الحريق

وليد معمو
في نهاية ليلة من ليالي حلب الجميلة عام 2009 ، نشب حريق في منزل عائلة لوند  نتيجة ماس كهربائي ، وكانوا نياماً ، و قد أنتقلوا للعيش فيه حديثاً . 
بدأت النار تتفاعل مع المحيط الثمين ، وكانت الشقة تمتلئ بسحابة سوداء شيئاً فشيئاً ، من الأعلى إلى الأسفل ، وتتقلص مساحة الدهان السّكري الجميل .
استيقظ لوند على صوت صراخ إبنه الصغير ، الذي كان  الأقرب إلى الحريق ، فغرفة نومه كانت ملاصقة للصالون ، مكان اشتعال النار ، حيث استفاق مذعوراً على صوت فرقعة اسلاك الكهرباء ، وكان الصباح وأي صباح قد أنبلج ، بعد أن فعل الحريق فعله .
سماء الشقة  تلبّد بالسحب السوداء لنصف علوِّها ، فتح لوند بلمح البصر كل الأبواب والنوافذ وضع الأطفال على الشرفة ، وكانوا يبكون خائفين مذعورين ، والزوجة نسرين خارت قواها ، وباتت لا تقوى على الحركة لهول الحدث ، فبيتها كان يحترق ، ولكل قطعة محترقة قصة كبيرة ، وذكرى لها معاني الحياة ذاتها ، فانهارت في الركن القريب !!.
أما لوند فقد بدأ معركة حامية الوطيس ، ضد النيران !!.
فرضت عليه وعلى أولاده ، وبيته ، كان يتحرك ، نصف صاحي ، نسي حلب ، نسي الطقم الفاخر وربطة العنق الأنيقة ، والحذاء الإيطالي الأوريجنال ، وتحوّل بغتة إلى كورداغي يقاوم ثعبان بحجم الأناكوندا ، صفراء تتلوى في الأرجاء … 
لم يتصل بفوج الإطفاء أو النجدة … 
أستجمع  قواه ، الخفية ، تذكر أجداده الهاواريين الفحّامة ، أسياد النار ، والطاقة ، بلا منازع ، وعجّانو وخبّازو الجمر ، و أملئ  دِلاء الماء ، غامسأ  ساعديه في أعماق الاعماق ، وصرخ في النار قائلاً  :
ما هكذا علّمناك  ، ورمى على النار بالدلاء واحداً إثر آخر .
إنهارت الخزانة الخشبية المشتعلة ، وسقطت أرضاً ، وخمدت النار ، وكأن عدة سيارة إطفاء أطفئتها !!.
نعم عادت الأنكوندا الرّائعة  إلى قُمقمها ، طيِّعة ، ليّنة !!.
خمدت الضوضاء وأنطفئ نحيب نسرين ، وخفّ ذُعر الأولاد ، وذهبت سحب الدخان الأسود من أبواب ونوافذ البيت خارجاً .
لم يأتي أحدٌ من الجيران للمساعدة ،  ولم يكن هناك أية خلافات بين لوند وجيرانه  ، فالبناية جديدة ، ولم يتسنّى بعدُ لسكانها أن يتعرفوا على بعضهم  !!.
وسمع لوند أصوات أقدام الجيران وهم ذاهبون إلى أعمالهم ، حيث قهقات النساء وثرثرات الرجال .
سحب لفافة تبغ من علبة الدخّان وأشعلها ، وطلب إلى زوجته ، بعد أن أستعادت قواها جزئياً ، أن تحضّر فنجان قهوة وسط الفوضى هذه… فوضى ما بعد الحريق… 
تثاقلت الزوجة ، فأعاد الطلب بحزم… 
أحضرت نسرين في الأخير القهوة ، فقال لها أجلسي بجانبي واسمعي :
إن هذه المدينة ذاهبة إلى كارثة كبرى ، إلى القيامة ، وستتدمر ، لأن الجار بات غير مكترث بحريق بيت جاره ، تعالي نرحل للعيش بالقرب من جبل هاوار ، لم يساعدنا أحد في إطفاء حريق بيتنا ، طاقة الأجداد الهاواريين أولياء النار هي من أطفئت الحريق  ، تعالي نذهب من هنا ، قبل أن تشتعل النار الكبرى في حلب ، كالنار التى إلتهمت بيتنا ،
ولن يطفئها أحد حينئذ ، فقد غابت الغيرة بين أفراد النوع الواحد في المشرق … 
وافقت نسرين على تركه لوظيفته الحكومية ، وأتفقا على بدء تحضيرات العودة .
لم يسعف الوقت لوند وزوجته تنفيذ كل الخطة … لأن حريق المدينة كان قد بدأ … 
ما أشبه الحريق الذي نشب في شقة لوند بحريق الوطن اليوم  ، حيث لا أحد من أبناء الوطن أهتم لإطفائه ولا جيرانه .
فقد ضاعت النخوة والمروءة في الوطن قبل اشتعال الحريق ، كوني أيتها النيران برداً وسلاماً على الخيِّرين .
  عفرين في  1-1-2017       

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…