أحلام النارقراءة في رواية أفاعي النار للروائي جلال برجس

صفاء أبو خضرة| الأردن

هل النار تحلم؟ وهل تراودها الرغبات؟ هل هي كائنٌ حيّ لكلّ ذلك؟ ماذا لو اتفقنا على أنها تمرّ بمراحل الكائن الحيّ، من ولادة عند احتكاك طرفين بعضهما ببعض، ثم تشبّ وتصبحُ فتيّةً ثم تشيخ وتموت بالانطفاء.
هذه النزعة الباشلارية- إن جاز التعبير- في رواية جلال برجس تكتشف كلّ ذلك، تحلم النار بمُلامسة الأشياء، لكننا لا نعرفُ أبداً إن كانت نيتها كما تظهر لنا، تسبب الاحتراق وربما الموت، لكن الأفظع من ذلك أنها تسبب التشوّه، تغير الملامح وتصبّها في قوالب أخرى لا نجدُ لها تفسيراً سوى عدم القدرة على تقبل الأمر. 
في الرواية نكتشف أن النار ليست فقط تلك التي تشتعل من مادة نفطية أو من ملامسة شعلة صغيرة لكومة من القش وما إلى غير ذلك، ثمة رؤوس كثيرة متعددة لها، وأبرز رأس ظهرت لنا ملامحهُ هُنا رأس النار التي تشتعل من الداخل، جراء ملامسة فكرة لفكرة، أو رائحة لذكرى ما، إنها من أصعب أنواع الاحتراق، لأنها تشوّهنا من الداخل، تذيبُ فينا كل جميل، وتذوبُ فينا صبرَنا لِممارسة الحياة على طبيعتها دون تكلُف.
وكما بدأت الرواية بالاحتراق وانتهت به، لكن برجس يأخذنا معه في جولة مع حكايات متداخلة وشخصيات يربط بينَها خيطٌ رفيع ابتداءً من خاطر ورحاب وصورة أمه المعلقة على الجدار التي اجترّها الحريق، فنرى الانقلاب المفاجئ عندما يصبّ لجام مُخيلته على شخصية الحكّاءة التي أوعز انجذابه الغريب نحوها بشبهها القريب من أمه وهو الذي فتح الباب على مصراعيه لموقع الأمهات عندما يكنّ برفقة أبنائهن حتى بعد الفراق لتخرج إليه على شكل حلم لا يستيقظ منه إلا وقد استعاد ما ضاع منه في الحريق؛ روايته التي اشتهتها النار كما اشتهت صورة أمه وأكلتهما معا ويظهر ذلك بقوله في ص 208: “أرواح الأمهات طيور لا تتوقف عن التحليق في سماواتنا وتتدخّل في اللحظات التي نصاب فيها بالعجز والخسارة”.
القصّاد، العاشق الذي نالَ قسطاً وفيراً من النار بكُلّ أشكالها، ولعبت معه النرد مقابل حياتهِ وشغفه في أكثر من محطة، حاول فيها الفرار من قدره لكنها دائما ما كانت تصدّ طريقه وكأنها هي ذاتها قدره الذي لا فرار منهُ أبداً، ربما كانت تعاقبه على فعل لم يقترفهُ هو، بل اقترفه آخر في غابر الحكايات والأساطير، ربما عاقبته بدلاً من بروميثيوس عندما سرق الشعلة، وحول مصيرها الى البشرية.
لكننا أيضا في لبّ السرد نجدُ ناراً أخرى استعرضها الكاتب عبرَ شخصياته نار الفهم الخاطئ للدين وقولبته ضمن قوالب مجتمعية خاصة والعادات والتقاليد الفجة بدءاً من التسبب بإحراق ابن القصاد بعد محاضراته التوعوية وصدور كتابه (العيب والحرام)، على يد جماعات متطرفة، وأيضا نرى ذلك على لسان شخصية محمد القميحي في ص 84 أثناء حواره مع سعدون عندما قال أنا لستُ كافراً يا شيخ، فرد عليه: “شارب الخمر وتارك الصلاة كافر والزاني كافر”، واستعرض ناراً أخرى تأكل مجتمعنا في عقر قلبه، وهي نار الإشاعة كيف يتجاذبها الناس، وتأخذ أشكالاً كثيرة وأكبر من حجمها؛ لتصبح كابوساً يقلق راحة الجميع وتجعلهم يتخبطون ويهيمون على وجوههم، ما يدلّ على هشاشتهم وفراغهم وإيمانهم المطلق بالخرافة وعدم تحكيم العقل في أيّ من المواقع “رأيت غولاً في القرية… بصوت جماعي وتلقائي قالت النسوة: يا ربي سترك غول”، ص 70.
في هذه الرواية أيضاً استطاع برجس أنْ يفرّق بين الرواية والحكاية، فما بينَ السردينِ خط شفاف، عندما بدأ روايته بـ “وأخيرا اكتملت روايتي”، ليُدخلنا مع الحكاءة في حكاية ترويها على مسامع الفتية المتحلقين حولها وخاطر صاحب الحكاية ذاتها.
استطاعت “أفاعي النار” برؤوسها الكثيرة أن ترصد كل الزيف والتملق والفوضى والعبثية التي نعيشها في مجتمعات لا تقبل الآخر بأفكاره وهواجسه واختلافه، إنما تفرض ما حفظته دون دراية أو تفقه أو استهجان، بل كانت اعتباطاً، ليطل علينا آخر مشهد في الرواية، وكان موجعاً أكثر من مشهد اشتعال النار في علي بن القصاد في المنزل المشيد في القرية، مشهد الرجل الذي يقذف الكتب عبر نافذ منزله خاتما: “كل هذه الكتب، ونرى رؤوساً تُجزّ بكل هذه الوحشية، ثمة خلل إذن خلل كبير”.
هنا نسقط من أعلى قمة لنرى العالم بعين الحقيقة، الحقيقة الموجعة التي انقلبت فيها العدالة والأمن والحقوق وساد العنف والظلم حياتنا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…