إبراهيم محمود
لحضور المؤتمرات والندوات واللقاءات الثقافية، إلى جانب المشاركة فيها، فضيلتان: فضيلة الحضور الشخصي كضيف، والحضور الفعلي بمادة معينة، إذ لا بد من الاغتناء عبر تعارف وحوارات ولقاءات على الهامش . ولبلاتفورم دابران : منبر القطيعة الدولي، ثقله النوعي الثقافي في السليمانية، وهو سنوي، إلى جانب سحر المدينة الذي يعمّق هذه العلاقات، أعني بها السليمانية. طبعاً، ومن خلال متابعة شخصية، ليس من مدينة، أو بلدة، أو قرية، أو زاوية في إقليم كردستان العراق، إلا وتشهد على علامة فارقة في جمالها الطبيعي، وعراقة تاريخها، والنفس المضيافة لأهليها. وهذا ما يعزّز التقاسم الطبيعي والتاريخي لما هو جميل واعتباري من قبلها جميعاً .
مؤتمر دابران الثقافي، يتعزز، كل عام، بلائحة موضوعات مختلفة، تعزيزاً للتنوع والاختلاف والإثراء المعرفي، وهذه الصفة توسعت واعتنت أكثر بمشاركة النسوية التنويرية في السليمانية، والمحتوى يعرّف بنفسه.
ولعل العبارة التي تتصدر واجهة المؤتمر: الدين للفرد والديموقراطية للجميع، توجز الفكرة الرئيسة لهذا المنبر الثقافي، أي كيف يمكن لأحدنا أن يعيش ما هو ديني بينه وبين نفسه، دون فرض معتقده على سواه، ويتعلم أن يصبح ديمقراطياً في علاقاته في المجتمع، ففي الديمقراطية القائمة على الشفافية تكون حضارة الإنسان الفعلية .
هذه السنة، كان اللقاء في : 26-27/11-2022، وكان إسهامي هذه المرة مختلفاً عن السنوات السابقة. لقد وجّهت إلي الدعوة، للمشاركة في مناقشة كتاب الدكتور ، الباحث والمفكر العراقي المعروف عبدالحسين شعبان: دين العقل وفقه الواقع ” مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي ” والصادر في طبعته الأولى، حديثاً، تقرياً عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيلاوت، حزيران، 2021.، في 320 من القطع الكبير. حيث أبديت استعدادي، أولأ لأهمية كتاب من هذا النوع، وراهناً، ومن قبل باحث ومفكر مخضرم، يجمع ما بين المعايشة الفكرية للمتغيرات، وما هو عملي، رغبة في التوازن، خصوصاً في العقدين الأخيرين، على خلفية من مستجدات الساحة العراقية وتحدياتها ، وكوني أتابع موضوعات دقيقة ولها مكانتها ومتابعوها، ثانياً.
والذي يشجع على المثابرة في هذا المسار: حضوراً ومشاركة، هو الجانب الإداري للمؤتمر، في مناخه الثقافي، وأنا أشير من باب الواجب الأخلاقي، إلى دور الأستاذ ملا بختيار الديناميكي، والذي يكون أول الحضور، وآخر من يغادر قاعة الفعاليات الثقافيات ذات الصلة، مع تأكيد الدور الثقافي، والإداري والاجتماعي، لأصدقاء المعرفة الآخرين: الدكتور دلشاد مصطفى، والأستاذ سامي هادي، والدكتور ماجد خليل..ولا بد أن هناك آخرين لهم دورهم في إنجاح مؤتمر مهم كهذا، لا تسعفني الذاكرة في كتابة أسمائهم، إنما أقول: للجميع كامل النقدير .
وما زاد في الحماس المعرفي، هو هذا الهطول الغزيز للمطر في أنحاء الإقليم كاملة، تلك علامة خيّرة أيضاً .
كما نوّهت، لا تطرح العناوين التي تشكل مكونات المؤتمر، إلا بناء على دراسة تخص أهم ما يمكن النظر فيه، أو التوقف عنده، أو تناوله في موضوعات مختلفة، تكون في سياقات شتى: تاريخية، اجتماعية، دينية، فنية، وفلسفية…إلخ، وحيث إن كل جلسة متوَّجة باسم علَم تاريخي، أو اجتماعي، أو سياسي، أو ثقافي معتبَر، وهذا يعزز مكانة المحاور المقدَّمة، إنها فضاءات للنظر، وتبادل وجهات النظر في آن. لهذا، فإن الموضوعات التي تقدَّم بها” وفي ترتيبها ” كل من الدكاترة والأساتذة: حيدر لشكري، ريبوار سويلي، محمد حق مرادي، عبدالرحمن بامرني، سامان حاجي، كيوان أنور، هردوان محمود، آريانه إبراهيم، زرار صديق، بهات حسيب قرداغي، روناك أحمد نيا، ناز جلال، فاتن حسين، آفان فارس جاف، ندا عايد يوسف ، خسرو ميراودلي، إبراهيم حاجي زلمي، حسين رابي، فانه حمي تويزه…تتكامل فيما بينها، وحيث يمكن الاطلاع عليها، في الملخصات المقدمة عنها، ضمن كراس لهذا الغرض، مع نبذة عن السيرة البحثية لكل مشارك .
أما عن كتاب الدكتور شعبان السالف ذكره، والذي انعقدت جلسة ما بعد الظهر، لليوم الأول، حوله، حيث أدارها الدكتور دلشاد مصطفى، بهدوئه المعتاد، وحسن اختياره للكلمات ذات العلاقة، فقد ضمت الجلسة كلاً من الدكتور مؤلف الكتاب، والدكتور لهون قادر، وأنا.
ولأن الموضوع يعنيني، فسوف أتطرق إلى الكتاب، كما تعرضت له في الجلسة، وربما مع بعض الإضافات، استجابة لأهمية الكتاب وحيوية محتواه . وقد كلّفت قبل بدء الجسة بالحديث عنه” التذكير بمحتواه ” وهو ما لم أكن مستعداً له كما يجب، إنما للمناقشة، والفارق واضح، إذ في التعريف به، لا بد من التزام الأمانة، وليس مناقشة أي فكرة تتم تسميتها، ورغم ذلك، فقد احتفظت بتلك الخطوط العريضة وأبعادها الفكرية والتي تنير عالم الكتاب، وما يضع المتابع، ممن يواجدون في المكان، في صورة المشهد الفكري، وبنسَب مختلفة، جهة التلقي .
مالذي يقدّمه لنا كتاب: دين العقل وفقه الواقع؟
أن تتحدث عن كتاب، وفي حيّز زمني مسجَّل، ليس بالأمر السهل، وحين يكون الكتاب جامعاً بين ما هو تاريخي، فقهي، اجتماعي، وسياسي…إلخ، فهنا يكون تحدي الذاكرة.
الدكتور عبدالحسين شعبان والفقيه أحمد الحسني، من المواليد عينها ” 1945 ” وهما ينتميان أساساً إلى الحوزة العلمية، في مدينة النجف، رغم أن الدكتور شعبان، معروف بنشاطاته خارجاً، وفي أفكار الفقيه البغدادي، الكثير مما يستحق التقدير. وحين يقدَّم كتاب يجمع بين رجليْ بحث، مع فارق المعتقد والتفكير، يتضاعف الفضول المعرفي، وفي إطار المناظرة التي تعلِمنا أن المعني بها لا ينشد صواب موقفه، وإنما تأكيد الفكرة التي تعنيه، وبالطريقة هذه، يحدث تفاعل، بمقدار ما تسهم العلاقة الحوارية في إثراء المشترك التاريخي والاجتماعي.
أشرت إلى أن الكتاب في اسمه، لا يقدَّم جديداً، إذ يمكن التذكير بكل من علي شريعي، حسن العلوي، وأحمد الكاتب، وأعمالهم التي تتحدث عن الشيعة تاريخاً، ديناً وسياسة، ولكنه في محتواه، وأسلوبه، يعتبَر جديداً تماماً في حقله.
الدكتور شعبان هو الحاضر، وهو الذي يطرح أسئلة وتساؤلات، ويفعّل النقاش، بينما الفقيه البغدادي، فهو الغائب هنا، ولكن المناظرة في واقعها، تجعل الاثنين حاضرين، انطلاقاً من نوعية العلاقة، وبذلك يتعمق المعنى .
يتكون الكتاب من جملة عناوين:
بداية، يأتي: على سبيل التمهيد، حيث إن المؤلف ينوه إلى تأثير الحقبة المظلمة فينا، وهي في عالمنا تمتد منذ احتلال المغول لبغداد في عام ( 1258 )، وفي أوربا، منذ عام 400 م، في الأول استمرت ستة قرون، وفي أوربا عشرة قرون . ذلك ما يشار إليه لحظة الحديث عن الدين والتدين والعقل…
إن ما نحتاجه إزاء ذلك، هو ما ألمح إليه، عبر التذكير بالشاعر البريطاني ت. س. إليوت، وهي قضايا ثلاث لتطورنا: المعلومة، المعرفة، والحكمة، والأخيرة هي الأعلى رتبة، وهذا يلتقي بمقولة الصيني كونفوشيوس، والذي أشار إلى ثنائية الحكمة، التي تعني معرفة الناس، والفضيلة، وتتمثل في حب الناس، وهذه أخلاقية .
مع كلّ من الدكتور عبدالحسين شعبان والأستاذ ملا بختيار
وليأتي القسم الأول، والذي يتركز على الإطار المنهجي والمفهومي، أي كيف يمكن التعبير عن حقيقة ما، وليس تثبيتها. وهنا يتم التطرق إلى الصلة بين الدين الواقع، الدين والعلم، وكيف يكون العقل هو الأساس، وفي صفحات تترى.أي ما يربط الدين بما هو واقعي، كونه مرتبطاً بالواقع أساساً.
والقسم الثاني، وهو الأطول، يتضمن المناظرات الثماني عشرة “، وهي تتفاوت فيما بينها جهة الطول:
الإيمان واللاإيمان
الدين والإرهاب
الدين والعنف
الدين بين المقدس والمدنس
في النقد والنقد الذاتي لـ” رجال دين “
في نقد مبدأ التقليد
هل الفتوى ضرورية
الطائفية والتمذهب
الأوقاف الإسلامية وإشكالياتها
الشيعية السياسية ” البيان ” و” البيت “
الفدرالية و”الفدرلة “والتقسيم
مصادر التشريع – الاجماع والشهرة
الردة والمرتد، وما في حكمهما
هل المرأة ” عورة ” ” و” ناقصة ” عقلاً وديناً ؟
في النجاسة والطهارة
فقه المخارج والحيل ” الشرعية “
العصمة والمعصوم
علم الغيب .
طبعاً لم آت على ذكر المناظرات كاملة، إنما الأغلبية، محاولاً التعريف ببعض منها، والأرضية التي ينطلق منها الاثنان، وركَّزت على المناظرة الحادية عشرة ” الفدرالية ” وكيف أن الدكتور شعبان مستفيداً من خبراته العملية وعلاقاته وقراءاته، تمكن، كما هو حاله في المناظرات الأخرى، من توضيح صورة الفدرالية هذه في ذهن نظيره، والدفع به إلى الموافقة على ما يقوله، وهو وجوب التشارك في الحقوق والواجبات بالنسبة للعراقيين جميعاً، والكرد ضمناً، خلاف ما كان الفقيه البغدادي يعتقده، وهو أن الفدرلة مشروع أميركي – صهيوني يستهدف تقسيم العراق. وهذه العلاقة تفيدنا بما هو مهم، وهو الرهان على الأسلوب ودوره في التقارب؟
وهذه المناظرة، ولهذا السبب، من أكثر مناظرات الكتاب حساسية، وقد أضيئت بدقة وبراعة .
وليكون ” عوضاً عن الخاتمة ” تعبيراً عن أن الكتاب قد أثمرت شجرته من قبل الاثنين، وفي الرسالتين التي تخصمها، ثمة تأكيد على هذه العلاقة الشيقة والصعبة في آن .
وفي المحصلة، أشرت إلى أن الكتاب لم ينته، إنما يبدأ من هنا، جهة تفعيل الأثر قراءة ومناقشة !
طبعاً، كان لزميلي المشارك في الجلسة، موقف آخر، من خلاف أسئلة تترجم تحفظه على محتوى الكتاب، جهة الربط بين الدين- العلم، الدين والفلسفة، وغيرهما، وكان لتوضيحات الدكتور شعبان، والتي استغرقت أكثر من نصف ساعة، الكثير من الإضاءات لأفكار الكتاب، وللذين لم يقرأوه، جهة التوازن بين المناظرات عموماً .
وجاءت أسئلة واستفسارات الحضور تجاوباً مع مدى التفاعل مع الكتاب ومحتواه .
مع الدكتور دلشاد مصطفى
وقد تحدثتُ في بعض النقاط التي اعتبرتها مهمة جهة الكتاب وخريطته الفكرية: من ذلك، كما نوَّهت: التفاوت بين مناظرة وأخرى: العاشرة ” 24 ص ” السابعة عشرة ” 22 ص “التاسعة ” 19 ص “، الثانية ” 5 ص ” وكذلك الخامسة عشرة…إلخ، وهذا يظهِر طبيعة تفكير الباحث لموضوعاته، ويحفّز قارئه على السؤال حول ذلك، والمناظرة الحادية عشرة ” عن الفدرلة ” كان يفضل أن تكون أطول، نظراً لأهمية الموضوع. إلى جانب إمكانية الربط بين كل من المناظرتين: الثانية والثالثة، حيث الإرهاب والعنف داخل الشبكة الدلالية عينها، وكون الإرهاب أعلى درجات العنف، وهكذا الحال، مع المناظرتين : الرابعة والخامسة عشرة، إذ إن المقدس والمدنس، يتداخلان مع النجاسة والطهارة، فالمقدس طهارة، والمدنس نجاسة…إلخ.
إن ما نستخلصه من الكتاب هذا، هو ما يمكن لأي منا أن يقول، جهة المسئولية، وألا يعدِم صورة الآخر، أياً كان في نفسه، فهو بعد من أبعاده النفسية والعقلية، وبأسلوبه يمكنه الخروج إلى الهواء الطلق.
ذلك ما شدد عليه الدكتور، وذلك ما تعلِمنا به اللغة بوصفها حواراً، والحوار أساس التفاهم في هذا الزمن العصيب والذي لا يستثني أحداً ناحية المسئولية، أينما كان موقعه، وعمله، حيث المجتمع يتكلم بألسنتهم جميعاً ، وما انطلق منه الدكتور شعبان، وأسلوب مناظرته مع الفقيه البغدادي، حيث البعد التنويري قرّبهما من بعضهما بعضاً، وهذا إنجاز ثقافي لا يستهان به طبعاً.
ولعل الذي أشرت إليه، بداية، ناحية الكتاب، هو ذلك الكم اللافت من القراءات، المقالات، الدراسات والمراجعات التي تناولته، إلى جانب الدعوات التي وجّهت إليه، وتلك التي تخص الآتي، وعلى أعلى مستوى سياسي، اجتماعي، وثقافي، لعل الذي فصح عن مدى أهمية الكتاب، وإمكان تفعيله هنا وهناك، حيث الخطر يتهدد الجميع! ولكَم يحتاج الكرد إلى تفاعلات مما تقدَّم !