الوَطَنُ المُتَنَقّلُ الهَارِبُ إلى الجَّحيم ، أو لِمَنْ سَتُقَدِمُ الوَلاءَ

آزاد عنز
نُصِبَتِ الأعمدةُ و هُيّأتْ على عَجلٍ و تَهافَتَ القِماشُ على عاتِقِها بشكلٍ مُستَديرٍ و مُتعَجرِفٍ يَتَوسَطُها عَمودٌ بِقَوامِهِ الطّويل يَحمِلُ الثّقَلَ و العِبْءَ المَركونَ في ضيافَتِها ، هكذا يَتَرائ  المَشْهَدُ منَ الداخلِ المُظلِمِ للأمتارِ القليلةِ التي ستَحْتَضِنُ خَيباتِكَ وَ إخفاقاتِكَ و إنكساراتِكَ و عَجْزَكَ و هَزِيمَتَكَ و آلامَكَ و آمَالَكَ الضّائعَةَ و عِبئَكَ و حَقيبتَكَ المَليئَةَ بالخَيباتِ و الحَسراتِ ، أمّا مِنَ الخَارجِ شِعارٌ مَطبوعٌ لا بأسَ بِهِ ، كَفّانِ على شَاكلةِ شَاهِدَةِ قَبرِكَ سَيُطبقَانِ عَليكَ لقَبْضِ ما تَبَقى مِنْ رُوحِكَ و قَيدٌ مِنَ القَمْحِ المَجْرُوشِ عِوَضاً عَنِ التّرابِ الذي سَتدفنُ به مَكتوبٌ تَحتَهُ بخطٍ واضحٍ للعيانِ و للبلّورَاتِ المُحَدّبَةِ و المُقعّرةِ ( المُفوضيةُ السّاميةُ للأممِ المُتّحدةِ لشؤونِ اللاجئين) كَمْ أنْتِ سَامِيةٌ و عاليةٌ و جَليلةُ القَدرِ ،تَفضّلْ أيّها المُشرّدُ خَيمَتُكَ جَاهزةٌ ، وَطَنُكَ جَاهزٌ ، تفضّلْ يا عزيزيَ تَرجّلْ بقدمكَ اليُمنى لِتكونَ إقامَتُكَ مُباركةً و مُريحةً ، تفضّلْ على الرَّحبِ و السِّعة .
و لكنْ أريدُ وَطَنَاً يَلِيقُ بِنا و بيَّ ، وَطَناً يَحمِلُ أحمَالَنا و أعباءَنا ، وَطَنَاً يَحتضِنُنا و يَبتسم ، يَفرِشُ لنا العراءَ إقحواناً ، يُخرِجُ مِنْ بَاطنِ جَوفهِ نَباتاً مُستَساغاً خَفيفاً على أجوافِنا الخَاوِيةِ لِتَمتَلِئ، وَطناً خَفيفَ الظّلِّ طَيّبَ النّفَسِ حُلوَ المُعاشَرَةِ ، لا نريدُ وطناً مُمزّقاً سَمِلاً مُرَقَّعاً مُهْتَرِئاً نحنُ لا نَقوى على حمْلِ مَأساتِه و تعاسَتِه و كَرْبِهِ ، لا أريدُ أنْ أختزلَ الوطنَ برُمَتِهِ بدستورِهِ و قوانينهِ و شعارهِ و عَلَمِهِ و طقوسهِ و عاداتهِ و تقاليدهِ و جمالهِ في هذه الأقمشةِ الرّثّةِ الباليةِ الهشّةِ التي تَهلَكُ معَ استفتاحِ سَهُوكٍ من الرّياحِ  و تَتبعثُر كالسراب و نتبعثرُ نحنُ أيضا . و مَنْ قالَ إنَّ لكَ وَطناً ؟ نَحنُ لا نَهِبُ الأوطانَ كَاملةً نحنُ نُوجِزها و نُلَخِصُها وَ نَجودُ عَليكَ بِفُتَاتِ المائدةِ و فضلاتِ الطعامِ لنُبْقيكَ حيّاً على قَيدِها ، نحنُ وكلاءُ اللهِ لقبضِ الأرواحِ نَنوبُ عنْهُ لنُطيلَ أمَدَكَم أو نُقَصّرَه هكذا نحنُ لا نُسدِدُ الالتزاماتِ المُبرمةَ بيننا و لنْ نُكْسِيكَ ثَوباً على مقاسِ أطرافِك أبدا .
و في الفَلَقِ المُقلقِ اللاحقِ تصدّقَ اللهُ عليهِ وليداً طاهراً ، عبئاَ آخراً مُضافاً مُتمِّماً للفجيعةِ المُمتدةِ للحيلةِ المُعدّة سالفاً و أيُ خديعةٍ تُدبَّرُ هَكذا لِتَركُلَكَ بعيداً إلى حُضنِ القِماشِ لِتَتَهاوى كالقِماشِ ، نعم ستصبحُ قِماشاً مُهملاً للكَبّ لاحقاً ، و أمّا الوليدُ الواهبِ فمَنْ تكونُ ؟ ابنُ أيُ رقعةٍ أنتَ ؟ و إلى مَنْ تنتمي؟ و لِمن سَتقدمُ الولاءَ و الطّاعةَ؟ و مَنْ هوَ رئيسُكَ ؟ سَتُرقَّمُ في سجلاتِ مُفوضيةِ القمحِ و الكفّينِ مَنفياً مَطروداً بنَ المطرودِ سَتُكَنّى بابنِ الخيمةِ اللَّعينةِ أمّا مَنْ بَقيَ في الدّاخلِ لا يزالُ يَحتفظُ بصورةِ رئيسهِ مُعَلّقاً في مُخيّلتِهِ كَما يَشتهون أو كَما يَشتهي هو.
و يَبقى وَجهُ المأساةِ الكُبرى مًنْ يَتخذُ مِنَ الخَيمةِ خَيالَ وَطن ، أيّها الوَطنُ البديلُ الوطنُ المُتنقّلُ الوطنُ الظلُّ الوطنُ المُفرَغُ مِنَ الوطنِ و المشبعُ بالوطنيّةِ ،لا تيأسي أيّتها الخيمةُ الوطنُ لنْ تكوني رَطبةً و باردة ثقي تماماً إنَّ هذا المُشرَّدَ سَيُغدِقُكِ دِفئاً لا لُبسَ فيه ولا إبهام ، هذا المطرودُ المُبعدُ بِغبْنٍ فاحشٍ سيكونُ ظلُّكِ على أنْ تكوني ظلَّ وطنِهِ النازفِ، قدْ يخونكِ العراءُ ولكنْ لن يخونَكِ ظلَّهُ فلا مَكيدةَ لِلأظلالِ، تسرَّبتِ البرودةُ إلى بَطنِها فألَّفَ المُشرَّدُ الحطبَ اليابسَ و المُبللَ و أعدَّها لتلقينِها علومَ النار فتَأجّجَ الحَطبُ لَهباً في يَقينها قَاذفاً الدَّخانَ المُبدَّدَ عَالياً لِيمتلئَ الوجودُ اختناقاً .
لا تَقتربْ .. الخيمةُ تَحترق … الوطنُ يَحترق …  
كاتب كُردي سوري

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…