نساء منسيات في تاريخنا الكردي: سـينم جكرخوين أنموذجـاً

بونيا جكرخوين
 
في الثامن والعشرين من هذا الشهر (تموز) تحل علينا ذكرى رحيل أختي سيمنسات (سينم) عن عالمنا هذا.
أختاه! … لأنك أختي يصعب علي وصفك وتقييم نضالك وإظهار بطولاتك، لكنني سأنظر بمنظار المشاهد والمعاصر لتلك الأحداث التي جعلت منك بطلة وفدائية بنفس الوقت .وبالرغم من التهميش على نضالك وإخفاء اسمك وحقيقتك، أدري جيداً لو كنت منتمية الى أحد الأحزاب أو الجمعيات أو تبناك مغوار حَكِيم يعرف كيف يدير دفة الوصف والإبداع لكنت الآن”جميلة بوحيرد” الكرد، لكنني، لا بأس سأحاول أن آخذ بعض الجوانب الظاهرية فيك كما عرفتك لكنني، لا بأس سأحاول أن آخذ بعض الجوانب الظاهرية فيك كما عرفتك ورأيت بأم عيني:
ولدت أختي سينم سنة 1934 في عائلتنا المكونة من خمس بنات وولدين بعد فقدان والدي ولديه خورشيد وجمشيد بأمراض ذاك الزمن، حيث كانت هي الأكبر بين بنات وأبناء العائلة، نمت وترعرعت وهي تراقب تحركات أبي إلى أن أصبحت سياسية تناقش وتجادل بحرية وطلاقة.  عندها انتمت إلى الحزب الشيوعي الذي كان والدي من أنصار السلام  فيه، يعمل  بجهد وإخلاص أكثر من أي عضو مركزي.
كان الحزب الشيوعي آنذاك هو الحزب الوحيد الموجود ولا توجد غيره أحزاب أخرى، وكان مخيماً على منطقتنا بشكل واسع،  وبهمة أبنائنا الكرد الأبرار تطور هذا الحزب وأصبح حزب عامة الشعب، حزب الفقراء والمساكين.. حزب المضطهدين.. حزب من يناهض وينادي بتقرير المصير لكل القوميات، لذا كان انتماء الكرد إليه أكثر من أي قومية أخرى، للوصول الى غايتهم المنشودة وهي: حق تقرير المصير للشعب الكردي .
عندها كنت صغيرة وكانت أختي سينم هي الكبيرة في العائلة، تجالس والدي وترافقه في أكثر الأحيان. وبشكل جدي وبعزيمة فائقة وإرادة قوية، ناضلت في صفوف الحزب وهي تنادي بالحرية والمساواة وحق تقرير المصير للشعوب المضطهدة. وطبعاً قوميتنا الكردية هي الهدف بالنسبة لها ولأكثرية الكرد المنضوين تحت راية  هذا الحزب، ورأت كما رأى الجميع آنذاك أن هذا الطريق هو أقصر الطرق.
كانت سينم  تتغنى بأشعار والدي، وفي وقت النوم تنشدها في الفراش وتنهمر دموعها. كنت أنام معها وأبكي معها أيضاً وأتأثر كثيراً  خاصة عندما كانت تنشد   Aferî aferî Qadî Mihemed aferî  كنت أحس أن هناك حلقة أفتقدها أنا ولا أعرفها جيدا، وعندما كنت أسألها كانت ترد علي عندما تكبرين ستعرفين كل  شيء، شيئاً فشيئاً أدركت أن والدي وأختي سينم وأخي كسرى وابن عمي زبير جميعهم يعملون في السياسة، وأدركت أنها تخرج من البيت لتلتحق ببعض الناس هناك، أحياناً يلصقون المناشير على الحيطان، وأحياناً أخرى يلقونها أمام البيوت، لذلك داهمتنا الشرطة للبحث عنها وعن رفاقها لكنهم لم يفلحوا في القبض عليها.
كانت سينم تقود المظاهرات والاحتجاجات وتنادي باسم الحرية والحقوق الإنسانية. وفي إحدى المرات شكلوا وفداً للذهاب إلى السرايا لتقديم بعض المطالب منها الإفراج عن السجناء. وكانت هي ممن دخلوا لمقابلة المسؤولين لتقديم طلباتهم. كما أنها في إحدى المظاهرات هاجمت مع المتظاهرين على الشرطة العسكرية وأدموا رؤوس البعض منهم وقد نجت في تلك المرة، واختفت بعض الوقت لكنها لم تنج في المرات الأخرى. إذ قبضوا عليها، في إحدى المرات، ومعها ابن عمي زبير. وقد علمت آنذاك حديث العائلة أن سينم في السجن وعلمت أنهم البسوها بنطالاً ليضربوها عن طريق- الفلقة- كما كان هذا المصطلح رائجاً آنذاك، وساد الحزن بيننا، وتداول الجميع الخبر بأسف شديد. هذه أول مرة تسجن فيها امرأة، كما علمت بأنهم أخذوا زبير ابن عمي إليها وهم يضربونها من خلال-الفلقة- ليرق قلبه ويبوح بالأسرار. يقال إن سينم نظرت إليه وبسرعة البرق قالت له بالكردية:
لا تتكلم بشيء أنا لم أبح بشيء. كن شجاعاً، عندها ابتسم زبير وقال لهم لا أعرف شيئاً، وأغلق عينيه لكي لا يراها وهي تتأوه. وقد أطلقوا سراحها بعد أيام.
أنا لن أسرد هنا بطولاتها، وإنما سأكتفي لأقول: إن رفاقها خذلوها عندما كانت تلقي كلمتها باللغة الكردية في عيد الثامن من آذار. عيد المرأة العالمي، في حي قدور بك. كنت معها تلك المرة بعد الانتهاء من كلمتها انزعجت وجاءت إلى البيت لتقول: أنا أناضل لأجل الأمة الكردية ضمن حقوق الأمم، لا ليمنعوني من التحدث بلغتي الكردية. هذا وقد ظلموها عندما منعوها من حضور مؤتمر الشبيبة في موسكو آنذاك، وأرسلوا رفيقتها الأرمنية عوضاً عنها، وبدأت الخلافات بعدها، ووصلت أوجها. وعلمت أن والدي وزبير وسينم وكسرى وعثمان عثمان وعدد كبير من النشطاء الحزبيين والأصدقاء تركوا الحزب الشيوعي وابتعدوا عنه…
لن أكمل السيرة الطويلة لأختي سينم، وإنما أقول: هنا اعتزلت سينم السياسة كلها، لكنها كانت تساعد وتشارك في جميع المناسبات والاحتفالات كمستقلة، وبعدها التحقنا بأبي، وقطعنا الحدود إلى كوردستاننا الجنوبية، ومن ثم إلى بغداد. حيث كان والدي هناك. تزوجتْ بعدها من شاب عربي هناك، وعدنا إلى القامشلي وتركناها هناك في العراق.
وأسدل الزمن ستاره على سيرة هذه المناضلة التي كسبت اسماً في الرعيل الأول من المناضلات الكرديات، لكن، لم يرافقها الحظ، ولم يتحدث أحد عن نضالها بين صفوف الشعب الكردي. والكل يعرف عن نضالها الكثير. كما أننا نحن بنات جكرخوين فيما بعد كسبنا مذمات وانتقادات كبيرة من بعض الكرد الأبرار. حيث كانوا يقولون: بنات جكرخوين يجلسن مع الرجال ويشاطرنهم الحديث ويلبسن سافرات، وأنهن خرجن عن عادات المجتمع. لذا كنا بالنسبة لشباب الكرد المثقفين رجالاً ولسنا نساء. بل كانوا يعتبروننا شواذاً، لأننا تخطينا العادات والتقاليد، وخرجنا عن صمت النساء وظلم المجتمع وشاركنا والدنا النضال وأفكاره الديموقراطية ودخلنا المدارس سافرات نرتدي ” الكم” القصير… وهنا أريد أن أنوه أننا فيما بعد لم ننتم إلى أي حزب سياسي، لذا لم يذكرنا أحد. حتى اسم هذه البطلة المجهولة لم يذكر قط من قبل أي حزب، وهنا أتساءل:
هل النضال هو ملك الأحزاب؟. وهل من يناضل من أجل شعبه عليه الانضواء تحت راية حزب ما؟. أسفي على الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين ولا يهابون نقد الآخرين!. ألا تستحق سينم جكرخوين ميدالية أول امرأة كردية مناضلة دخلت السجن؟. أم متى سنتحرر من التبعية؟، ومتى ستلغى الوساطات ويبقى تقييم الشخص لنضاله، وأعماله الإنسانية فقط؟….. لكنني أقول لك أختاه،  بأنك ستبقين شعلة النضال والمثل الأعلى للمرأة الكردية وأول امرأة ناضلت ودخلت السجون، ولابد أن تظهر الحقائق يوماً ما . 
سلام لروحك الطاهرة.. 
 وتحية لنضالك الدائم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مروان شيخي

المقدّمةُ:

في المشهدِ الشِّعريِّ الكُرديِّ المعاصرِ، يبرزُ الشاعرُ فرهادُ دِريعي بوصفِه صوتاً خاصّاً يتكلّمُ من عمقِ التجربةِ الإنسانيّةِ، لا بوصفِه شاهداً على الألمِ فحسبُ، بل فاعلاً في تحويلِه إلى جمالٍ لغويٍّ يتجاوزُ حدودَ المكانِ والهويّةِ.

ديوانُه «مؤامرةُ الحِبْرِ» ليسَ مجرّدَ مجموعةِ نصوصٍ، بل هو مساحةٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ تشتبكُ…

غريب ملا زلال

سرمد يوسف قادر، أو سرمد الرسام كما هو معروف، عاش وترعرع في بيت فني، في دهوك، في كردستان العراق، فهو إبن الفنان الدهوكي المعروف يوسف زنكنة، فكان لا بد أن تكون حياته ممتلئة وزاخرة بتجربة والده، وأن يكتسب منها بعضاً من أهم الدروس التي أضاءت طريقه نحو الحياة التي يقتنص منها بعضاً من…

أحمد مرعان

في المساءِ تستطردُ الأفكارُ حين يهدأ ضجيجُ المدينة قليلًا، تتسللُ إلى الروحِ هواجسُ ثقيلة، ترمي بظلالِها في عتمةِ الليلِ وسكونِه، أفتحُ النافذة، أستنشقُ شيئًا من صفاءِ الأوكسجين مع هدوءِ حركةِ السيرِ قليلًا، فلا أرى في الأفقِ سوى أضواءٍ متعبةٍ مثلي، تلمعُ وكأنها تستنجد. أُغلقُ النافذةَ بتردد، أتابعُ على الشاشةِ البرامجَ علّني أقتلُ…

رضوان شيخو

 

ألا يا صاحِ لو تدري

بنار الشوق في صدري؟

تركتُ جُلَّ أحبابي

وحدَّ الشوق من صبري.

ونحن هكذا عشنا

ونختمها ب ( لا أدري).

وكنَّا (دمية) الدُّنيا

من المهد إلى القبر..

ونسعى نحو خابية

تجود بمشرب عكر..

أُخِذنا من نواصينا

وجرُّونا إلى الوكر..

نحيد عن مبادئنا

ونحيي ليلة القدر

ونبقى…