روح الشاعر

إبراهيم اليوسف
مازلت أمارس هوايتي
في استباق الزمن
لاشيء لي أقوم به
إلا التوجه لروزنامة البيت
وتقليب الصفحات
الصفحات التي سرعان ماتعود
كما كانت
ما إن أرفع عنها يدي……
هكذا، يكتب الشاعر في دفتر مذكراته، وهو يحثُّ خطاه، كي يتخلص من أسر لحظته، أنى تكسرت الأنصال على جدران روحه، تاركة آثارها، جراحات مفتوحة، متوجهاً إلى اللحظة المقبلة، بكل ما لدنه من جبروت، أنى ضاق به  الزمكان، ووجد روحه تتخبط في أصفادها، حيث واقعه المحرج- مادام منتمياً إلى جغرافيا انطبقت على أهلها- ما جعله يدرك أهمية دوره، وسط هذه المعمعة، يتحرك في الجهات كلها،  وهو يعاين كفارس أسطوري أحلامه ، مجهضة، أمام عينيه، بعد أن باتت طرقه إلى فردوسه الأرضي مسدودة- وهو مصير موقوت بحسب معجمه- وإن كانت هذه الطرق لا تؤدي، في كل محاولة،  إلا إلى المزيد الغرق في المتاهة التي يعاني منها، إلى الدرجة التي كلما أراد الخلاص مما هو فيه،  ابتعد عما يروم، أكثر فأكثر، وكأنه لمَّا يتخلص من صخرة سيزيف التي يسيربها  إلى أعلى الذروة، كي يتقهقر متدحرجاً إلى القاع، مرة تلو مرة.
وإرادة الشاعر لا تلين-عادة-  فيما إذا كان مسكوناً بجمر الموهبة الأصيلة، مادامت كل مفردات ديمومتها متوافرة: أدوات الواقع، وأدوات الإبداع، هذه الأدوات التي يستعين بها، أنى حل، ما يجعله قادراً على رصد تفاصيل البرهة التي يمرُّ بها- كما يتمكن عادة- من التقاط ما تموربه نفسه، من أصداء لانعكاسات الواقعة، بعد أن تتفاعل في مختبرات الذات الإبداعية، مع الرؤى، والأحلام، والأخيلة، والتصورات التي هي وقود أي موهبة فريدة، وتعد من أولى شروط الشاعرية.
وإذا كانت إرادة هذا المبدع الاستثنائي الذي انصرف منذ بداية الخليقة، وحتى آخر قصيدة تكتب الآن،  كي يعيد بناء العالم، عبر معادله الفني الجمالي،  ليكون بذلك كاتب نشيد الوقت، وشاهده، والناطق بلسان من حوله، والراسم للحلم الإنساني، وكيف لا؟، مادام أن الشاعر من  أكثر من يرومون الصباحات  الأجمل، والحياة الأكثر استكمالاً لمفرداتها، بعيدة عن كل ما يشوبها، وهو ذو الروح البارومترية التي تكون الأكثر حساسية، في استقراء لوحة الواقع، ورسم الآفاق للكائن البشري، كي يتلمس طرق الخلاص والحياة السعيدة، أنى افتقد الآخرون من حوله بوصلاتهم، وأحسوا أنهم في مفازات لا منقذ لهم فيها البتة.
والشاعر الذي تتوجه إليه الأنظار، كحاد في مجتمعه الذي انطلق منه، على دروب الحياة، يظل مرتبطاً إلى أرومته الأولى، أنى ابتعد عنها مكانياً، ضمن معادلة لايفتأ يتركها، وهو سحر و سر انجذابه إلى العالم كله، وجوهاً، وكوناً، وإن كان دائم الانحياز للمثل العليا، والقيم السامية، والجمال، والحب، بعيداً عن كل ما يشوب ذلك- وهنا فإننا لنتحدث عن الشاعرالأصيل- دون أن يحمل في نفسه الحقد على أحد، وإن كان في تسميته للأشياء، ما يستفز من دأب على إلحاق الأذى بسواه.
و بدهي، أن الشاعر الذي يحسُّ بمرارة أسر اللحظة، فإنه لا يوفر أية وسيلة-إلا ويستعين بها- وهو يحمل “عشبة أنكيدو”، بغية إيصالها لمن حوله، من دون أي تفريق بين أحد وآخر، يركض في المسالك الجبلية، محمولاً بأثقال العقاب، تائقاً الوصول إلى ضالته، دون أن يدب اليأس في ذاته، كلما تلكأ وتقهقر- ذات مرة- ليعاود دورة الصعود بعد كل انتكاسة، واثقاً من أن لعنة السقوط آنية، وأن ذراري الجبال العالية، في انتظاره، وهناك من سيملأ معه الحياة بالأنس والعطاء .
من كتاب يصدرقريباً بعنوان: هكذا أكتب قصيدتي- الشعروالشاعرفي مهب النظرية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…