سلمى جمو
كانت ولازالت البشرية في صراع شعوريّ حيناً ولا شعوريّ حيناً آخر بين العقلانيّة والعاطفة، فاختيار الأولى يتحتّم أن يؤدّي إلى نبذ الثاني والعكس صحيح، وكأنّ قدر هذين المصطلحيْن كقدر الخطّين المتوازيين، حتى بات إلصاق صفة العقلانيّ بجماعة تُحسب على العاطفيّة وكأنها أسلوب للتهكّم والرفض من أبناء تلك الفئة، وإلصاق صفة العاطفيّة على عقلانيّ ما بمثابة احتقار، وكم كانت الطرق كثيرة للوصول إلى الاثنتين، حسب رؤى وقناعات البشر!!
ربما يُصنّف العقلانيّون إلى خانة المشبعين عاطفيّاً – وهو أمر يبدأ منذ الولادة – حتى أنه أصبح في تركيبتهم وبنيتهم، لذا تراهم غير مبالين بوجوده من عدمه؛ لأنهم في الأساس غير مدركين بوجوده أصلاً، فهو من البديهية كما الطعام والماء والنوم…
أما العاطفيّون – الروحانيّون – الذين يظلّون في بحث دائم عن ذاك الإكسير الذي يطمئن ذوّاتهم الحائرة، الباحثون عن رقعة قماش ولو بالٍ يرقّعون بها شقوق أرواحهم التي تحوّلت ناياً تعزف نغمات شجيّة كلّما هبّت رياح الوحدة من تلك الشقوق؛ هذا الصنف يبقى أبداً يعيش نقصاً لا يعلم له مصدراً، حاله كحال العقلانيّ الذي لا يعرف للعاطفة مصدراً لأنه مشبع بالأساس، يبدأ بالتشبّث بأيّ قشّة تمنحه القليل من الرفاه العاطفيّ، من منطلق الحرمان من العاطفة في الطفولة يخلق شخصية في نهَم أبديّ. يأكل السراب ويشربه دون أن يعلم أنه لا يَغني ولا يسمن من جوع، كذاك الكلب الشريد الذي يلهث خلف كلّ مَن يمدّ إليه بقطعة من عظْم.
هذه الشخصية تظلّ تركض من نبع إلى آخر، من إنسان لآخر، من حالة لأخرى، علّه يجد الدفء الذي يبحث عنه.
الدراويش والنسّاك هم في المحصّلة بشر لم يحصلوا على مرادهم من أقرانهم من البشر، فقرّروا طرق مسالك أخرى يحصلون منها على مبتغاهم، تلك المسالك الخالية من النفعيّة ومن خوف الخيانات والخيبات. تلك الحالات الروحيّة تكثر، خاصّة في الأزمنة التي تسيطر عليها المادّيّة أو العقلانيّة أو القواعد المطلقة، والأهم تكثر في العصور التي تفقد فيها العلاقات الإنسانيّة بما تحملها من قيم سامية قيمتها ويصبح البعد عن أبناء الجنس الواحد أفضل من القرب منهم «العزلة»، عندها يكون الطريق الذي بلا خيبات هو المرجّح كمان أسلفنا.
إن إحدى تلك الطرق هي التصوّف – بالمعنى الشامل لكلّ الأديان والأعراق والمذاهب – بما يحمله هذا الاسم من زهد وصفاء. حالة فردانيّة خاصّة بالمطلق بين المحِبّ والمحبوب. طريق يُعثر فيه على الطمأنينة التي عبثاً عثرها عليها بين الأنانيّة والبراغماتيّة.
قد يقول البعض أن هذه قمّة التواكل والخنوع؛ أن تستسلم بالمطلق للمحبوب – الذي يكون في الغالب «الله» – وندخل إثر ذاك في حالة من المازوشيّة التي تجلب لنا السكينة بالإذلال والنكوص. لنتفق أن الإنسان مخلوق بالرغم من ذكاءه وأفضليته في هرم المخلوقات الحيّة على وجه الكوكب؛ بالرغم من ذلك عاجز أمام الكثير من الأمور التي لا يستطيع عقله المطلق في محدوديّته الإجابة عنها، لذا تراه يجد الطمأنينة من القلق الذي يعتريه إزاء المبهم والمجهول أن يربطه بموضوع ما، سواء أكان هذا الموضوع هو الله، أو قلب الكون النابض، أو الميثولوجيات التي أبدعها الإنسان؛ يجد الطمأنينة في ذلك إلى أن يتمكّن عقله من إيجاد الأجوبة، ولا أعتقد أن هناك ضير في ذلك مادامت هذه الآلية الدفاعيّة تجنّبنا الانقراض والهلاك وتمنحنا فرصة المواصلة وكشف الكثير غير المكشوف.
بالعودة إلى الروحانية والتي الصوفيّة وجهها الأكثر شيوعاً؛ التي كانت ردحاً من الزمن ذاك المرهم الذي يعالج تشنّجات الروح – والعقل أحياناً – في تلك الحقبة التي طغى فيها عقلانيّة الدين وتحويله إلى مجرّد عبادات وفقه وتفسير، نجد أن ذاك التصوّف بألقه وفريد حالاته قد فقَد الكثير من نقاءه الروحيّ وتم تحويله إلى مذهب أو طريقة، وإخراجه من حالته الفردانيّة إلى مجموعة طقوس وشعائر جمعيّة، ونقع مرّة أخرى أسْرى للعقلانيّة والطقسويّة.
الصوفيّة كانت طريقة بعضهم للوصول إلى الإله، أو التعبير عن حالة الحبّ التي تربطه بالإله وطريقة فهمه وإدراكه له، أيّ هي بعيدة جداً عن كونها ملموسيّات ومحسوسات. هي تلك الذاتية المستورة من علاقة العابد بالمعبود وهي خاصّة، استثنائيّة، فريدة بالمطلق، بحيث لا تشبه طريق أحد النسّاك طريقة الناسك الآخر. كلّ يعبّر بوعيه الواعي واللاوعي عن مدى قربه وحبّه وحتى فهمه للذات الإلهي.
فقائل جملة: «رأيت ربّي بعين قلبي» لا يحتمل إلا أن يكون قد أعطى تصوّره لله من باب المجاز المطلق أضفى عليه بُعداً وجدانيّاً صرفاً، هذا الذي رآه بعين قلبه ربّه، ربما يراه بعض الآخر بعين عقله، أو بعين عواطفه، أو حتى بعين المخلوقات الأخرى.
الصوفيّة كانت حالة هروب من الوحدة التي كان يشعر بها المرء بعد انسلاخه من محيطه إلى حالة وحدة من نوع آخر، فوجد في المحبوب ملاذاً وكهفاً آمناً لارتعاشات ضياعه، ذلك أن الإنسان متى ما خرج، أو تمرّد، أو ابتعد عن مجموعة بشريّة، أو عقائديّة، أو فكريّة تراه بدلاً من شعوره بالحرّيّة والخلاص؛ تراه يشعر وكأنه ريشة في مهبّ الريح تتلقّفه الأعاصير أنّى شاءت دون أن يشعر بالانتماء، ودون أن تكون جذوره عائدة إلى تربة ما، ليبدأ الارتداد العكسيّ ويبحث لنفسه عن رمز، أو إيديولوجية، تمنحه الأمن وتشعره أنه مرغوب به، وهو بالضبط ما تقوم به الصوفيّة، ولكن مع ما التصقت بالصوفيّة من عادات هي أبعد عن روحها، لو جُرّدت ممّا يكسوها من الشوائب والزوائد لكانت النقطة المشتركة لكلّ مَن يريد قرب الإله مهما كانت طائفته وعرقه وديانته؛ لأن الصوفيّة هي دين المحبّة والعشق للذات، وبالتالي للخالق خالق ذاك الذات. ثم ما المشكلة لو أننا كلّنا سرنا بطرق مختلفة ما دامت تؤدّي إلى روما «المحبوب»؟ أقله سنجعل من الطرق المهجورة سالكة؛ سالكة بالحبّ والسلام والإثار.