من كونه الاسم الفني، لمن هو مطّلع على حيثياتها.
في مدخل آخر، متخَم بالرمز، والدعوة إلى قوة نفاثة تعرّي المكان ومن يتلاعب فيه، ثمة عبارة أخرى تأتي من خارج النمطي في الكتابة، شعرية الطابع (ما أحوجَك ِأيتها الجهاتُ إلى عكاكيزِكِ الهوائيَّة.ص 4 ).
ما هي هذه الجهات، العكاكيز، جنسية الهواء، في شارع يشدنا إلى عالمه والكشف عنه ؟
من الهواء إلى الهواء، وما يعنيه من اعتبار حياتي، كما لو أن هناك كتْم أنفاس، وأن شارعاً مدشَّناً باسم مفصلي الأثر: الحرية، يترافق وخاصية: الهواء، لتأخذ الحياة مجراها، وبدءاً من المقطع الأول في النص الروائي، تحت عنوان فرعي” صياغات الهواء ” (أجل. كان يكره الفلسفة، إلا إن هذا لم يمنعه من أن تكون له فلسفته الخاصة التي كونها، منذ بداية وعيه. ما كان يعنى به تجاوز اعتباره.ص 5 .
……
إن ذلك في المحصلة ليس إلا العيش في مجرد قوقعة. القوقعة لا تعني ما هو سلبي، دائماً. بل إنها قد تعني ما هو إيجابي، أيضاً. لاسيما في مقام من يكون العمود الفقري لسلوكه هو مؤازرة سواه.ص5.!.).
كاره الفلسفة ومحبّها، معايش الناس ومعتزلهم، تلك خاصية الباحث عن كينونة ذات خاصة به.
من البوتقة إلى الفضاء
أعتقد أن الروائي يحاول، وربما بقلق مقدَّر، كيفية التحرر من كونه مدار البحث في الرواية، منذ العبارة الأولى، فثمة ما يشير إليه، وما يبقيه في واجهة رؤية القارئ إلى السطور التي تتحرك أمامه وهو يقرأها، وذلك أن التفافاً على موضوع دون آخر، كما في الحديث عن الفلسفة بداية، ومغزى التسمية، لا يعني فك ارتباطه بمن يكون بالنسبة للقارئ المقرَّب منه.
أتذكر هنا قولاً جديراً التثبيت، لجورج باي، عن ” السيرة الذاتية، الترجمة العربية،2017″، وهو التالي( أما مؤلف السيرة الذاتية فلا يستطيع أن يتظاهر بعدم معرفة ما يعرفه.ص252 )، وما يعمد إليه الروائي، قد يجعلنا أكثر قرباً مما يقول، كما لو أن السارد ليس هو، ويكون هو، دون أن يعني ذلك أن المدوّن توثيق، لأن المسمَّى يمكن التأكد منه، إنما بلسان يخصه كثيراً.
طبعاً، من حقه أن يختار الطريقة التي يعتبرها أكثر تمثيلاً لرؤيته للعالم الذي كان، والذي يمثُل أمام ناظريه والذي هو قيد التشكُّل تالياً، سوى أن ذلك يكوّن لعبة ليس في وسعه التعهد بأي ضمان نجاح أو إمكان بلوغ صوته الداخلي: معناه إلى قرّائه المختلفي الأطوار.
ابراهيم اليوسف لا يخفي من خلال مَن توارى وراءه: اسمه الآخر، أن يعرّف بنفسه، وهو يخاطب شخصاً افتراضياً، لكنه لا يخرج عن مستنقع واقع، يظهر مقيماً فيه (لست كما تريد أن تقدم صورتي لمن حولك، في الجوقة. أنا كما أنا. أنا لم أتغير البتة. لقد كنت كما تراني، الآن. وكان ذلك يريحك، لأن ذلك كان يعني مؤازرتك. لكنك، ما إن تغيرت، حتى طلبتَ مني، أن أؤدي دوراً آخر. أن أكون طبالاً، في هذه الفرقة ذات الموسيقا الناشزة. ذات الموسيقا النارية الضارية. لم أنشأ على أداء مثل هذا الدور. أنا ما زلت في المكان ص 10 ).
لا ينسى أن يشير إلى ما يعرفه ويعرف أن الذي يسمّيه يعرفه آخرون في الزمان والمكان،وجهنميات المكان، ومن يعبثون بالمكان بألسنة مختلفة: من داخل النظام، باسمه، بصورة مبطَّنة، حيث غواية الفتنة، والسيطرة على الآخر، تصرّف أقداراً كما تعرّي نفوساً. لا ينسى أن يُسمي من يكون كموقف حزبي في زمن ما، ومن يمكن أن يعرَفوا قبله وبعده، ومن خلال ” شارع الحرية ” العنوان الذي أريد أن يعرّف بالرواية، وأن يكون – حتى – هويتها، وما في ذلك من حنين ما إلى تلك الفترة، أو تزكية لمجتمعها، وبدءاً من الراحل أبيه طبعاً (سألت أبي، الذي اشترى لنا البيت، عن طريق عمنا سيد اليوسف قرطميني، لنسكنه، بعد أن كبرنا، وبات علينا أن ندرس الإعدادية في المدينة:
لم سمِّي شارع بيتنا بـ “شارع الحرية؟”
جيراننا الشيوعيون، في الشارع، هم من سمُّوه!…
جاء الجواب مفاجئاً بالنسبة إلي. فكيف إن جيراننا غدوا قادرين على تسمية الشارع، كما يريدون، وحين سألته:
وكيف ذلك؟
قال: سيجيبك عمُّك ملا اليوسف:
حدثني عمي السيدا، أن في شارعنا كثيرين من الشيوعيين، منهم أبو خورشيد القيادي «أو شيخموس العلي»، وعبدالله بدرو ونوري محمد حسين”أبو ميكو” وآخرون، أغلب بيوت الشارع شيوعيون. أحسست بفرحة غامرة، إذاً: «جيراننا شيوعيون..؟!» وفعلاً، صرت أتعرف عليهم، تدريجياً. ص12. ) .
هنا ستثير هذه الأسماء بتواريخها ذاكرات، وترسيم حدود مشاعر وأحاسيس، وانتفاضات مواقف أو تسخينها لأن لكل اسم خانته داخل الشارع أو في الجوار أو في المدى المجدي له.
وابراهيم اليوسف، ومن خلال المقرَّب منه، والذي يسكن بجواره في الشارع أو الحي، ما أن يقرأ سطور روايته حتى تتملكه مشاعر تترى، وتحليقات خيالات، واستدعاء أمكنة ووقائع، كما في الإشارة إلى حديث سارده الداخلي عما كان مجتمع بيته (رجال الدين هؤلاء أحبهم، طقوسهم حميمة، لها نكهتها المتفردة. أعد جميعهم عمومتي، كلما أجد رجلاً معمماً أسلم عليه باحترام، وكأنني أسلم على أبي، حتى وإن لم أعرفه. لقد استفدت من زيارات هؤلاء لأبي ، وأنا طفل، كان عالمهم جد ممتع، لاسيما عندما تضمهم جلسة خاصة بهم ،تنفتح قرائحهم على الحديث غير الرسمي الذي طالما سمعته منهم. ص 18 .).
تلك نقطة أخرى في مشهديات الرواية المكثفة، وتلك الوقائع التي تستبقي التاريخ الحي، تستبقي بشراً من لحم ودم، وهيئات، وليس صنعة المتخيَّل لمن يعرفهم، خلاف قارئ بعيد عن تواترات الوقائع ومتتالياتها هنا وهناك.
أشير إلى واقعة لها طابع سياسي، كانت ساخنة ومأسوية، من صلب التاريخ الشديد السخونة، كتب عنها ابراهيم اليوسف في أكثر من مقال، أو أشار إليها، وها هو يودعها محمية روايته، حيث ذاكرته تتراجع إلى الوراء بطرزها الفني، وتتقدم بالمستقر المعلوماتي فيها، وما في ذلك من تحولات عاشها ويعيشها هذا الشارع المتقمص لأكثر من جهة ( الشارع نفسه، بات الآن، مركز ثلاث وزارات، ضمن كانتون الجزيرة.
تغيرت ملامحه، سكانه توزعوا في خرائط دول العالم، لم يبق منهم إلا القلة. ثمة وجوه جديدة، طارئة، تبدو في الشارع، بعد أن تحول إلى اسم أحد أعضاء حزب العمال الذين اختلفوا مع بيت بدرو، وحاولوا خطف أبيهم، لكنه أصيب بطلقة رصاص، قضى بسببها في حلب التي نقل إليها؛ ليتم استطبابه، هناك، دون جدوى. يقول آل بدرو:
-رفاقه، من أصابوه، أثناء محاولة اختطافه لأبينا..
ممثلو حزب العمال الكردستاني يقولون:
أحدهم من آل بدرو من أصابت رصاصة مسدسه رفيقنا.!…
ثلاثة من أبناء بيت عبدالله بدرو الذي يكاد يبدأ به شارع الحرية، تم اغتيالهم على أيدي رفاق الحزب، بعد أن فشلت عملية اختطافهم لأبيهم ، قرب بيته، ليصاب بالرصاص هو وأحد خاطفيه. ص 21. ).
ربما في مقدور قارئ يتابع حركية الرواية عن بعد، وهو من خلال جغرافية الشارع، المدينة: قامشلو، أبعد منها، أن يتلمس في هذه المشاهد فرصة ثمينة لإخراج فيلم، سوى أن الذي عاش الموسوم، وبصيغ شتى، يكون لديه تصور آخر.
كأني بالروائي أراد أن يقدّم، وبتكثيف، ما هو أكثر أهلية لجعل المكان عامراً بالتاريخ الفعلي، ما يدفع بكل مقيم في الشارع وفي الجوار، لأن يبحث عن صدى صوت له، ولعلّي من هؤلاء الذين يتابعون هذه الحركة البحثية والاستنطاقية لخاصية المسطور.
مثلاً، حين أقرأ أيضاً ( الكثير من الوقت أمضيته في بقالية” آمد” حتى بعد ترك أحد صاحبيه، للحزب. إذ كنت مسؤولاً عنه. كنا نتناقش في الكثير من قضايا” الساعة”.ص27 .)، و( ذات مرة، ذهبت وعدد من أعضاء أسرة جائزة جكرخوين إلى دار البلدية، وقدمنا معروضاً بإطلاق اسمه على شارع بيته. فتح مدرسة، حديقة باسمه، باعتباره أحد أعظم شعراء الكرد، وعاش في هذه المدينة، على مقربة من شارع بيتي. لم يتم الرد علينا؟.ص 35 .)…الخ، فتلك وقائع مؤرشفة في ذاكرات الذين يعلمون بأمرها، ولكن إيداعها هنا يؤممها لصالح منطوق الرواية غالباً، بقدر ما يحفّز المعني به لأن يتساءل عن خلفيتها، وطريقة ترتيبها، والذين لهم صلات بها…الخ.
في ” شارع الحرية ” ثمة ما يضفي على السرد في الكثير من نقاطه قيمة موقفية، تقييماً للوضع الذي عاشته سوريا ولما تزل تعيشه في ظل نظام قائم إلى الآن ( لو إن رأس النظام، أراد أن يربح السوريين، من دون نقطة دم، كان بإمكانه أن يفعل ذلك. أن يحل القضايا العالقة. لقد طالب الناس بالإصلاح، قبل أن يرددوا:
الشعب يريد إسقاط النظام..!.ص67 .) .
وكما لو أن السارد في صلاته بالتاريخ الحي، أراد أن يريح أعصابه وأعصاب القارئ، وبنوع من التكتيك في بعض الحالات، يلتفت إلى هوى خاص به، إلى أنثى يظهر أنها ذات مكانة في وجدانه ومؤثرة في حياته، ومن خلال اسم لافت: بريسكا، وما يعنيه الاسم” الشرارة “، حيث طريقة السرد تختلف وجهة الخطاب ( أكثر رسائل الإناث في أرشيفي هي رسائلك، ومن بينها رسائلي إليك. تلك التي أعدتها إلي. عسى أن أتناولها في رواية ما. بعد أن خصصت عنك مخطوط روايتي الأولى” على هذا العنوان رجاء” أو ديواني” وجهها كان يقول”..!.
لا تضحكي مني، مرة أخرى قائلة:
إنه الحب في زمن الحرب
من لا يكتب عن نفسه، وبيته، وأنثاه، وألم وحلم أبيه وأمه وأخوته، وأبنائه، وشارعه، وحيه، ومدينته، لا يصلح أن يكتب عن العالم
أجل. لبريسكا صلة وثيقة بذلك الأرشيف. وما من مقال، أو دراسة، أو ريبورتاج صحفي كتبته؛ إلا وكانت هي من بين دوافعي الأولى للكتابة. إنني أكتب كي أقول لك: إنني ما زلت أحبك. هكذا كنت أقول لها. هكذا. ص 74 .).
هذا الحب ذو المقام الروحي العالي لا يبقى وحيد الجانب، إنما يختلط بما هو سياسي وعنف الجاري، ولشارعه ما يؤكد ذلك ( الشارع الذي ذرعته جيئة وذهاباً، عبر عقود، وكان منطلقي الثاني إلى الحياة. إلى الثقافة. على الكتابة. إلى السياسة وأنا أشكل رؤاي، تدريجياً. بات مروري فيه، مجرد مروري حلماً كبيراً، وأنا على بعد بضع من مئات الأمتار منه. منه كان أبي يذهب إلى صلاته في” جامع قاسمو” القريب الذي تم الانفجار على بعد مئتي متر منه. شارع الحرية الذي سقط عليه ابني كرم بعد أن حمل كاميرته، متوجهاً إلى رأس الشارع. إلى موقع الانفجار الإرهابي، كي يصور دورية الأمن وهي تطلق النار على حلقة من الشباب الراقصين ليلة نوروز2008، واستشهد المحمدون الثلاثة. وأصيب بطلقة في رأسه، رمته أرضاً، وصار يسبح في بركة دمه، إلى أن أسعفه الجيران، وما أن وصل المشفى القريب. مشفى فرمان، حتى رموه أرضاً، مع الموتي، إلى أن فتح أحدهم عينيه، وصار يصرخ:
إنَّه حيٌّ..!.ص 80 .) .
ذلك لا يمثل مشهداً متخيلاً، إلى جانب العشرات وأكثر من صلب الواقع، مشاهد حية عاشها أناس، وفي إثرها حفظها آخرون في الصدور وما بين السطور، وسواها تنتظر الإفراج عنها للكشف عنها بملابساتها وتداعياتها، في جغرافيا لم تعد جغرافيا، وبشر تصدعوا بالطول والعرض، في تنوع ألسنتهم، أكثر من برج بابل نفسه، حتى بالنسبة للكورد أنفسهم.
وهذا التداخل بين الماضي والحاضر، يتخذ طابعاً من المؤثرات الفاعلة في بنية النص، واعتبار التقديم والتأخير،الواقعة الفعلية، والواقعة النفسية بمكوّنها التخيلي في عملية تشابك.
وهو حين يقول بلسان ممثّله الروائي، فلا أظنه بمفارقه، إنما معانقه بأكثر من معنى، لحظة الرجوع إلى عشرات المقالات التي كتبها وهي بطابعها النوستالجي، وما في السياق من ارتجاجات أرضية وجسدية، من تحسرات واعتلالات ( الشارع الذي كنت أقطعه، من أوله إلى آخره، خلال دقائق معدودة. ثمة مسافة بعيدة، الآن، بين وجوه الأمس ووجوه اليوم، كما المسافة المستحيلة بين أوله وآخره، بالنسبة إلي، على أقل تقدير. كانت في دمي أنطولوجيا وبيوغرافيا أعرفها لسكان الشارع. مجانينه. كتابه وشعرائه وحسناواته وشيوخه وشبابه. الألبوم عصي على المحو. إنه يختلف عن ألبوم صور البيت الذي أبحث عنه، منذ أيام عبثاً. كما أنه يختلف عن الألبوم الإلكتروني لكمبيوتري الذي امحت محفوظاته، نتيجة فرمتة غبية، من مهندس غبي. كان هاجسه إصلاح الكمبيوتر، ما جعلني أفقد كل أرشيفي، ومن بينه بعض الصور المحفوظة للمقربين..!.ص96 .).
وربما ما يتردد في هذا المقطع الصغير حجماً الكبير أثراً، ما يوسّع حدود الجرح النفسي الملتهب ، وللسؤال وثبة الذاكرة ذات الأمد الطويل ( أين سكان مدينتي أسأل؟.
أية قامشلي، هذه، من دون يهودها، وبدوها، وآشورييها، ومسيحييها، كما كردها؟. هكذا كانت- قامشلو- من قبل. أواصل أسئلتي
أين هاتيك الوجوه التي كانت من العلامات البارزة للمكان؟.ص138 .).
ما يلي ذلك نتيجة منطقية لما يجري في المكان من المكان، من أهل المكان في أهل المكان، ليكون هناك مزج بين استمرارية السرد وتدافع الرؤية التشخيصية للجاري، كما في النزيف القسري للنزوح السكاني، أو الهجرة والتهجير، حيث ” أمّة في شقاق ” تعيد دورتها في معاندة حلم وجودها، وتسفح روحها الجمعية هنا وهنا، وفي أوربا بالذات، وامبرياليتها بالمعنى الأكثر ما بعد عولمية ( الكثير من الدول الأوربية طمعت في أبنائنا. إنها تنظر إلينا كمجرد مربين لأولاد سنقدمهم لهم مجاناَ. أطفالنا الصغار يتأثرون بثقافتهم. الدفعات الأولى من اللاجئين إلى أوربا أبناؤها اقتلعوا من جذورهم، فقد نشؤوا على ثقافة أخرى.
حقاً، لقد ربحت أوربا الحرب. باعت أسلحتها، واتخذت دور الناصح، الرحيم، وها هي تسلبنا ثروتنا البشرية. ثروة الحياة العظمى. لو إن أصحاب القرار أرادوا إيقاف الحرب، لتمكنوا من ذلك. إنهم كانوا يتابعونها، كفيلم سينمائي، من دون الرأفة بالأرواح التي تزهق، وبحار الدم التي تشكلت، والأماكن التي تهدمت عن بكرات ساكنيها…!.ص189 .) .
ولا بد أن بحثاً في بنية الرواية يتحرى العديد صلات الوصل فيها، وكيف يتداخل التاريخ والجغرافيا، كيف تنكفئ السياسة على نفسها، في عملية نكوص مريعة في ضوء من يخِل بتوازنها، في لعبة صادمة لكل مسكون بأمل استعادة التوازن، والدخول في عصر مختلف على مستوى سوريا وأبعد، حيث نهابو الفرص، وما يصلهم بمفهوم ” الثورة ” سماسرتها، قوادوها، موجّهوها، منظّروها، أزلامها، سفلتها، وأبطالها المزيفون، ومن كانوا أبطالها الفعليين، ومن انحسرت مياه المجابهة الفعلية فيهم، لا بد أن بحثاً من هذا النوع، يقر بجدوى كتابة تاريخية تستقر في حاضنة رواية كهذه، وبالطريقة هذه ( كثيرون اغتنوا. لصوص الثورة يجب ألا نرحمهم. هناك من سرق باسم اللجان الإغاثية. الشرفاء من بين هؤلاء، من كانوا يعطون هذه المساعدات لمعارفهم، وأقربائهم، من دون سرقة الكثير منها..
و لئلا أعمم، فإنني أتكلم عن السواد الأعظم لهؤلاء…!.
– قريتكم، آمنة، نسبياً. لم هربتم…
-داعش وصل المنطقة. قطاع الطرق المسلحون وصلوا. من هنا تم خطف كثيرين. لا أحد يعلم هل النظام اختطفهم، أم سلطة الأمر الواقع
سجنتهم. لقد تم هذا بعد تنظيف المنطقة من داعش، وبسط سلطة الجماعة. يستطرد، متحمساً: اسمع. ثمة ما أريد أن تعلمه وهو أن من طرد داعش هو شعبنا. هم أبناء المكان. من دافع في سري كانيي، وكوباني، وعفرين، وقامشلو، هم أبناء شعبنا، وليس هؤلاء الذين يريدون جعل الانتصار مكسباً حزبياً. ص192 .).
ابراهيم الكاتب أو المأخوذ بالسرد داخلاً أو ما بينهما، يهيب بالصوت لأن يردّد صداه، وما يبقي الشارع في مكانه إشهاراً بأن البعيد قد يرجع إليه حيث كان ( لا ضير. أنا أفهم المسألة. سرُّ تعلقي بهذا الشارع أمرٌ عادي: إنه شارع بيتي. إنه الشارع الذي شهد أول قصص حبي. أستيقظ صباحاً، أهرع إلى الباب. أفتحه، قبل أي شيء آخر. أحرك حجرة الجلوس التي تبدو ككرسي ملكي. آخذ حصتي من الإكسير اليومي. الحبر الذي يرتعش بدفء أصابع حبيبتي التي دونته، في ليلة البارحة، أو في ساعات الصباح، قبل أن يستيقظ جميعهم..!ص194 .).
ولا بد أن جملة من التكتيكات التي اعتمدها الروائي في النهاية، وما فيها من خروج عن مناخ الرواية السائد، من خلال ” أسئلة الراوي “، و” ملاحظات الناقد “، وحتى التنويه، وهو ( تم حذف فصل ملحق بالرواية وفيه آراء وحوارات بعض أوائل من قرؤوا النص الإلكتروني للكتاب، لينشر في طبعته القاهرية التالية..!ص205.)، لا بد أن كل ذلك يشكل تقديراً يعاين فيه الروائي أسلوب كتابته، والسرد الذي لم يشأ له أن يكون كأي سرد.
في الطريق الطويل للقراءة
إنما كل ذلك، هل يخفف من جروح الذاكرة الزمكانية القريبة، وقرب الأحداث من النفوس، وأسماء الأشخاص التي تتقاسم الرواية السّيرية الطابع في معظم أطوارها؟
ما يمكن قوله، وأنا أنهي قراءة الرواية اقتباساً، هو أنها سوف تقرأ في أكثر من سياق، حتى بالنسبة للذين كانوا حاضرين فيها، وما أكثرها، لأن السؤال المعتبَر، كما أرى، هو: ليس ما لم يقله الروائي بعد، وإنما كيف جاء القول والتاريخ، وإمكان الفصل بينهما؟
سوف يسعى كل ذي اسم إلى تتبع خطوط تحركاته، وربطها بسواه، وما إذا كان التوصيف كما يريد أم لا ، والسؤال عن مدى دقة الواقعة، وسيكون هناك من يتدخل على الخط لإثارة جوانب أخرى على تماس مباشر بمحتوى الرواية من زاوية تاريخية وسياسية، وثمة من سيسائل الروائي عن كيفية إغفاله، وهو يستحق الحضور، أو أنه أغمطه حقه، وثمة من يلبّسه تهماً في أكثر من مسار، جهة سَلسَلة الأحداث، وأسلوب العرض، وموقعه في صلب الرواية، وسوف يكون هناك من يواصل اتصالاته بسواه عن الرواية ومحورة الحديث حولها جزئياً أوكلياً، أو تبعاً لنوعية العلاقة، ومدى أهلية كل متصل للتفاعل مع نص مركَّب، نص يظهر فيه الاضطهاد عارياً: اضطهاد سلطوي، واضطهاد يستمد العون من السلطة، ومرآة الحرية هي التي ترينا قبح السلطة باسمها المباشر وغير المباشر، بحيث لا تبدو مرآة الحرية ذاتها كافية لإبرازها كاملة!
بالطريقة هذه، ربما، ستحتفظ ” شارع الحرية ” بحقوقها في البقاء لزمن لا أظنه بقصير، وفي وضع كارثي كالذي نعيشه حتى الآن.
وهنا أشير إلى قراءتي السريعة لرواية الناقد والروائي الكردي السوري الآخر هيثم حسين ” عشبة ضارة في الفردوس “، ونشْرها في موقع ” ولاتي مه “21-8/2017 “، والتي جعل من التاريخ ذاته مادة حية له، وعامودا بوابته الكبرى إليه، إنما بتصور مختلف، سوى أن الاثنتين في أصولهما الكبرى تجسّدان شعوراً مشتركاً، وكلٌّ في موقعه، بفجائعية ما جرى ويجري حتى الآن، ولا أحد بقادر على ضبط ساعته الزمنية لمعرفة النهاية لما نعيشه هنا وهناك.
ملاحظة: هذه الرواية قرأتها مخطوطة قبل قرابة سنة، وهأنذا أقرأها مطبوعة، وربما سرعة تجاوبي معها، قراءةً وكتابة، تستند إلى إحاطتي بمعالمها منذ اللحظة الأولى، وما أثرته في المقال تأكيد على هذه العلاقة ليس إلا .
دهوك، في 24-8/2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…