الرواية في محراب وليد حاج عبد القادر

 المحامية نالين عبدو
لا ريب في أن الكردي المتلقي كقارئ والكردي المنتج كأديب هما في المحصلة ذوو ثقافة هجينة ,نتيجة رزحهما تحت وطأة حاكميهم من الفرس والترك والعرب ,وما عانوه من مصادرة لأدواتهم الثقافية, وما أحدثه كل ذلك من شرخ في الصميم الثقافي الكردي, يتداركه الأدباء الكرد بالإبداع من وحي بيئتهم الأم ,فعلها يشار كمال بالتركية وغيره بالعربية, ومنهم وليد حاج عبد القادر بثلاثية روائية غير متزامنة قدمها في ثلاثة أسفار, وعلى وقع وهدى الحركة الواقعية الاجتماعية وبأنزيمات فانتازية ، ففي رواية ديركا حمكو تراه يبوح على ألسنة شخوصه بمآثر وامثولات  من الخزان الميثولوجي  للحقبة التي عاصروها وهي فترة الانتداب الفرنسي لسوريا  ,دون أن يزكي نصه بالتوريات والأستعارات  والماورائيات أو أي طلاء غرائبي ودون تشفير 
يستحضر وليد حاج عبد القادر الزمكانية ,فالعبارات تتمادى تترامى في احتفاء بالذاكرة الجمعية للمكان وتاريخه  وفي تعزيز لمدى وعمق النوستالجيا في ذاته التي يسقط بصماتها على كينونته الروائية ,التي ينفث فيها من جهة أخرى عبراستثماره المحلية كثيمة وجمالية , لينتشل بذلك هويته القومية من الاندثار ,ويقنن معالم  تلك البقعة الكردية من سوريا ديريك وريفها. 
– في روايته دوامة أطاش والجنون ينقب  الراوي في الرواق الجيوبوليتيكي لتقديم اشعار بوجود كيان وأرض حقيقية للكرد في المثلث الحدودي اقصى شمال شرق سوريا, الذي  يجمع ثلاث زوايا سورية وعراقية وتركية ,وهو العمق الكردي الذي دثرته أغطية حكومات شوفينية ,لطالما اغفلت وهمشت المواطنة الحقيقية وحتى الحقوق الثقافية للكرد في تلك البقعة من العالم ..حيث الأحداث تتناوب بين جزيرة بوطان الواقعة في تركيا وعين ديوار وديريك في سوريا للدلالة من جهة أخرى على خرائطية الارض الكردية المبعثرة, والتي قسمت عنوة لكن دون أن تتقطع أوصالها, حيث بقيت منظومتها التضاريسية واللغوية والحيوية واحدة  يقول:((هي بوطان الانتماء كما المهد والمدينة العاصمة ,وهي بوطان اسم وقد تجانس أن مع الذات العامة أو كجزء من امتداد جغرافي اخذ يدور ويتسع …لا تلبث ان تنحدر لتجتمع في مسار واحد ))* ص152
يحرص الروائي وليد حاج عبد القادر على اثراء نصه بحكايا التعايش والعشق بين الكردي والآخر المختلف عنه اثنياً أو دينياً كعطو وجوزفين المتيمتان بشابين كرديين التزما بما قطعا على نفسيهما من عهد بعدم فراقهن, لعلها رسالة تختزل تقبل الكرد لباقي الأقليات التي تتقاسم معهم الأرض والتاريخ, وإنهم لن يظلموا أو يستبدوا مثلما عانوا قبلاً , متن احتفى أيضاً بتواتر حيوات وأمثولات لشخوص مجبولة من أناتها ازاء آهاتها ولواعجها بعضها ملفقة ,وبعضها رست على أسطر الرواية نتيجة عبث الراوي بذاكرته أو تواطئه معها فرماني سقا – عفجليل بلبل – فقا حسن- حسو 
ومن خلال خيانة مليسي  لجعفو وهو أحد الشخصيات المحورية في الرواية حيث ينصب له مليسي فخاً ليوقعه بيد الجندرمة الاتراك ,ليمنع زواجه من عطو المسيحية منتهزاً الحقد  الطوراني لهوية جعفو الكردية يتبدى مدى تكالب وتواطئ الجميع على الكردي ,وكيف يقع حتى عشقه ضحية كرديته ..
– ربما  من باب الارتجالية اللغوية أو للخروج من قوقعة النمطية ,وربما مأخوذاً بنزعته القومية الكردية ارتأى وليد حاج عبد القادر سرد ما في جعبته الروائية  بحروف عربية وبمكنة لغوية خصبة عالية الجودة ,بالرغم من ذلك اُحتسِبَ نتاجه بنصف قيمته المستحقة إن كردياً وإن عربياً ,فكردياً بث الروائي وليد ما هو كردي في فضاء عربي في وقت كثر فيه القراء باللغة الكردية ,وعربياً اثار الاستياء بفعل حشوه مخطوطته الروائية بالألفاظ والعبارات الكردية ,لاهثاً وراء التميز والتفرد ,وحفر هوية حكواتية خاصة به يبقى حق منحها له بيد قارئيه.
– في سياق آخر تعتبر  رواية دوامة أطاش والجنون اعادة انتاج لرواية درو ديني وليلاني ,ولم يصبغ الراوي بشكل وافي كاركتر المجنون على بطلي الروايتين المفروض انهما معتلان عقلياً , ففي رواية درو ديني وليلاني درو هو طفل لا يفقه توسلات غانيته, وفي روايته دوامة أطاش والجنون يعتبر أطاش حكيم ترك أهله نتيجة خلاف معين ,ويكرر من باب الدندنة بأنه وكيل الأمير بدرخان على بوطان وتخومها  يقول اطاش : ((ما بالنا  نتباهى بلا شيء ,ومنه نصنع الشيء وهو في الاساس لا شيء ,ونحن فينا ما فينا من أمور تضاعفها قيمة ,كما واقلها إننا لم نهجر بها ,وفيها جبالنا اصقاعنا ما ودعناها أرضنا ما استرخصناها ,وإن دارت فينا من جملة ما دارت مطامع المحيطين))* ص 218
والمعلوم أن الادب الكردي يحتفي روايةً وقصةً بشخصية الأبله كبطل أو شخصية ثانوية ,فكتب سليم بركات عن دينو في روايته الريش ,وكتب لالش قاسو عن هوتو صاحب الدماغ البليد في روايته الثلاثية الكردية الخراب ,وخطّ عبد الحليم يوسف العديد من القصص عن مجانين عامودا ..
– الكاتب أيما كاتب وهو في غمرة افراغه لجعبته الروائية على الورق قد يروي مصادفةً ماهو ليس بعازم على الافضاء به  ,أو قد ينقل ما يرويه على نحو يعرج به إلى غير غايته المستهدفة والثيمة التي أرادها , وهذا ليس انتقاصاً منه بل قد يصب في خانة ملكاته الابداعية ,وإن لم تبلغ رسالة راويها ,فالروائي وليد حاج عبد القادرلم ينقل لقارئه ملحمياً حكاية هيام وتيم درو ديني بليلان الكوجرية, لكنه في الرواية ذاتها المعنونة ملحمة درو ديني وليلاني تعرض للعنجهية الذكورية ازاء المرأة الكردية المسحوقة ارادتها والمبتورة أحلامها , ويؤخذ عليه مغالاته  في الاستفاضة بالصور الايروتيكية المشبعة بالشهوة والغرائزية ,لم يخدم هذا الافراط في توظيف الجنس روايته ,وهو المطب الذي وقع فيه قبلاً القاص الكردي عبدالحليم يوسف في روايته سوبارتو  , فصحيح أن الأدب فضاء حر والتوظيف الحميد للجنس في الرواية المشرقية يغنيها بإبراز مثالب وخفايا الآدمية في حيوات أي مجتمع منها ,كما وينسف التابويات والمحرمات الخوض فيها على كثرتها , لكن دون استساغة الجنس كمادة  لهدف الرواج والشهرة السريعة ,وهو مالا يحتاجه كاتب بارز كوليد حاج عبد القادر ,والذي يبقى انتاجه الروائي مفتوحاً على الكثير من التكهنات القرائية النقدية .
هامش1و2:من روايته في دوامة اطاش والجنون 
nalinabdolawyer@outlook.sa

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

أعْتَذِرُ

لِمَنْ وَضَعَ الطَّعَامَ أَمَامَ أَبِي

أَكَلَ وَابْتَسَمَ وَشَكَرَ رَبِّي

أَعْتَذِرُ

لِمَنْ قَدَّمَ الْخُبْزَ

لِأُمِّي وَطَرَقَ بَابِي

لِمَنْ سَأَلَ عَنِّي

كَيْفَ كَانَ يَوْمِي وَمَا…

ماهين شيخاني

هناك لحظات في حياة الإنسان يشعر فيها وكأنّه يسير على خيط رفيع مشدود بين الحياة واللاجدوى. في مثل هذه اللحظات، لا نبحث عن إجابات نهائية بقدر ما نبحث عن انعكاس صادق يعيد إلينا شيئاً من ملامحنا الداخلية. بالنسبة لي، وجدتُ ذلك الانعكاس في كتابات الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913-1960).

ليس كامو مجرد فيلسوف عبثي…