هيثم حسين
يتّخذ الشاعر السوريّ إبراهيم اليوسف في روايته الأولى “شارع الحرّيّة” الصادرة مؤخّراً، شارع بيته في مدينة القامشلي، رمزاً للتدليل على التبدّلات التي طرأت عليه طيلة عقود، وكيف أنّ تلك التغيّرات كانت صدى للتحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي شهدها البلد، وكان الشارع المسمّى بـ”شارع الحرّيّة” شاهداً عليها، وشهيدها المتجدّد في الوقت نفسه كلّ مرّة.
يمنح الشاعر البطولة للأرشيف الغائب المستحضر بقوّة، أرشيف الشاعر هو مدار حديث الشخصيّة المتمركزة حول ذاتها وعالمها الشعريّ والأدبيّ والصحافيّ، والغارقة في اشتغالها السياسيّ ضمن صفوف الحزب الشيوعيّ السوريّ الذي فقد هويته المفترضة بالتراكم لصالح امتيازات بائسة، ثمّ يورد الآراء التي كانت تنتقد وتناقش وتدين تخبّطات الحزب الأمّ الذي شهد عدّة انشقاقات في صفوفه، بحيث يتّسع الأرشيف المفقود ليطال أرشيف مرحلة برمّتها وليس أرشيفاً شخصيّاً بعينه.
يُظهر أوراقاً مستعادة من الأرشيف الذي يتحسّر عليه الراوي، ليستهلّ مرافعته عن تاريخه الشخصيّ، ولتشهد على أدواره “البطوليّة” في محيطه ومدينته وشارعه، ذلك أنّ الشارع المحتفظ بآثاره وملامحه لم يرتكن لليأس والضياع والفقد، تحوّل إلى أرشيف الشاعر الحاضر الذي يشي بالعابثين بإحداثيّاته وبيوته وتفاصيله، وينفتح على التذكّر المضادّ للنسيان أو الضياع.
يولي الروائيّ أهمّيّة كبرى لشارعه، فهو المناجَى كصديق عتيق، وهو ملاذه في غربته، حلمه في منفاه، يواسيه بصور الذاكرة التي يحتفظ بها، يعيد من خلالها تأثيث عالمه الشعريّ والروائيّ عبر العودة إلى تاريخه، بحيث أنّ معالمه الثابتة هي التي منحته امتيازه كشارع يستحقّ اسمه وحضوره الرمزيّ والمركزيّ في حيّه ومدينته.
يمنح اليوسف لبطل روايته اسمه “إبراهيم اليوسف” ويوحي بفكرة القرين الروائيّ، وهي فكرة مكرّرة في كثير من الروايات، وربّما تمنح صاحبها امتياز الإعلان عن الأسرار والتخفّي وراء الحيلة الروائيّة المعلنة، كإشارة إلى أنّها ليست حيلة، وأنّ المرويّ يندرج في سياق التأريخ والتوثيق السيريّين، برغم أنّه مضمّن وممرّر تحت عنوان الرواية.
وهنا يمكن التساؤل عن السيرة الذاتية المتقنّعة برداء الرواية، أو الممرّرة تحت مسمّاها الذي يشكّل عباءة يمكن الاحتماء وراءها، أو وسيلة إيحاء واتّقاء في الوقت نفسه.. توحي بواقعيّة الأحداث، والتواريخ، ولاسيّما أنّ هناك تسمية لكثير من الشخصيات الواردة بشكل سريع في سياقات تمحور الراوي حول ذاته التي تشكّل بالنسبة إليه المركز الأوحد، كما أنّها في الوقت نفسه تتملّص من المساءلة المفترضة، سواء كانت تلك المساءلة تاريخية أو اجتماعيّة أو حتّى شخصيّة، ذلك أنّ الرواية تنفتح على التخييل، وسيكون من المفارقة سؤال روائيّ عن شخصيّاته التي تختبئ تحت أقنعة التخييل، برغم أنّ القارئ القريب، والعارف بشخصية الشاعر وتاريخه وعلاقاته يدرك أنّها تنطلق من حالة توثيق يرويها الكاتب، وينتقي ما يتقاطع مع مراده، أو مركزيّته.
كما يمكن التساؤل في هذا السياق إن كانت هذه الرواية تمثّل جزءاً ثانياً، أو تالياً لسيرته المنشورة تحت عنوان “ممحاة المسافة” قبل شهور؟ ولكن لماذا اللجوء إلى تصنيفها كرواية وليس كسيرة؟ هل لخلق اللبس بين الواقع والمتخيّل؟ بين الوثيقة والحكاية؟ أم لأنّ اللعبة الروائيّة لا تكتمل إلّا بالإقناع بواقعيّتها، والانسلال من تلك الواقعيّة في الوقت نفسه بالإحالة إلى الرواية؟
يصوّر اليوسف جزءاً من صراع الجغرافيا، مشيراً إلى أنّ مَن يستحوذ على الشارع، يستحوذ على سكّانه، ويمكنه كتابة تاريخهم، أو تغيير ملامحه بما يتناسب مع سياساته وتوجّهاته، صراع المتحاربين على الذاكرة، وصياغة هوية مختلفة، تبحث عن سبل للتبلور في عالم مشحون، موصوم بالتناحرات والاقتتال، مشبع بالاستعداء الذي لا يستدلّ إلى نقطة للتهدئة أو التبدّد.
يمضي بطل الرواية في رحلة متخيلة إلى مدينته، يتنقل بين البيوت التي ألفها، وأدمن عليها، تكون ذاكرته أداته لمواجهة قسوة الزمن. وبين الرحلة المتخيلة والذاكرة الحية النابضة في وجدانه يرسم ملامح شخصياته وأمكنته التي تتكامل لترسم تفاصيل شارعه المؤسطر.
تحضر في الرواية سجالات بين الشخصية الرئيسة وشخصيات ثانوية تصادفها، تدور عن واقع الثورة السورية، والمشاركة الكردية فيها، والانقسام الذي طال الكرد السوريين، والاتهامات التي سيقت ضدّ فصائل نسّقت مع النظام وتعاطت مع الكرد بطريقة استبدادية.
يشرك الروائيّ قارئه في لعبة التخمين ويستدرجه للغوص في تقصّي الحقائق، يلتفت إلى نقطة توجّه كثير من الشعراء إلى عالم الرواية، وذلك في فصل “ملاحظات الناقد”، الذي يوحي فيه أنّ هناك مَن قرأ مخطوطة روايته وأبدى ملاحظاته عليها، ويجعل تلك الملاحظات جزءاً من نسيج الرواية وحبكتها، في إيغال منه بتفاصيل اللعبة والإيهام، وكأنّه يقول للقارئ لا تتذاكَ عليّ، فهأنذا أبوح بما قد يدور بخلدك عن علاقة الشعر بالرواية وتوجّهي لهذا الميدان، واحتفظ بنقدك لنفسك فأنا أدير دفّك معركة التخمين وأستدرجك إلى شراكي الروائيّة.
يقول الناقد المفترض للراوي المتماهي مع الروائيّ إنّ ثمَّة نقاطاً كثيرة، يريد الكتابة عنها، منها ما يتعلق بما يصفه بتلك العقدة التي يعيشها بعض الشعراء تجاه فنّ الرواية. وكأنّه لا بدّ للشاعر من أن يكتب- رواية ما- حتى يُعترف به، وهو ما يراه في غير صالح مشروع الشاعر الأصيل. كما يصف الأمر بأنّه إعلان عن تراجع الشعر، وجمهوره، ومزاحمة الروائيّ على بيدره الإبداعيّ. كما يأمل منه أن تكون روايته “بيضة الديك” بالنسبة إليه، لاسيما أنّه حملها ببعض آرائه الانفعالية، حول الواقع القائم، في مهاده الأول، وهي آراؤه الشخصية، ولا شأن له كناقد، أو للقرّاء بها.
(*) الرواية صادرة حديثاً عن دار أوراق في القاهرة، ومنشورات برينت أوت في ألمانيا.
عن” المدن”