إبراهيم محمود
الجمْع بين مصطفى باشا وسعيد النورسي
يستعرض أوجماز في أطروحته الجامعية ذلك اللقاء الغريب بين زعيم عشيرة مقتدر ومرهوب الجانب، هو مصطفى باشا، ورجل دين له اعتباره وقد عرِف بالجرأة والهيبة، وذيوع الصيت، هو بديع الزمان سعيد النورسي ( 1878-1960 )، والاثنان كرديان، وهو لقاء يؤرَخ له بأواسط تسعينيات القرن التاسع عشر. والسؤال المطروح هنا هو: ماالذي يجمع بين رجلين بينهما غاية التناقض تفكيراً وسلوكاً؟ وماالذي كان يشغل ذهن أوجماز في الحالة هذه؟
بين رجل حرب وغزو وعرِف بقسوته، وسعيه إلى تحصيل المزيد من الثروة، كما يقول تاريخه المكتوب، ورجل عرِف بالزهد في الدنيا، وبصفته متصوفاً، والسعي إلى تهدئة النفوس، ونبذ العنف، والتفرغ للعبادة وربطها بإصلاح النفوس، ومحاربة الجهل!
لا يظهر هناك ربط منطقي بين الرجلين، أو لأن الأطروحة تتمحور حول عشيرة وتحالفاتها القبلية وزعيم ذاع صيته في المنطقة، وصِلته بالباب العالي، وما في ذلك من مصالح قائمة ودفاع عن هذه المصالح وعن الزعامة، واقتناص الفرصة لهذا الغرض، والثمن المدفوع والمقدَّر في ضوء تبعات علاقات كهذه، فلا يكون للالنورسي الذي له اعتبار مغاير آخر ، وهو مغاير كلياً، كما لو أن التوقف عنده بمثابة ” عطل فنّي لا يستهان به ” يغيّر في سيرورة الأطروحة وبنيتها، ويفقِدها توازنها البحثي إن جاز التعبير. غير أن النظر عن بُعد، وعن عمق في بنية العلاقة ومغزى تسميتها، يستشرف بنا جانباً حياً ومؤثراً في الجمع المذكور، أو اللقاء الحاصل والذي يستغرق صفحات تترى من الكتاب: الأطروحة، ويحسَب من التاريخ .
إن أقصى الخلاف أو التعارض، يعني إمكان التقابل، لقراءة المسافة الفاصلة ومعناها .
يظهر الديني بمؤثّره الديني، نابعاً من موقعه النفسي والتاريخي الطويل، من خلال رجل له مكانته الكاريزمية، حيث يكون هذا مكاشفة لنفسية الآخر، واختباراً لجانب إيمانه، وصلة كل ذلك بالآخرين الذين يشتكون منه. الديني تنبيهي هنا، وما كان له أن يتم، مع رجل يُخشى جانبه، إلا من خلال رجل مقابل له، وفي موقع مغاير له تفكيراً وتدبيراً، وهذا اللقاء اعتراف بدور الديني في الوصل والفصل بين العناصر أو الأشخاص، وقد جرى الاهتمام به لهذا السبب .
من هو سعيد النورسي؟
إنه ينتمي إلى أسرة دينية نقشبندية، تولُّد قرية ” نور ” بمديرية بدليس. حيث يشار إلى نبوغه منذ صغره، وهي علامات تشفع له بمثل هذا الحضور في المكانة والاعتبار. وعلى قارىء سيرته، وكيف كانت حياته، في وضع كهذا، أن يقابلها بسيرة الآخر: زعيم عشيرة ميران، لتكون هناك الصورة أكثر إيفاء بالمعاني والدلالات.
نقرأ عن أن ( سعيد النورسي ، لم يكن يرى أن السياسة ضرورية لعيش الدين ، ونفي مرات عديدة نتيجة الاضطرابات السياسية التي حدثت. وأنه بعد تمرد الشيخ سعيد (13 شباط 1925). أثناء وجوده في المنفى في بوردور ، كتب عملاً بعنوان رسالة النور Risale-yi Nur وبدأ في تدريب الطلاب بما يتماشى مع هذا العمل. ومع ذلك ، أدى هذا الوضع إلى نفي واعتقالات جديدة. وقد عاش حياة في ألم شديد ، وتوفي في أورفة عام 1960 ودفن هناك. وبعد ثلاثة أشهر من وفاته ، أطيح بحكومة الحزب الديمقراطي نتيجة انقلاب عسكري. وفي تموز 1960 ، فُتح قبر سعيد النورسي وأخذت عظامه من هناك ونُقل بطائرة عسكرية إلى منطقة جبلية حول إسبرطة ، إلى مكان لم يعرفه أحد. إنه حدث بيّن في الواقع ، لم يكن سعيد النورسي شخصًا لديه موقف سلبي تجاه أفواج الحميدية. حتى أنه رأى في كتائب الحميدية وسيلة للوحدة الوطنية والحضارة للكرد. شعر بالحاجة للتدخل بسبب ما فعله برجل مثل مصطفى باشا كان يسير بخوف ورعب في كل المناطق الكردية بقسوته ونهبه وقتله واغتصابه. إلى درجة أن حادثة مهمة وقعت بين هذين. عندما كان سعيد النورسي في تيلو ، ذات ليلة ، رأى في منامه الشيخ عبدالقادر كَيلاني وقد خاطبه قائلاً: يا ملا سعيد! امض إلى رئيس قبيلة ميران مصطفى باشا وادعه إلى طريق الهداية. ص 87 )
واجهه النورسي ودعاه إلى ما أمِر به في منامه، ولم يكن يعرفه مصطفى باشا( عندما سُئل سعيد النورسي عن سبب مجيئه إلى هنا ، أجاب سعيد النورسي ، “جئت لأخذك إلى الطريق الصحيح. فأجاب: “إما أن تترك الاضطهاد وتصلي أو أقتلك” ، غضب مصطفى باشا وخرج…) ،
وتكون النتيجة طلب اختبار لعلم النورسي من خلال ملاليه( “لديّ الكثير من العلماء في الجزيرة. إذا استطعت مغالبتهم جميعًا ، فسأفعل ما تقول. إذا لم تستطع التقييد فسألقي بك في نهر الفرات “. يتصرف بقسوة. قال سعيد النورسي ، “كما أنه ليس مكاني لإلزام جميع العلماء ، فليس من مكانك أن تلقي بي في النهر. لكن عندما أجيب على العلماء ، أريد شيئًا منك ، وهو بندقية ماوزر. إذا لم تحافظ على كلمتك ، فسوف أقتلك بها “..ص 88 ).
بعيداً عن الاسترسال، يظهر النورسي غالباً علماء مصطفى باشا، وهو يجيب على أسئلتهم، ويقرّون له بالمكانة الدينية والاعتبار الشخصي له، ويكون ذلك حافزاً لأن يصلي زعيم ميران، ولو لبعض الوقت .. ويريد مصطفى باشا هذا، فيما بعد، الإيقاع به، من خلال سباق الخيل، حيث يسلّمه حصاناً برّياً، أوشك أن يقضي على حياة طفل حين ركله الحصان، وكاد أن ينهي حياة النورسي نفسه، بدافع الانتقام منه عن طريق أهل الطفل، ولكنه يتمكن من معالجة الطفل هذا، وسط دهشة الحضور، ويشير إلى أن السبب في ذلك هو صاحب الحصان، وهذا يثير مصطفى باشا فيهجم عليه، فيمنَع من الوصول إليه، ويخبره ابنه عبدالكريم أن عقيدة والده مصطفى باشا فاسدة ليدعه وحاله ” ص 89 ” ويشير الباحث فيا بعد إلى لقاءات عديدة للالنورسي مع شخصيات عروفة ولزوم (معاملة الناس بإنصاف. ومع ذلك ، نتيجة لتحقيقاتنا حول هذا الموضوع ، لم يتم العثور على وثائق أرشيفية.ص 90 ) .
لقد حاولنا اختصار المشاهد ويسهل الرجوع إليها في مواقع ومنابر تركية كثيرة تؤرخ لهذه الحادثة ، وهي بدلالتها الدينية طبعاً، ونوّه إليها عربياً ” 24 “
واللافت أنه جرى سرد هذه الواقع في قصيدة نظمية، حيث كل كل شطرين يشتركان في قافية واحدة، وبالعنوان الذكور.
كما في :
Asıl adı Said iken dendi Bediüzzaman
Daha küçük yaşlarında bildi ki dünya yalan
ولما كان اسمه الحقيقي سعيد قيل إنه بديع الزمان
لم يكن يعلم أن العالم كذبة
Üstün kabiliyetiyle ilgi alaka gördü
Bütün herkesi şaşırtıp hayretlere düşürdü
لقد جذب الانتباه بقدراته الفائقة
فاجأ الجميع وأذهلهم
Ön plana çıkıyordu O’nun keskin zekâsı
Harikulade gelişmiş mükemmel hafızası
برز ذكاءه الحاد
ذاكرة متطورة للغاية
…..
أثناء وجوده في تيلو ، كان لديه حلم غريب في إحدى الليالي.
يظهر عبد القادر جيلاني في أحلامه
Abdülkadir Hazretleri diyor “Ey Molla Said
Mustafa Paşa denilen Miran Reisi’ne git
يقول قداسته عبد القادر: “يا ملا سعيد
اذهب إلى زعي ميران ، المسمى مصطفى باشا
Halkına zulmettiğinden hidayete davet et
Bir de namaz kılmasını Reis’e tavsiye et
ادعُ شعبك إلى الهداية لأنك ظلمتهم.
كما انصح الزعيم بالصلاة.
…..
قال السيد ، “يا سادة ، لقد وعدتكم
أنا لا أطرح أسئلة على أي شخص ، وظيفتي هي الاستماع “
Kırk kadar sual sorarlar oradaki âlimler
Cümlesine cevap verir onlara birer birer
العلماء هناك يسألون حوالي أربعين سؤالاً
يجيبهم واحداً تلو الآخر
Sonra da Mustafa Paşa Üstad’ı tebrik eder
Namazı kılmaya başlar mavzer hediye eder
ثم يهنئ مصطفى باشا السيد.
ويبدأ بالصلاة ويعطي ماوزر كهدية.” 25 “
ولعل مكاشفة دقيقة لسيرورة اللقاء بين مصطفى باشا وسعيد النورسي، تظهر جانباً ربما لا يُنتبَه إليه بسهولة، ومن قبل الذين حاولوا التركيز عليه، وحتى الترويج له، وهو تعزيز مكانة رجل الدين النورسي، وإبراز صلته بالدين: الإسلام، ورفضه للعنف، وهو يتحرك تحت مظلة السلطان العثماني، وما في ذلك من مناقبية دعائية للسلطة ومن معها .
إنه تطويق لشخصية زعيم ميران، وإظهار النقمة عليه، وباسم الدين، وهو بشخصيته الكاريزمية والكراماتية كذلك، تعزيزاً لاستقطاب الآخرين ممن يحاولون التفكير في مسار مختلف، معارض للسلطة، وليس من أجل ردع مصطفى باشا، وهو في موقع آخر، على صعيد القوة وأبعادها الاجتماعية والأخلاقية، ومن زاوية دينية .
إنما في الوقت نفسه، لا ينبغي، ومن خلال نسيج الواقعة المعروض، أن ننسى جانباً حياً من نفسية زعيم ميران، وهو برهبته وسطوته، كما قُرىء عنه: إنه رجل لا يخلو من الإيمان، وبالتالي، فإن تجاوبه مع النورسي ودعواه، يصبّ في مجرى الاعتراف بالمؤثّر الديني، وانفتاحه عليه ، إذ كان من السهل التعامل معه بطريقة أخرى استمراراً للعنف الذي كان علامة فارقة له في علاقاته بالآخرين، سوى أن غواية الزعامة في جمعها بين الثروة وربطها بالغزوات واحتواء الأرض المنهوبة وما عليها، تعبيراً عن سلطة قائمة، والزعامة المتّسعة حدوداً جرّاء ذلك، متقدّمة على مؤثّر الدين وحاجته إلى مغالبة نفسية للظهور بالصورة التي ناشدها فيه النورسي، وهو ما فتح باباً آخر في هذا المقام العارض اريخياً.
هناك أكثر من نقطة تتطلب إضاءة لها، وفي الواجهة، ما يخص مصير النورسي، ونهايته المأساوية، وهي شاهدة على مدى شهرته في الآفاق. لقد أصبح رمزاً روحياً أوليائياً، أثار حفيظة السلطات التركية حينها، وهو ما يمكن توقعه، من خلال عدم ترك أي أثر له، لئلا يصبح قبره مزاراً، ويثير الذاكرة المكانية وتبعاتها الاجتماعية ككردي. لقد كانت كرديته من نوع مختلف، ويمكن في الحالة هذه، الوصْل بين تلك النهاية للالنورسي، وهي ترتد سلباً على السلطات وهي في علمانيتها ذات الطبعة الأتاتوركية الطاغية بجلاء، وخشيتها مما هو ديني موصول بالواقع ، والنهاية التي انتهى بها زعيم عشيرة ميران، حيث لم يحسَب لها حساب.
كما لو أن الذي تفوّه به النورسي جهة الظلم الذي عرِف به قد أفصح عنه في تلك النهاية الصادمة والفظيعة. حيث لم يعرَف من يكون القاتل، رغم أن الباحث يورد أكثر من رواية، من ذلك ( عندما تعرض الباشا لكمين وقتل من قبل Surzâde محمد آغا سورزاده ، الحليف الجديد لبدرخان بك ، ورجاله ، بينما كان في طريق الرحلة مع عشيرته في عام 1902. ويذكر أن أحد أبناء مصطفى توفي في الحادث.ص 90 ).
وهذا يرجع بنا إلى الوراء جهة العداوات التي سبَّبتها غزواته للآخرين ( في 8 شباط 1896 في المراسلات بين المؤسسات ، تم ذكر النزاعات بين رئيس قبيلة ميران مصطفى باشا ورئيس قبيلة شرنخ سورزادي محمد آغا Surzâde Mehmed Ağa . وتم إرسال لجنة إلى المنطقة وفتح تحقيق ، خاصة بعد أن اشتكى سورزادي محمد آغا ، رئيس قبيلة شرنخ ، من الفظائع التي ارتكبها زعيم قبيلة ميران مصطفى باشا. وعلى الرغم من أنه كان مفهوماً من المراسلات بين المؤسسات المذكورة أعلاه القيام بما هو ضروري ، فقد كان مفهوماً أنه لم يتم إجراء محاكمة ضد مصطفى باشا. ص70 ).
أي ما يترك كَرة السؤال التاريخي في مرمى السلطة، وهي في مكرها التاريخي، والمراد من هذا التجاهل، أو الصمت المدروس، وهو في داخله يستبطن حقيقة تسمّي هدفها المرسوم، على حساب من أريدَ لهم أن يكونوا طعماً، وهم يتخذون سواهم طعماً لهم في الاندفاع إلى مصالحهم، وفي فضاء جغرافي امبراطوري، يتطلب النظر في أي واقعة بحجم هذا الفضاء !
وقد ( ذُكر” أي مصطفى باشا ” في روايات أخرى أنه بينما كان يقود هجومًا ضد عدو طائش ، بينما كان يركب بمفرده ليلًا في واد ، تعرض لكمين مع رجاله في صراع وقاتل حتى آخر شخص ، بينما قُتل على يد الجيش النظامي حيث يتواجد رجاله. ومع ذلك ، قال مارك سايكس ، الذي ذكر أيضًا أن هذه القصص لها جوانب مسلية ، حيث علم السبب الحقيقي لوفاة مصطفى باشا بفضل المعلومات التي قدمها اثنان من الكتبة المسيحيين وكرد شرنخ. فبينما كان مصطفى باشا ، الذي قضى الصيف مع قبيلته وقطعانه في جنوب بحيرة وان ، عائداً عبر منطقة كرد شرنخ ، أوقفه أفراد من قبيلة شرنخ عند ممر شرنخ واحتجزوه لمدة يومين. وقام مصطفى باشا ، الذي فقد صبره ، بمحاولة هجوم وقال: “سنمر من هذه البوابة اليوم أو لن نمر أبدًا!” عندما حدد هدفًا دقيقًا وقتل أحد رجال قبيلة شرنخ ، تراجع رفاقه. ثم قال مصطفى: لنأكل قبل أن نكمل.. وأُحضِر له الخبز. وبينما كان يضع الخبز في فمه ، أصيب في جبهته برصاصة مجهولة المصدر ، وسقط على الأرض دون أن يصدر أي صوت.92 ) . يعني ذلك أن ربطاً بين النهايتين يواجهنا بما تكون عليه طبيعة التفكير لدى الناس وقتذاك، وكيف يجري تلوين الأحداث بمشاعر ذات أرضية دينية ودور الغيب في كل ذلك .
إن البحث في سيرة حياة النورسي ، يرينا الكثير من الأمور، ومن خلال الكتابات عنه، إلى درجة التضارب في التقويم لشخصيته انطلاقاً مما هو سلطوي، ومن ذلك ( ولد سعيد النورسي عام 1873 من أسرة كردية معروفة بتدينها والتزامها بالإسلام، وقد ظهرت عليه آثار النبوغ والذكاء منذ طفولته..ص427- واستطاع- رحمه الله- بكفاحه المستمر وإصراره على بيان حقيقة الإسلام،.. دون أي رغبة في مغنم.. أن يكوّن جماعة كبيرة..) ” 26 ”
وما ورد عنه بوصفه مناوئاً للظلم في عمومه (واجه أتاتورك محارباً نصب التماثيل ودعا إلى النصب التذكارية وهي : المشافي، المدارس، ملاجىء الأيتام، دور العبادة، الأقسام الداخلية للطلبة، شق الطرق..) ” 27 “
وهو من جهة أخرى يعتبَر متصوفاً كردياً من نوع مختلف في تفكيره وتقديره للأمور ” 28 “
….إلخ.
تُرى في ضوء ما أثير حتى الآن في هذا الجانب، هل يمكن الربط بين كل من رجليّ الحرب والغزو والدين والزهد؟ هل هناك من إمكانية للدفع بالواقعة إلى النهاية المتوقعة ، وهي النهاية التي لن تكون لصالح زعيم عشيرة ميران ؟ وربما أبعد من ذلك، بالنسبة إلى انحدار العشيرة مكانة واعتباراً ؟
لا يتطرق الباحث إلى أي ملمح من ذلك، سوى أن ورود واقعة كهذه، مع مراعاة البعد الديني وتأثيره النافذ، يرفع من شأن الواقعة ومن جهة المأثور الديني، لحساب النورسي، ومن كلَّفه بذلك ” الكيلاني “.
بعيداً عن التجريد، هناك إمكانات كثيرة للبحث التاريخي، للنظر في واقعة تاريخية معينة، اعتماداً على النقد التاريخي، ومن ذلك، ما يخص المنجَز التاريخي الجديد ناحية قراءة الذهنية، وهي التي تمضي إلى ما وراء الحدث، لمعرفة أهمية ما قيل، وما يترتب عليه من قول آخر، يزيد في معرفتنا بما كان، وهو ما يخص أهمية ” تاريخ الذهنيات “، وتلك القدرات البحثية التي توسّع نطاق البحث التاريخي تماماً حيث ُ تُخضِع قول الباحث التاريخي والمؤرخ نفسه للمساءلة والنظر في خلفيته (تاريخ الذهنيات إذن هو تاريخ ذهنيات الماضي، وليس الذهنيات الحالية.) “29 ” .
يصبح البحث عما لم يتم النظر فيه، أو منْحه ما يستحق من الاهتمام، وهذه الواقعة تحتّم على باحث التاريخ، وبحكم النظام المعرفي ” أو السيستام ” الفاعل فيها، بلغة التاريخ الجديد، ألا يكتفي بالمسطور، بمقدار ما يبحث ولو عن شارة صغيرة قد تلهمه برؤية ما هو منتظَر لجعل الحدث التاريخي أكثر قابلية للقراءة تاريخياً.
وربما في ضوء هذه المتابعة يصبح ظهور النورسي مؤثراً في الواقعة المذكورة، ومعززاً لمقولة مفارقة لخاصية الحدث” المعتبَر ملموساً ” وهي ذهنية غير مسجّلة باسمها لكنها تنتظر من يسطّرها، لإضاءة الواقعة التاريخية بعد ذلك .
لا عبث إذاً في مضمار المأتي على ذكره تاريخياً، بمقدار ما ارتفع سقف المقروء تاريخياً، حيث تشكلت انعطافة حادة برزت أكثر حدة، وأكثر مأساوية، من جهة خبث الدولة وا تريد بثه حقائق تتجاوب مع نظامها السياسي، ومن جهة الكرد، حيث يغفلون عما ينتظرهم، وهم في عراء تاريخ الآخر، وكيف يوقَع بهم، ويفقدون الكثير مما يعنيهم في نطاق التاريخ، على صعيد المكانة، وكيفية استمراريتهم فيه مقارنة بالآخرين، ممن يتميزون بثبات موقعهم بين ما هو جغرافي وتاريخي ينطقان باسمهم.
” يتبع “