إبراهيم محمود
في الملعب الساخن للكتائب الحميدية
قيل الكثير عن الكتائب، أو الإيالات أو الفرسان الحميدية، نشأة وأهدافاً، وليس في النشأة أو في الأهداف شيء مما يخدم الكرد، بالمفهوم الاجتماعي العام، أو لحظة الحديث عن تطلعاتهم القومية الطابع، حيث كان نجمهم في هبوط . وفي التعرض لها تفكيراًوتدبيراً، يكون الباحث في التاريخ إزاء مفارقة تثير الاستغراب، أو العجب، من ناحية، عندما يتعلق الأمر بتوصيف ” الرجل المريض ” وهو تعبير تشخيصي، وما كان ينتظره سياسياً في إطار الدولة التي تشكلت من ناحية أخرى. مفهوم المرض الإمبراطوري الذي يظهر مدى شيخوخة عمر الإمبراطورية العثمانية، وترهلها وعجزها عن إسناد نفسها، في مواجهة العواصف التي اجتاحت حدودها خارجياً، والزوابع التي شهدتها حدودها في الداخل: في الأولى، ما يخص أطماع الدول الأوربية، وفي الثانية، الشعوب والأمم والجماعات التي خضعت للعثمانيين، ونبَّهتها رياح القوى القادمة من الغرب،
ولم يستسلم هذا الرجل لها، بالعكس، إنما حتى وهو في ورقة نعيه التي قدّمت من قبل الاتحاديين، كان هؤلاء ينتمون إلى السلالة عينها، وأكثر من ذلك، لقد خرج الجنين القومي التركي من الرحم السلالي العشائري الديني العثماني، ولم يجر شطب هذا التاريخ إطلاقاً، بمقدار ما كان تاريخ أمجاد إمبراطورية في الذاكرة السياسية للترك، من جهة، وأنها أفصحت عن نفسها وتجلّيها أكثر مع الأيام، من جهة أخرى، لتشهد العثمانلية هذه حضوراً مساوَماً عليه في قلب العاصمة التركية أنقرة، وليجري تلبيس أتاتورك الطربوش وليس القبعة، من خلال سياسة العثمانية الجديدة في شخص رجب طيب أردوغان، من ناحية أخرى.
وبالمقابل، في الوقت الذي كان الكرد إلى جانب آخرين يتلمسون جراحهم ويحاولون تضميدها، وملؤهم شعور بالفخار، والوعد بالوطن القومي المرتقب، كما كان خصومهم يفكرون فيهم هكذا: العثمانيون، والأتراك، ومنافسوهم في هذا الوعد المتنافَس عليه: الأرمن، على الأقل، كانت قوتهم كالجبل الجليدي تصعد وتهبط بها أمواج الخلافات والتخاصمات بأختامها القبلية، وليس من رمز انتفاضة ومواجهة لأولئك وهؤلاء، بمحمي من جرثومة أو وباء هذه الخلافات البنيوية التي حولت ضعف الرجل المريض من جهة، وخصومهم في التنافس على المكان، إلى مصدر قوة، وتناميها لديهم، من جهة أخرى . إن عبارة ” الدغدغة ” التاريخية يجب ألا تفارق وجداننا ومخيالنا، والتي اُعتمِدت، ولازالت إلى الآن، من قبل من لا يبريدون للكرد خيراً لا في توحدهم مع بعضهم بعضاً، أو في نشوء أصغر كيان قومي باسمهم، وهي مصدر تنابذهم، حيث جرار ذاكراتهم القديمة، لا زالت مثقلة بخمور خلافاتهم المتوارثة والمثمَّنة من أيام الأسلاف وهي مصدر ثمالتهم كثيراً .
العبور إلى الداخل
إن التفاخر البيني بتاريخهم ” بالنسبة إلى الكرد “، وحين ينبري كاتب أو باحث يتحدث عن هذه القبيلة أو سواها، وعراقتها، ضمن تاريخ عام، ويجري نسيان أو تناسي خطورة تسليط الضوء على القبلي في منطق التاريخ الجزئي، يظهر لنا التاريخ المعكوس هائلاً.
الحديث الذي يخص دور السلطان عبدالحميد الثاني وموقفه مما كان يجري في عهده زلزالياً، وكيف حاول تدارك الوضع، حيث الكرد قبل غيرهم كانوا تحت الطلب، ولو في نسبة منهم، رداً لـ” كيد أعداء ” الإسلام هنا” الوحدة الإسلامية ” يقدّم الكثير مما يفيد تاريخياً، ويصدم جغرافياً، وما هو منتظر جرّاء هذه السياسة (كان عبد الحميد يداعب قلوب زعماء القبائل والشيوخ بمختلف الامتيازات والهدايا والأوسمة والتقدير باعتباره الخليفة وربطه بنفسه. بالإضافة إلى ذلك ، فقد حرص على إبقاء السلطات المحلية ورؤساء القبائل على وفاق جيد . وحتى من أجل إقامة روابط مع القبائل .كما أقام عبد الحميد اتصالًا وثيقًا بالشيوخ في شرق الأناضول من خلال الاستفادة من هوية الخليفة. وهكذا نجح في تعزيز ولاء المنطقة للدولة. وقبل تنظيم الحميدية ، بذلت بعض القبائل جهدًا لعدم أداء الخدمة العسكرية. نظرًا لأن حياتهم كانت بدوية ، فلم يكن من الممكن تسجيلهم أو السيطرة عليهم. لذلك ، لا يمكن الاستفادة منهم في أمور مثل الخدمة العسكرية والضرائب ، وقد شكلوا دائمًا مشكلة للدول فيما يتعلق بانتهاكات الحدود والقمع والسيطرة على السكان المقيمين.ص 36).
هنا، نجد أنفسنا في مواجهة ساحات صراعات متداخلة، أو ساحة لصراعات من جهات شتى، سوى أن المعضل في قلب هذه الساحة يتمثل في الكرد، وكيف يتمايلون يمنة ويسرة، ليس باعتماد قوتهم المصرَّفة باسمهم، وإنما لحساب غيرهم، وما يصلهم أقرب إلى المسمى بـ ” جائزة الترضية “، وإلى أجل مسمى كذلك . ذلك ما يندرج في إطار القوى المتفاوتة في شدتها، وحدتها، ومداها، زماناً ومكاناً، وكيف يجري اعتمادها. أي بوصفها لعبة: لكنها مهلكة ومقررة مصائر أيضاً .
إن سامي شورش حين يقول في الأكراد ومعوقات الفردانية ( يشتهر الأكراد بقوة صلات القرابة بينهم وولائهم العشائري..) ” 20 ” ، إنما يعني ما ليس مبهجاً لأي كردي، في التفاتته إلى التاريخ، أو تأمله في المستقبل، إنما يعني ما يشكل حداداً لتاريخ كردي محبط بوقائعه .
وربما في ضوء هذا التعبير يمكن التشديد على وجود مثل هذه الحقيقة والتي يلتقي فيها جل الكرد، ليس حباً في التوحد، وإنما تعزيزاً لاختلافهم الذي يقرب إلى التصادم والتنافر، وفي التاريخ العائد إلى كياناتهم القبلية ما يؤكد ذلك. ولا يعود الآخر البعيد والنائي جداً هو الغريب بلسانه وقوميته وثقافته، وإنما مقيم الكردي في الجوار، شريكه أرضه كذلك، والمداخِل معه في مصير وجودي واحد. والأهلي هو الغريب، هو المهروَل إليه كثيراً ، لهذا ( كان عبد الحميد يعتقد أن للإسلام قوة موحدة ، وكان يعتقد أنه إذا تم تنظيم هذه السياسة حوله ، فسيتم إنقاذ البلاد من التفكك. لهذا السبب السلطان الثاني. تبنى عبد الحميد كهدف سياسي ربط القبائل الكردية المسلمة بنفسه باستخدام لقب الخليفة وجعلهم يطيعون سلطته كسلطان. ص 38 ) .
طبعاً، ربما كان هناك ما يهم الباحث عن خلفية الكتائب الحميدية، وموقع الكرد فيها، لأن هناك تداخلاً بين حلقات التاريخ، إنما ما الذي يهم الكردي وهو في مصيدة الآخرين التاريخية، حيث يحرَّم من تاريخ وجغرافيا يتكلمان لغته ؟
( سبب آخر في العملية التي أدت إلى أفواج الحميدية هو أن الوجهاء الأرمن في منطقة شرق الأناضول أصبحوا قوة جادة وبدأوا يهددون مصالح الإمبراطورية العثمانية في المنطقة. لذلك ، أصبح من الضروري إقامة توازن اجتماعي سياسي تكون فيه الدولة فاعلة في المنطقة. ولم يرغب أعيان المدينة في زيادة قوة الدولة في المنطقة ، ونظروا إلى اسطنبول بعين الريبة ، وألقوا باللوم على الباب العالي في الإصلاحات. كما بدأ عبد الحميد في دعم مجموعة أخرى ، العشائر ، من أجل كسر قوة هذه المجموعة لأن أعيان المدينة كانوا على دراية بهذه النظرة السلبية. وهكذا ، فإن القبائل المسلمة ستكون عنصرًا متوازنًا وعنصرًا أمنيًا مهمًا في المنطقة ضد الوجهاء الأرمن. وكانت الحرب العثمانية الروسية على وجه الخصوص حربًا كبيرة أثرت على البنية الاجتماعية العثمانية بشكل وثيق وسلبي مع التوسع الروسي السلافي السابق وتغييرات الحدود بعد ذلك . … وشدد عبد الحميد على أن التهديد الروسي كان من الأولويات خلال مرحلة تقييم المشروع وقال إن تجمعات القبائل كوحدات منضبطة في حرب محتملة ضد روسيا يمكن أن تخدمنا كثيراً وهي مفتوحة. لذلك ، كان لا بد من بناء جدار أمني كردي ضد هجوم روسي محتمل. ص 39 )، (وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن جدار الحماية هذا ، المسمى أفواج الحميدية ، تم إنشاؤه مستوحى من “أفواج القوزاق” في الجيش الروسي. على الرغم من عدم الشعور بشكل مباشر بالتهديد الروسي ، فقد لاحظ مؤسسو الحميدية ظهور تهديد بريطاني متزايد لهذه المنطقة من الإمبراطورية العثمانية. لذلك ، عند اختيار القبائل ، أعطيت الأولوية للمناطق التي كان النفوذ الروسي والإيراني فيها شديدًا ، وفي الوقت نفسه القبائل الواقعة في شمال المنطقة الواقعة بين ماردين وأورفة ، حيث أراد البريطانيون كسب النفوذ. منع الاستفزاز ضد العثمانيين هو أيضا من بين العوامل المهمة. ص 40)، وما يلي ذلك (وفي الواقع ، نرى أنه في الصراع بين بعض القبائل الكردية التي لم تتفق على قيادة الفوج في شباط 1892 ، قُتل 17 رجلاً وامرأة ، وأصيب 28 شخصًا ، وكان هناك صراع مماثل أودى بحياة 6 أشخاص. من قبيلة حيدران في شمال بحيرة وان . على سبيل المثال ، الضابط الروسي أفيريانوف في عمله المؤلف من ملاحظات أدلى بها أثناء تواجده في المقدمة ، ذكر أن القبائل الكردية أبدت اهتمامًا كبيرًا بالفوج وتنافس بعضها مع بعض تقريبًا. ومن المعروف أن عبد الحميد رحب بهذه السياسات بحماسة وأن الكرد تنافسوا مع بعضهم بعضاً للحصول على سلاح من خلال الحصول على امتياز خاص بين الناس. ص 45).
كيف يمكن النظر في هذه اللوحة التاريخية المتحركة؟ الكرد تجري تسميتهم إنما بلغة الآخرين، وبأيادي الآخرين، وفي صحائف وأرشيفا الآخرين، إنما المهم أكثر، هو توصيفهم من خلال مشاهداتهم على الأرض، وطبيعة عملهم، وتعاملهم مع بعضه بعضاً وكيف يحاربون ” الأعداء ” وهم ليسوا أعداءهم، إنما أعداء أعدائهم في الصميم، وبالطريقة هذه يفقدون ذلك التجنيس التاريخي الذي يمنحهم حضوراً مكانياً، وأذناً صاغية لسماع صوتهم المختلف ؟
إن التعرض لقبيلة ميران بعد الذي تقدَّم، يخدّم فكرة البحث وهي وجوب معرفة الكرد في رؤوسهم، وكيف تفكّر، ونفوسهم وكيف تشعر وتحس بوجودها. وحيث إن البحث متشكّل من خلالها تحديداً. ( يرجع أصل الاسم ، الذي كتبه شريفان بدليسي في القرن السادس عشر ، إلى منطقة فينيك Fınık ، الفرع الثالث لإمارة الجزيرة. ..ص 52)، و( قبيلة ميران، وهي القبيلة الرائدة في كونفدرالية كوهسور Çohsor.ص53)، إنما تكونها مجموعة قبائل داخل حلف مشترك.وثمة ما يستوقف الباحث، لحظة الحديث عن الانضمامات العشائرية إليها، من خلال توازانات القوى على الأرض (، انضم العديد من زعماء القبائل إلى قبيلة ميران مع قبيلتهم. على سبيل المثال ، من المعروف أن القبائل التابعة لاتحاد هفيركي كانت القبائل التي انضمت لاحقًا إلى قبيلة ميران.ص 53 ). وهي معلومة غير موثَّقة، أو ليس من مصدر تاريخي يؤكد عملية الانضمام هذه. وعلى الصعيد المكاني، جرّاء التباعد المكاني بين الطرفين، ومن جهة ثانية، لاختلاف العلاقات ونوعيتها، بين ميران ، واتحاد هفيركي.
يشار إلى مدى قوة قوة ميران في التاريخ، وأن إبراهيم آغا الذي كان زعيم القبيلة في أوائل القرن التاسع عشر، لم يعترف بإمارة بدرخان بك حي رئاسة الأخير الإمارة سنة 1821، ولم يفلح في النيل منه، أو في أن يكون أميراً مثله، ورحل دون تحقيق مراده . وكما قيل في العشيرة، فإن صفتها تميّزها عن غيرها، وهي أنها كانت من البدو في الماضي ” رحالة: كوجَر “” وكلها كردية ” ص 54 ” .
لاحقاً يجري الوصل بين الزراعي والارتحال الموسمي من جهة إلى أخرى، ومتطلبات ذلك من القوة واليقظة وتحمل الصعاب( في الجزيرة ، حيث عاشت قبيلة ميران بكثافة ، كانت أهم الموارد الاقتصادية التي استمرت منذ العصور الوسطى هي الدخل الزراعي والماشية والفنون المحلية والأنشطة التجارية والضرائب والرسوم. وشكلت المداخيل المحصلة من الأنشطة التجارية من النهر وأنشطة الأرض والنقل والبريد أساس الثروة الاقتصادية. ..ونظرًا لأن الأعمال الأكثر أهمية والخاصة لقبائل الفروسية كانت محسوسة ، كان هذا المنتج متوفرًا بكثرة في الجزيرة. ربما كانت قبيلة ميران تسيطر على عدد قليل من القبائل العاملة في الزراعة. لذلك ، أتيحت لهم الفرصة للوصول إلى منتجات هذه القبائل إما من خلال التجارة أو عن طريق وسائل عينية يتم دفعها إلى المالك الرئيس.ص 55 ).
وهذا التحرك من مكان إلى آخر، انعكس على علاقاتها بالآخرين، وبالأرض، وبالثراء والقوة وكيفية تفعيلها باسمها(خلال الهجرات السنوية ، كانت هناك صراعات متكررة بين القبائل البدوية والقبائل الأخرى أو الفلاحين الذين مروا عبر أراضيهم. لهذا السبب ، كانت مثل هذه الخلافات دائمًا موضوع شكاوى. القبائل مثل ميران ، من ناحية أخرى ، يمكن أن تستفيد من بعض المزايا أثناء الهجرة. مع انضمام قبيلة ميران إلى أفواج الحميدية ، ازدادت مكانة مصطفى باشا بين رجال القبائل. تحول هذا إلى مزايا لكل من الباشا وقبيلته في شكل كسب وحماية ودعم ضد المعارضين. ص 56 ) . لتبدأ دورة توجيه البرقيات من الجهات التي شوهدت فيها ميران، وهي تتضمن معلومات عن تحركاتها واعتدائها على الآخرين، والشكاوى المرفوعة ضد أفرادها وزعيمهم من القنصل البريطاني والموظفين العثمانيين ” ص 57 “، ويدخل في ذلك حتى عنصر التحدي المزعوم للدولة(قبيلة ميران ، التي كانت القبيلة الرائدة في اتحاد كوهسور في عهد عبد الحميد ، هي أيضًا القبيلة التي لعبت الدور الأكبر في أفواج الحميدية في المنطقة. التاسع عشر. مصطفى باشا الذي كان على رأس قبيلة ميران في الربع الأخير من القرن ، حصل على رتبة باشا ومنح رتبة حاكم منطقة من الفوج 48 الحميدية (مقدم) وابتزازهم ونهبهم واغتصابهم. وقضايا المجازر تسببت في مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة ، خاصة في المنطقة ، كما فهمنا من وثائق الأرشيف التي فحصناها. لا شك أن أحد أهم العوامل التي عززت قبيلة ميران هو الاقتصاد. تحت قيادة مصطفى باشا ، تجمع قبيلة ميران الضرائب نيابة عن الدولة في العديد من المناطق ، وخاصة في الجزيرة ؛ لكنها لم تسلم هذه الضرائب للدولة. في الوثيقة المرسلة من مكتب سراسكر في 28 أيار 1901 ، والتي تفيد بأن مصطفى باشا اختلس الضرائب التي حصل عليها ، ورد أنه لم يسدد أي مدفوعات لصندوق البضائع عن طريق تحويل الضرائب المحصلة إلى حسابه الخاص.ص 58).
واللافت، وكما هو معروف في مصادرتاريخية كثيرة ذات صلة أنه (لا توجد معلومات كافية عن تاريخ ميلاد مصطفى باشا وطفولته وحياته. جميع الوثائق الأرشيفية وأعمال البحث المختلفة حول مصطفى باشا لا تقدم معلومات عن حياته ، ولكنها تتعلق بالكامل بأحداثه في المنطقة.ص 60).
إشارات ومعان ٍ
تلك إشارات تفيد في حديد طبيعة العلاقة بين سياسة الباب العالي والشخصيات التي تقع على مسافات متفاوتة جهة الأهمية، أو الاهتمام بالمقابل طبعاً، وبالتالي فإن ظهور عشيرة ميران في منظور سياسة الباب العالي على صعيد القيام بدور موجَّه من الباب العالي وعبْر السلطان العثماني عبدالحميد الثاني جاء في فترة متأزمة بالنسبة لوضع الإمبراطورية إجمالاً، ولهذا فإن طبيعة العلاقة بين الطرفين أحادية إجمالاً، من خلال التكليف لها ولغيرها كردياً بالدخول في صراع لصالح السلطة، وليس باسم العشيرة، في الوقت الذي تكون العشيرة ومن معها في الواجهة، أي ضمن حسابات السلطة العثمانية، وفي تاريخ قصير، لكنه درامي إلى أبعد الحدود، سمح بتثبت صورة ميران وسواها وتحالفاتها العشائرية وخوضها لنزاعات جانبية وغض الطرف عن تجاوزاتها في الغزو والنهب والسلب، في واجهة التاريخ وبتكثيف، وهذا يتطلب المزيد من التحري عن أصول العشيرة وصلاتها بالقبائل الأخرى، وكيف سطع نجمها في نطاق الفرسان الحميدية ودوافعها، مقارنة باتحاد عشائري في الطرف الآخر: الغربي منها: الملّي، مع زعيمها المير ميران إبراهيم باشا، التي تحتفظ بتاريخ طويل لها في علاقاتها مع الباب العالي، وباعتبار مختلف على صعيد تمثيل السلطة الرمزية الداخلية .
تلك حسابات أخرى، لا ينبغي تجاهلها بالنسبة إلى الباحث في التاريخ، وما في ذلك من إمكان لتناول العشيرة الكردية على وجه العموم، وتلك التمايزات بينها وبين غيرها من منظور اجتماعي، أنثروبولوجي، أثنوغرافي، جغرافي، سياسي ، اقتصادي، وثقافي..إلخ، وما تكون عليه في قوتها المكانية بالنسبة إلى ذاتها، وبالنسبة إلى سواها وتوضعها المكاني.
إن أهم ما ينبغي النظر فيه، هو مدى تأثير العلاقة بين طبيعة الإقامة في الأرض والنشاط الذي تتميز به العشيرة، ومفهوم القوة بالنسبة إليها، جهة الذهنية الفاعلة بالنسبة للزعيم، وما يعنيه مفهوم الصراع العشائري وتأكيد الذات العشائرية .
إن ما يأتي بديع جويده على ذكره مؤثر هنا وهو قوله عن أن ( إحدى أهم الحقائق بداهة، إن الثروة هي العنصر الأهم فيامتلاك الثروة خصوصاً في مجتمع بدائي- شبه متخلف- كالمجتمع الكردي، حيث تلعب القوة دورها في نسيج المجتمع وتحدد له نشاطاته ، والثروة هي أهم مفاتيح القوة،وتبطل أهمية الضمير عند الفرد.) ” 21 “
يمكن لمقولة كهذه أن تثير ردود أفعال جانبية، ومن الباحث في التاريخ نفسه، بزعم أن عشيرة ميران كانت غنية، وهذا يبطل مفعول الثروة وصلتها بالقوة، وما عرِفت به عشيرة ميران وزعيمها مصطفى باشا على صعيد القوة المنفذة في الإغارات على الآخرين والقيام بعمليات سلب ونهب وقتل وغيرها. سوى أن علينا ألا نحصر القوة ودلالتها في هذا النطاق، وإنما بأخذ التاريخ والذاكرة الجماعية المحلية للعشيرة بعين الاعتبار: حسابات العشيرة الكردية الواحدة مع غيرها من منظور الزعامة وكيفية إبرازها ، واستغلال الفرصة المتاحة في ذلك، كما في حال الفرسان الحميدية، أي ما ينقل بالقوة إلى حساب الآخر، وثمة نسبة في مردوها المادي والمعنوي لصالح العشيرة وزعيمها، وما يخص فتنة الانخراط في لعبة كهذه، وما في ذلك من تصفية حسابات قديمة، والإعلاء من شأن الذات( ألا يمكن النظر في أن أحد مسوّغات الانخراط في الكتائب الحميدية تأكيد الاعتبار للعشيرة، والانتقام من الآخرين، من ماض قريب، حيث التذكير بزعيم العشيرة السابق إبراهيم آغا، وصلة بإمارة بوتان وأميرها بدرخان بك، المذكور سابقاً ؟) ليس من ماض يمضي أو يموت في الذاكرة، جهة الحسابات الجانبية، وغواية الزعامة نفسها، وفي حاضنة سلطة منحتها امتيازات تاريخية !
بالطريقة هذه، تتحصل لدينا جملة من التكتيكات المحصورة في عشائر كردية محددة، في استراتيجيات السلطة العثمانية، إذ كما يُذكر وهو أنه ( لم تقدم سوى ” 13 ” عشيرة من أصل ” 51 ” عشيرة كردية كبيرة للقوات الحميدية، ولم تقدم عشيرة واحدة تقريباً ما يكفي لقوام الفوج من ملاك، ولا سيما أن القيادة العسكرية لم تتمكن من تشكيل قطاعات كبيرة من الكورد ( ألوية وفرق ) بوسعها القيام بمهمات مستقلة..) ” 22 “
سوى أن المهم بالمقابل، هو أن بلبلة في نطاق الجغرافية الكردية قد حصلت، وما في ذلك من انعكاس على الذهنية الكردية، في ضوء التحديات المتصاعدة، جرّاء الغزو الأوربي للمنطقة، وظهور قوى محلية مناوئة للباب العالي، قوى تمثل شعوباً وجماعات واجهت العثمانيين للتحرر من سلطتها: من يونان في الجوار، وأرمن في الداخل .
ولحظة التدقيق في الدائر، يُستعاد التاريخ الكردي، وطبيعة إدارة الزعامة العشائرية، وتلك الصراعات التي شهدت مواجهات وتكتلات وكراهيات جانبية على أرضية الحسابات الشخصية، وبناها العشائرية ذات الصلة باقتطاعات أرضية وإماراتية محدودة، وليس من خلال وعي قومي يلغي هذه الحدود، ويرفع بالذهنية الموصولة بالأرض إلى مستوى المدينة وطابعها المؤسساتي، والدولة، وتجاوز تلك الذهنية، حيث الفضاء السياسي للدولة يتطلب ذلك “32 “
هذا التاريخ الطويل والمتقطع في بناه، من منظور قبلي لا يخفي تأثيره في تلوين الشخصية الكردية مبنى ومعنى، لا ينحصر في سلبيته” أي التاريخ “، حيث عجز عن الظهور ندياً إلى جانب تواريخ الآخرين في الجوار، في عشيرة ميران، وإن كان لها حسابها المحفوظ، على صعيد الرصيد الاجتماعي والسياسي والثقافي بالمقابل،إنما لا تؤخذ عصا المقاربة النقدية من منتصفها نوعاً من التوازن الوهمي إرضاء لهذا الطرف أو ذاك، بمقدار ما يتطلب الجاري توسيع دائرة النظر.
أي ما كانته عشيرة ميران سابقاً، وكيف وجدت فرصتها في الكتائب الحميدية، لتأكيد وجودها أكثر، واستمراراً لتلك القوة التي عرِفت به في المنطقة، وقد مدت نفوذها من خلالها، وقد أعطي لها ” الضوء الأخضر ” من الباب العالي، ليس بغية القضاء على خصوم السلطان وحده فحسب، وإنما لإحداث توتر وبلبلة، ولتصبح العشيرة نفسها خارج حساباتها المعتبَرة كردياً، من جهة، وحيث يكون أفق الآتي محبطاً للآمال، وفاعلاً سلبياً لحظة السعي لإحداث تغييرمغاير، من جهة أخرى ، فلا تكون وحدها في عملية المساءلة التاريخية، وإنما ما آل إليها وضعها، بالأسباب المختلفة، وعندما نفكّر في الكردية، الآن، في هذا التوقيت ” الكردي ” تحديداً، تمثل العشيرة بكل ثقلها الاجتماعي والسياسي والفكري أمام النظر.
نعم،تقيم القبيلة في توضعها الجغرافي نوعاً من الوثنية مع الأرض. هناك ما ينبت فيها، وهناك ما يثمر عليها، وهناك ما يمكن التعويل عليه جهة التربية ” الحيوانية ” ، وهذه المشتركات ” الثلاثة، تكون الثالوث الذي يتم رصده من الآخرين: ممن في الجوار، أو من جهة الطامعين، ولا شك أن الحدود بين القبائل ليست محروسة أو مصانة حال الحدود بين الدول، إنما عبر نقاط يعرفها المنتمون إلى هذه القبيلة أو تلك، ومن السهولة بمكان استباحتها. والذي يجدر ذكره، هو جانب الغزو بين القبائل، أو الإغارة بأشكال مختلفة، بوصفها تعبيراً عن قوة. الطبيعة حال قوتها، تمنح الأقوى علامة السيطرة .
نعم، بعكس الشعوب والأمم الأخرى في المنطقة، التي تلوذ بدينها، بإله دينها، عند الضيق أو الأزمات الحادة، كما في حال العرب وغيرهم، إسلامياً، لحظة الشعور بأن القومية لم تحقق لهم الوحدة المدرة عليهم بالمنافع. كردياً، يكون التصرف المعكوس تماماً، إن دينهم الذي يلوذون وثمة إله قبلي غير مسمى وإنما مشعور به، هو القبيلة نفسها، أما القومية بمفهومها الاجتماعي فإلى إشعار آخر، حيث لم تحقق لهم الحد الأدنى من المطلوب والذي يشكل خطوة نحو الأبعد منها .
ربما، هكذا يعلمنا تاريخ الأمس وتاريخ اليوم. لا ذكر فعلياً للقومية إلا باعتبارها شعاراً حشدياً، تعبوياً .
والقبيلة في وضعيات مختلفة هي نظير حال المرء وتوزعه بين لاشعوره المكبوت وشعوره الممزَّق بالواقع أحياناً كثيرة، وهو ينتظر الفرصة المؤاتية لإخراج المكبوت خارجاً .
إن كل مستجد يتطلب ذهنية معينة، للنظر في مكوناته التاريخية، وما جرى جهة الانخراط في الكتائب الحميدية، وما يخص قائمة الشكاوى المرفوعة ضد تجاوزات زعيم عشيرة ميران، وعبر برقيات مسجلة( ص 70-73-76..)، وبالتالي، فإن ما يقوله أوجماز، وهو أن (بعض القبائل التي انضمت إلى كتائب الحميدية أساءت إلى واجباتها واعتبرت نفسها لها الحق في سلب واضطهاد أفراد عشيرتها ومصادرة أراضيهم وحيواناتهم وإحراق القرى دون أي عقاب. علاوة على ذلك ، تخشى السلطات المدنية التعامل معهم الآن. تحولت أفواج الحميدية إلى قوة استهدفت العثمانيين في المقام الأول. وأدرك زعماء القبائل الكردية وكبار ملاك الأراضي ضعف الحكومة واستغلوا هذا الضعف لمصلحتهم الخاصة.ص80) يدخل في حسابات السلطة بالذات، وتسجّل النتيجة حالة ( 1- 0 ) على الأقل لصالح السلطة، وفي الوقت الذي نجد كيف تطورت هذه الكتائب لحساب الاتحاديين، ومنه لحساب أتاتورك وهو يجمهر مشاعر الكرد دينياً ، وقد حقق أهدافه المنشودة على حساب الكرد وتطلعاتهم، ليكون كل شيء بحسابه، وهو حساب جار بهمومه وجراحاته وأخطائه التي تفتقر إلى وجود تلك الإضاءات التي تسمّيها ومن منظور النقد والنقد الذاتي معبَراً إلى المجتمع المدني !
” يتبع ”