خالد حســــين:
“في الصباح الذي يشبه الدمعة
أصير كقلبٍ مفتوح على البكاء”
يتكىء الشَّاعر السُّوري “فواز قادري” على رأسمال شعريِّ مُنَضَدٍّ في عشر مجموعاتٍ شعرية منشورة، آخرها المجموعة ــ رهن القراءة “مزامير العشق والثورة، دار ألف ليلة، “2017؛ كما أن اللغة الألمانية احتفت بشعره عبر مختارات مترجمة إليها بعنوان “في الليل، 2012”. غير أن القارىء تتناهبه أسئلة حادة، أشدُّها: ما إذا كان هذا “الرأسمال الشِّعري” الثري قد تعرَّض لقراءات جدية وصارمة من شأنها التعرُّف على النُّصوص الشعرية للشاعر والإمساك بظلالها وأسرارها،
وكذلك ما إذا قد انتبهت ــ أي القراءات ــ إلى استراتيجيات الكتابة الشعرية التي تُعدُّ من مستلزمات “الحدث الشعري”، وطبيعة هذه الاستراتيجيات وكيفية بناء مستويات الخطاب الشعري؟ ولذلك أرى أنَّ الكثير من القراءات التي تنتشر في هذه الأيام إنما تفتقر إلى اللياقة النَّقدية والخبرة في التأمل النّصيَّ؛ فتنحو إلى الامتداح والبهرجة في غياب تامِّ للفعل النقدي الذي يروم الإحاطة بتضاريس النُّصوص مستكشفاً، مفككاً إياها للوصول إلى أسرار العمل الأدبي وجمالياته أو ما يكتنفه من صدوع وفجوات تعصف ببنياته وتحدُّ من طاقتها على تأسيس عوالم شاسعة من المتخيَّل!
إلى ذلك؛ ينضّد الشَّاعر هذه المصفوفة العلاماتية:“مزامير العشق والثورة” عنواناً لمجموعته؛ لتفتتح القراءةُ عملية التلقي بإحالة تناصية شائعة إلى “الكتاب المقدس: العهد القديم” من خلال مفردة “مزامير” التي تشير إلى سِفْرٍ من أسفار التوراة: “مزامير داوود”، أي الأناشيد والأدعية. ومن جهة أخرى تستدعي العلامةُ الجمعُ مُفْرَدَهَا: (المَزْمُور) الذي يزدوج دلالةً: (المِزْمَار= أداة موسيقية) والكتاب الذي جُمِعَتْ فيه المزامير ويقال له الزَّبور. وكما يتبين للقارىء؛ فالوصول إلى تضاريس العنوان لا يُكلِّف القارىء ذلك الجهد التأويلي الباهظ للتمكن منها وترويضها، لأنَّ العنوان يرسم أرضاً مسطحةً يمكن عبورها بسهولةٍ، فالنُّصوص من خلال عنوانها العام لا تعدو أن تكون أناشيد في امتداح العشق والثورة وهذا ما يجري فعلياً في الفضاءات الداخلية للنُّصوص؛ فالعشق والثورة يتقاسمان الأناشيد والقصائد. هذا الوقوع في فخاخ الوضوح مَعْنَى إنما يضعُ حدّاً مانعاً للتورط المقرون بالالتذاذ في الإقبال على الإحاطة بالنَّص في فعل تلقي النّصوص وقراءتها؛ بل إنَّ هذا “الوضوح” يَصُبُّ في مجرى العناوين التقليدية المشاعة التي تفتقد إلى التحفيز و”تفجير الخيالات والأفكار الغنية” كما يقول جيرارد ستين، نظراً لِتَدَارُس هذه العلامات واستهلاكها في سياق التأليف الشِّعري العربي. ولكن الشاعر يوسِّع المسافة بين العنوان والنُّصوص بشبكة من النصوص المصاحبة: الإهداء، شذرة مجهولة النسب ثم تمهيد للدخول إلى عالم النُّصوص، وكأني بالشَّاعر قد أَحَسَّ بضعف اللياقة الجمالية في العنوان؛ فلجأ إلى توسيع المسافة بينه وبين النُّصوص بهذه العتبات النَّصية، كبدائل مراوغة للعنوان لإغواء القارىء واستدراجه إلى القراءة؛ ليقع التناصُّ اللفظيُّ بقوةٍ بين العنوان “مزامير العشق والثورة” والنُّصوص المكونة لجسد المجموعة من خلال تقسيم هذا الجسد إلى أحياز نصية (اثني عشرة حيزاً) يقتنصُ كلٌّ منها تسمية: مزمور، حيث تبدأ هذه الجغرافيا بـ”مزمور البدايات والتكوين” وتنتهي بـ” مزمور الحرية الشاسع والأخير” وبين الحدين تنتشر مزامير متنوعة ومختلفة بموضوعاتها في محاكاة تناصية لكتب الحكمة في التوراة وبانزياح كبير عنها على صعيد الثيمات.
يمكننا وقبل البدء باستدراج النصوص إلى محفل القراءة الإشارة إلى أنَّ النُّصوص الشِّعرية تسير نحو التَّشاكل فيما بينها على صعيدي استراتيجية الكتابة حيث يشغل النصُّ الواحد مساحات كبيرة من البياض باتباع هندسة التقطيع للنّصِّ والزِّجِّ بالعلامات اللغوية في سياقات سيميائية تؤسس لعتمات وأغبرة دلالية حيناً وحيناً آخر يؤسِّسُ لمساحات نصيّة مكشوفة. يتحرّك النصُّ بين اليومي والرؤيوي في مسار نثري يتخذ من التكرار النَّحوي والتنويع في مستوى الخطاب والصورة الشعرية آليات في بنينة المتخيَّل الشعري. أما المعجم الشعري فيقتنص مواده من الطبيعة، وتحديداً من فضاءات الفرات، لينجح في رسم فضاءات مكانية معجونة بالتَّجربة الشخصية. لكن ثمة مساحات نصية تتيح في الوقت نفسه لـ”إهدار الكثافة” بالتَّمكُن منها؛ لتغدو أرضاً يمكن عبورها ببساطة وهو ما سنعود إليه لاحقاً؛ لكن هذه الفجوة لاتقلل من احتفاء النصوص لإلماعات شعرية كثيفة، قوية ومبتكرة تترامى على مساحات واسعة، الأمر الذي يقود القارىء إلى استشعار لذة المتخيّل الشعري.
لكنَّ ماذا تخبِّىءُ لقارئها النُّصوص؟
لكن دعونا نتأمل في “مزمور البدايات والتكوين”:
“أيتها الأرواح أيتها الأرواح/ الأنهار لها خرير ولكِ الموسيقى/ الشطوط لها الأمواج ولك ضباب المنحنيات/ الطيور لها السَّموات القريبة والبعيدة/ بكحلها الغيمي وبخطيئتها الزرقاء/ لكِ الليل ببريق نجماته وإغواء القمر/ وحدي أقيس مسافات الرنين/ بينكِ وبين النشيد الرسولي/ بأنبذة الشعر أدوّخ المعنى/ وأجرُّ القصيَّ حتى يلامس النجوم/ أنادي الأعلى حتى يلامس شهوة العشب/ أفيّق النوم وأنّوم الأرق في الظلال، ص8/.
يمرُّ الخطابُ الشِّعريُّ من خلال الراوي بحركتين دلاليتين؛ المشهد البداياتي كما تتجلى في (الأرواح، الأنهار، الشُّطوط، الأمواج، الطيور، الليل،…” ثم نظيره التكويني الذي يكون رهن الشَّاعر أو الفعل الشِّعري المقرون بالخلق والتشكيل( وحدي أقيس، أدوخ المعنى، أجرُّ القصيَّ، أفيّق النوم، أنوّم الأرق)؛ وفيما يحافظ المشهد في “البدايات” على العلاقات المتوائمة بين عناصره حيث المنطق المعتاد للعلاقات بين العناصر، ينطوي التكوين على علاقات جديدة ومضادة للمنطق الاستدلالي، ليتشكل متخيّلٌ شعريٌّ من تفعيل الاستعارات للتنكيل بالمنطق وبناء علاقات مختلفة بين الكائنات النَّصية لينثَّ الشّعر انثياناً من الحركة الدلالية الناشئة بزج الأفعال في علاقات غير متلائمة مع العناصر النَّحوية الداخلة معها في جملة التراكيب اللغوية: أدوّخ المعنى، أجرُّ القصي، أنادي الأعلى، أفيّق النوم، أنوّم الأرق، هكذا تجري الاستعارات من خلال الأفعال، لتغدو المفاعيل إما كائناً محسوساً(المعنى، الأعلى، النوم، الأرق)، أو شيئاً(القصيَّ)؛ لتعمل الاستعارة كعادتها في توليد المفاجآت والدهشة وتوسيع أمداء المتخيَّل. غير أنَّ النصَّ يطرح على المستوى الثقافي سؤالاً يتعلق بالذات السوبرمانية التي ينطوي عليها، حيث القدرة الخارقة التي يتمتع بها “الشَّاعر ــ الراوي” من إحداث تغييرات في العَلاقات المنطقية بين الأشياء، الأمر الذي يشير إلى أنَّ “الذات السوبرمانية”، الذات ــ الرؤيوية لم تزل بمنأى عن التفكيك والبعثرة والتشتيت، فقد أعادت ما بعد الحداثة الذات الشاعرة إلى حجمها الطبيعي بتفكيك الأصداء السوبرمانية التي نما في ظلها مفهوم الحداثة عن “الذات ــ الشاعرة”. وفي القصيدة ذاتها ــ الخاتمة تحديداً ــ وتحت عنوانٍ فرعيٍّ يكتب الشَّاعر:
” لاتكفي محاولةٌ أولى لعبور البرزخ/ من يكتب المزامير بحنجرةٍ مجروحة؟ / من يتلو كلّ هذا الهدير؟/ لاتقف على حدود الأشياء أيها العازف/ أخذتكَ من قلبك البلادُ ولم تعد إليها/ فلا تعد إلا وأنت قادر على العبور إلى النشيد، ص 14، 15“
فما يثير الانتباه، هنا، هذا التنويع ــ الذي يحضر بقوة في كثير من النُّصوص ـــ في بدايات الجمل الشِّعرية: “لا تكفي، من يكتب، من يتلو، لاتقف، أخذتكَ، فلا تعد”، وهو تنويع يضفي الدينامية والحركية على مسار الخطاب ويُخرج الخطاب ذاته من رتابة الكتابة التكرارية(كما في عديد من المقاطع الشِّعرية)، لكننا إذا تجاوزنا هذا التنويع النَّحويِّ إلى الفضاء الدلالي للشذرة الشِّعرية، سيجد القارىء نفسه إزاء مشروع سردي للعازف” أيها العازف” الذي لابدَّ له من العبور إلى “البرزخ/ النشيد”، ومما له دلالته أنَّ السِّياق الشِّعري يُسمْطق هذه العلامة ويحوّلها عن معناها اللغوي/ التصوفي (البرزخ الحاجز بين شيئين، ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل البرزخ) لتشير العلامة من ثمَّ إلى “الحرية”؛ هكذا تنبجس الحرية” في صورتي “البرزخ والنشيد”؛ وبذلك يمكن ترجمة السطر الأخير من المقطع إلى: ” فلا تعد إلا وأنت قادر على العبور إلى الحرية.”، العبور إلى تلك البلاد الحرة! عندئذ يمكن للعازف/ العاشق إنجاز مشروعه. المقطع النَّصي لا يعدم الإيحاء الشِّعري تركيباً ودلالةً وكان يمكن للشَّاعر ممارسة الاقتصاد العَلامي في السَّطر ما قبل الأخير “ أخذتكَ من قلبك البلادُ ولم تعد إليها”؛ فالجملة المعطوفة ” ولم تعد إليها” تهدر التكثيف الشِّعري وتطيح باقتصاد النَّصِّ، لاسيما أنها تتكرر في السَّطر الأخير؛ ولذلك أرى أن الاستغناء عنها يَهَبُ السَّطر الشِّعري قوةً وكثافةً؛ ليحتفظ الشِّعر بشعريته وسريته. يقدِّم “فواز قادري” أشكالاً متنوعةً من الخطاب الشِّعري في مجموعته الراهنة، ليكشف بذلك عن انفتاح قصيدة النثر على إمكانات كثيرة للانتقال من بساطة البنية إلى التعقيد والتركيب وتنويع العوالم الدلالية لها ويمكن التمثيل لذلك بهذا المقطع من “مزمور عشق شعبي“:” أين ذهب النَّاطور بالعنب ؟/ الصباح كئيب/ أين ذهب العصفور بالأغنية؟ / المقعد خال في الحديقة/ أين ذهبت ظلالنا في هذا اليوم المشمس ؟/ المدينة خالية منكِ/ أين ذهب قلبي يفتِّش ولم يعد؟، ص 36“؛ فالمقطع النَّصيِّ يتحرَّك في مسار ثنائيِّ قائمٍ على السُّؤال والجواب
والمسافة البعيدة بينهما هي التي تؤسِّسُ للفِعْلِ الشِّعري، فالجمل الشِّعرية تمضي بالقارىء عميقاً بعيداً في الجهد التأويلي للتخفيف من حدة المُبَاعَدة الدِّلالية بين قطبي السُّؤال والجواب؛ هكذا تقترن كآبة الصَّباح بغياب العنب وخلوّ المقعد والمدينة بغياب الأغنية والظلال، ليضعنا النَّصُّ إزاء مشهد مشفَّر يلتقط اللامرئي الذي يربط بين الظواهر المتباعدة للوهلة الأولى، إنها أفعال الأدب عموماً والشِّعر خصوصاً في الإمساك بالمخفي لمنح العالم كثافة المعنى!سيلحظ القارىء أنَّ السَّطر الأخير سؤالاً “أين ذهب قلبي يفتِّش ولم يعد؟”ينتهي دون إجابةٍ، وحسناً فعل الشَّاعر، لكن ثمَّة إهدار هنا للاقتصاد العَلامي أيضاً في هيئة الفعلين المعطوفين ــ “يفتِّش ولم يعد” ــ اللذين يعصفان بالكثافة الدلالية للسَّطر الشِّعري. وفي هذا السِّياق أيضاً، أعني إهدار الكثافة، يتقدم المقطع التالي تمثيلاً:” كنتُ أحرس المساء/لعلكِ تعبرين فيه ذات شوق/ وحين تأخرتِ أكثر مما يحتمل الغياب/ أغلقت النجمة التي تنتظركِ معي/ على مضض شرفة ضيائها العالية/ ومضت حزينة في الظلام، ص 115″؛ هذا المقطع من جملة مقاطع كثيرة في المجموعة التي تستحضر لحظات الحب من التَّجرية الحياتية في صور شعرية تبثُّ تخيلاتٍ غزيرة ومتألقة، لكن ما يخفّف من وقع المتخيّل الشِّعري الإخفاق في الخروج بالمقطع الشِّعري في هيئة كثيفة باستدراج علامات زائدة من شأنها تقويض الاقتصاد العلامي ذاته وتعريض الدلالة الكثيفة للخلخة عبر الشرح والتوضيح وفي ذلك قتلٌ للشِّعر، ومن هنا أرى أنه يمكن إزاحة الفائض العَلاماتي عن الشِّعر في الشَّذرة: ” كنتُ أحرس المساء/لعلكِ تعبرين فيه (…)/ وحين تأخرتِ (…)/ أغلقت النجمة (…)/ على مضض شرفة ضيائها (…)/ ومضت (…) في الظلام”، بهذا الحذف يتيح النَّصُّ للقارىء بالتّورط أكثر في عملية التلقي والتأويل وملء الفجوات؛ فالقارىء استناداً إلى خبرته في العالم يدرك أنَّ حراسة العاشق للمساء هي بداعي “الشَّوق”، كما أن “التأخر” سيثقل من وطأة الغياب ومثل ذلك لا أحد سوى “النجمة العالية” ترافق “العاشق” في انتظار العاشقة؛ بهذا الشكل يمكن إعادة الاعتبار للقارىء واستدراجه إلى اللعب بالعلامات وتوليد الدلالة؛ فالعلامات في انتظامها الشعري لاتُقَدِّم المعنى وإنما “المعنى” من اختراع القارىء. وأخيراً المجموعة الشِّعرية تبيح للقارىء ثيمات كثيرة للعمل عليها؛ فالصُّور الشِّعرية التي تمتدُّ على مساحات النُّصوص تغوي القارىء بالقراءة، هذا فضلاً عن موضوعات أخرى كبدايات القصائد ونهاياتها التي يمكن أن تكشف عن ماهية الفعل الشعري لدى الشاعر فواز قادري وكيف يبتدىء وينتهي!.