رسائل إلى روشن بدرخان

مروة بريم
عزيزتي روشن بدرخان : 
كلما نثرت الحبوب أمام الفجر أغرته رائحة القمح، وأمسكته من منقاره الفضي تسرب من بين أصابعي ليتشاقى بعيداً فوق أغصان اللوز. و كلما أغويت الليل و استدرجته لحقول الخزامى، باغتني و سرق مني ثوب السكينة، عبثاً أحاول استعادته إلى أن يفقأ مقل النجوم و يجفف حليب القمر ويغدو خيطاً رفيعاً، يكتب وعود العودة بقطعة طباشير فوق رقيم الشفق ويرحل. فكيف أحييك …؟ وعقارب ساعتي ساعة إلى الأمام وساعتين إلى الوراء. أنا الخارجة عن دارة الزمن، يسقط الكون فوق سبابتي لوهلة منتشياً على إيقاع الكلمات، و يضع بيوضه في كفي لتفقس أكواناً مجنحة نأوي اليها أنا وأنت يا روش.  
ها هو النهار يغادر مهرولاً تاركاً خفيه المهترئين فوق الشرفات وقبل أن ينتعلهما الظلام، أراقب عروق جبينه النافرة وهو يعصر قرص الشمس كبرتقاله ببن الكروم. تعالي اجلسي قبالتي نفترش بساطاً سحرياً لأحدثك عن رحلتي كيف اقتدت قطعان البحار للمراعي بعيد منتصف ليلة الامس، دون أن نجرح أصابع الحشيش، أو نتعثر بنتوءات الريح. كان ينصت معي لثغاء الموج ورنين الأجراس المتدلية من أعناقها الزرقاء، لمحته يطفئ المدينة لتنهمر الشهب من عينيه ويروي الظلام عطشه بجرعات الضوء. يا له من طيف مبدع جميل يعبث بكل شيء ليعزف على أوتار السكون بأنامله الطويلة، ربما كان رباناً يتفقد السفن المشتاقة لرائحته ويحتجز صفيرها في حقيبة بلون الزيت تقاطع صدره ولا تبارح كتفه الموجوع. كنت أقول في نفسي ستشتاق هذه القطعان لمكانها بعد قليل فتعود لتردم تلك المقعرات العملاقة التي تحك الرمال بأكعابها وستشرق الشمس و تضمغ هلامها الأزرق. و يتخبط المكان في فخاخ الضوء و يختفي الطيف في شرايين الغيب. 
هل أحتفظ بالحقيبة….؟ أم أندس فيها وأختبئ بين أسرارها وأدون رحلة الثواني..؟ أم أنتزع ريشةً من ذيل هذه الليلة الداكنة كبلبل حزين أمسك عن الصداح بعد أن أجهض نيسان جنين اللون…؟ لأني اعتدت الاحتفاظ بشيء من كل شيء، ولأن العالم الذي نرسمه كما نريد ينبغي أن يحظى بالخلود.. بينما كنت أحلّ خيوط الحيرة من خاصرة الفكرة كانت قطعاني تتحرك بهدوء بعد أن توجست خيفةً من دنو ساعة الزوال و راحت تطبع في كل بقعة قبلاً مالحة. كنت مثلها هادئة رغم هذا الزلزال الوردي الذي يداعب خرائط الكون إلي أن رأيتها تتنفس الصعداء، استدرت أبحث عن الطيف كانت الحقيبة مستريحة على كتفي ولا أثر لصاحبها شعرت بالطمأنينة والسلام و داهمتني ابتسامة رضا. عندما تكون علاقتنا متناغمة وعميقة مع كل شيء يحيط بنا تحفظنا وتحتفظ بملامحنا كما نفعل نحن أيضاً. مرغمةً وضعت قدمي على عتبات العودة كان الأفق يقلم أظفار الشمس واجتازت الحقول تسطع بين يديها أباريق نحاسية وهي تعتلي صروح الماء منتظرةً سليمانها و رسائل الهدهد. 
عزيزتي الغالية:  كنت آمل أن أصطحبك في هذه الرسالة لشعاب جبل الكورد كما اعتدت أن أفعل أو أي بقعة كوردستاننا الحبيب لكنه عالم الخيال وأشياء تراود مخيلتي فتنهكها أردت أن أخصك بها يا روشن. ولأني بمزاجية الزئبق كما صرحت لك في رسالة سابقة, لا أعرف أين يلفظني عالم الخيال ولا في أي محبرة ينغمس قلمي. انتظريني في مواسم العنب لأحكي لك قصص العصير تحت دوالي الصيف يا أميرة صروح الروح. إلى أن نلتقي في رسالة قادمة لك حبي و قوافل شوق.
مروة بريم
2017/4/28
من منشورات جريدة روشن العدد 22

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

إلى أنيس حنا مديواية ذي المئة سنة صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة

 

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفاً، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلاً وجودياً، حاسماً، مزلزلاً. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته، ونتناقش فيه…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…