جان دوست الذي حارس الفواجع

فرمان بونجق
الاحجام والإقدام كحالان يتنازعان الروائي الكوردي جان دوست، قبيل الشروع في تأسيس البنية السردية لرواياته، ورسم ملامح شخصياته، واختيار تقنيات الكتابة، وانتخاب قاموسه اللغوي، وتفاعله معها كجزئيات أو ككتلة واحدة، إنما ينمّ عن ذلكم الصراع الداخلي، الذي يغزو هواجس الروائي أو القاص الأصيل، ولا مناص من هذه الأصالة إلاّ وتستمد ذاتها في هذا المنحى، من استحضار الحدث، أو الأحداث، بغية التفاعل معها، وتطويعها بهدوء وتأنٍ، والتي سيتم توظيفها بذات الهدوء، في سياق النص الإبداعي الذي سينتجه جان لاحقاً، وهذه ليست بالمهمة اليسيرة. 
كان من الضرورة بمكان أن أتناول (دماء على المئذنة) بعين الناقد الانطباعي بادئ ذي بدء، ومن ثم بعين الناقد الذي يمتلك رؤيته النقدية، لئلا أبخسَ هذا العمل الروائي حقه، وهو عمل مهم بلا أدنى شك، نظرا لإحاطته بأحداث جدّ فواجعية، تنبسط على مرأى زمنيّ تنتفي منه السرابية والضبابية، خصوصاً وأن هذه الأحداث صارت إلى مخزون الذاكرة الشعبية، وباتت جزءاً من التاريخ الشفاهي ولاحقاً المدوّن. ولم تكن حادثة عمامة الجّد عبداللطيف الحسيني مطلع القرن الفائت، برمزيتها، وواقعيتها، إن شئت، ولأنها تحتمل الوجهين وهي أيضاً تلقي بظلالها على الرواية، ومنذ بدايتها، فهي إذاً تشكل اللبنة الأولى للنسيج الروائي، في دم على المئذنة. ولم تكن تلك الفاجعة الأولى التي أتى عليها حارس الفواجع، بل استهل روايته بسلسلة من الفواجع، من خلال استذكاره لمجموعة من الشهداء الذين ما برحوا ذاكرته، فكان الإهداء صادماً، ليس لشيء، ولكن لأنه كان فواجعياً جدا. 
يقول الملا عبد اللطيف صارخاً ” أنقذوا الحبر أنقذوا الحبر ” ، تلكم كانت صرخته زمن فجيعة أخرى، لم يتجاوزها جان دوست، بصفته حارسها، أو مدونها، أو صاحبها بمعنىً من المعاني، وقد يسأل سائل: ما لعلاقة بين دواة الحبر، وأزيز الرصاص الساقط من السماء، وهي تمطر موتاً، تلكم أحجية الأحاجي التي لا يدركها سوى الملاّ وسلالته وتلامذته والأقربون إليه، ولكنها كانت الفجيعة التي كان الحبر فيها يصارع الطائرات الفرنسية، أو يحاول الاختباء منها، في هرولة قيل أنها كانت رحلة الفرار نحو حقول القمح إلى الشمال من الجنوب، أو الجنوب من الشمال، حيث الفاصل بينهما خط . وتلكم أيضاً أحجية أخرى من يفهمها، سيفهم بعداً آخر من أبعاد فجيعة أخرى من الفواجع التي عسّها ودونها جان دوست. في روايته دم على المئذنة.
في تلك الليلة، لم تصل رسالة آرين المزينة بعطرها إلى سعد. ولم يتمكن سعد أن يقول لها ثانيةً: أنا جمرة متخفية بين رمادك يا آرين، رائحة البارود طغت على عطر الرسالة المتوثبة في جيب بنطال آرين، وجمرات الموت التي كانت تقذفها فوهات رشاشات الدوشكا، أذبلت سعد “الجمرة المتخفية” في رماد آرين، في تلك الليلة، كان جان دوست هناك، لم يكن هناك بكلّيته، ولكن جزءاً منه كان هناك، روحه كانت تطفو فوق سحب الدخان تارةً، وتارة أخرى كانت معلقة بأضواء القمر الصيفي المتعب، تلكم الروح التي أومأت له أن يدوّن ليلة الغدر، ليلة رحيل سعد ورفاقه، ليلة الفاجعة الجديدة التي سيأتمن جان نفسه عليها، كحارس لفجيعة أخرى.
ما تقدم، يقودنا إلى الإحاطة ولو بجزء يسير من ميراث الروائي جان دوست، والذي وكأنه أبى إلاّ أن ينحو المنحى الذي أشرتُ إليه آنفاً، فقد استأنستُ بإحدى إجابته لدى سؤالي له عن رواية ” كوباني “، والتي بدت ومن خلال إجابته كشقيقة ” دم على المئذنة “. وقبلهما رواية ” مم وزين ” كشقيقتهما الكبرى. هذه الأعمال وغيرها، وسمت هذا الروائي بأنه يبحث عن الفجائع ليدونها، ليوثقها، ويتلوها هنا وهناك، يبعثرها كما لم يبعثرها أحد من ذي قبل.
دم على المئذنة، تستأهل قارئها، وقد استأهلتني، وهي تُستحق أن تُبحث في كتاب نقدي، ليفيها المرء حقها، ومن خلالها ليُوفى جان دوست الروائي الكوردي حقه أيضا. آمل أن يسعفني الوقت ذات يوم لأنجز ما أنوي إنجازه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرح المفردات:
” الحبر هو الألم في أكثف درجاته، هو الألم سائلاً على القراطيس. الحبر هو دمّ الكلمات فلا تبحثوا عنه هنا لأن الكلمات نزفت كل دمها في حريقكم الغادر “. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…

بسم الله الرحمن الرحيم

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”
صدق الله العظيم

ببالغ الحزن والأسى، تلقى موقع ولاتي مه نبأ وفاة السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، حرم المرحوم صالح شرف عثمان، ووالدة الكاتب الكوردي المعروف فرمان بونجق هفيركي…

إبراهيم اليوسف

لقد غدا اليوم الذي ظننته يوماً للذكرى، لا للرحيل، يوماً غيّر مسار الذاكرة كلّها. جدد فيه الألم، ومنحني ألماً من نوع آخر، بسبب عدوى ألم المحيط الذي يشكل أديماً روحياً. استيقظت وأنا أتهيأ للحديث مع إخوتي وأخواتي في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل أبي- كما أفعل ذلك منذ أكثر من عقدين- فإذا بأخي أحمد يهتف…