إبراهيم محمود
الأطروحة وسياقاتها الأكاديمية
أحمد أوجماز الذي قدَّم اطروحة جامعية معتمداً فيها المنهج السوسيولوجي لدراسة المجتمع القبلي، وعشيرة ميران نموذجاً، وشخص زعيمها، وذلك تجاوباً مع كون الموضوع لم يُدرَس كما يجب، ليحاط به من مختلف الجوانب، ربما أمكن القول، أن هناك مؤثرات ذات طبيعة تاريخية وخلفية ثقافية ومحفزات فكرية لها مردودها النفسي والاجتماعي، دون نسيان الأكاديمي بالتأكيد، وهي عوامل متشابكة توحدتْ وشكلت موضوع بحث جامعي، فالقبائلية، بمفهومها الاجتماعي، تكاد تكون الحبل المشيمي لكَمّ هائل من الدراسات التي تعرضت لتاريخ المنطقة، بمفهومه المجتمعي، ومنه مغذياته الذهنية، وليس المجتمع الكردي بمنفصل عن هذه الجمهرة البحثية من الدراسات،
ولهذا يستهل تقديم أطروحته هكذا(ظهرت القبائل كإطار تنظيمي منذ أقدم العصور المعروفة في التاريخ الكردي…والطريقة الوحيدة للفهم والتعرف على التاريخ والهيكلة في مجالات الأسرة والاجتماعية والسياسية والقانونية والعسكرية وما إلى ذلك هي فهم نمط الحياة القبلي الذي يخلق ديناميكيات الكرد… وإذا نظرنا إلى مصدر قوة هذه القبائل اليوم ، فنحن بالتأكيد بحاجة إلى النظر إلى الإطار الديناميكي للمنطقة بعدة طرق. على سبيل المثال ، تسببت الطبيعة الجبلية الوعرة للمنطقة في صعوبة وصول قوات الدولة إلى بعض نقاط المنطقة. تسبب هذا الوضع في أن تتصرف القبائل في الغالب بمفردها ، وبالتالي أصبحت قوة مهمة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك ، تعاونت الدولة العثمانية مع القبائل من خلال إنشاء أفواج الحميدية من أجل تعزيز هيمنتها على الأراضي التي تملكها في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية. أعطى هذا التعاون القبائل قوة أكبر من أي وقت مضى. أصبحت هذه السياسة التي نفذتها الدولة العثمانية نموذجًا لحكومات الجمهورية التركية التي هيمنت على المنطقة بعد انهيار الدولة. نظرًا لأهمية القبائل في العالم العلمي ، لم يغب موضوع القبائل عن اهتمام الباحثين الأجانب وكذلك الباحثين المحليين وكان موضوعًا للعديد من الدراسات. بالإضافة إلى ذلك ، في البحث الذي قمنا به ، لوحظ أنه لا يوجد الكثير من المعلومات حول قبيلة ميران ومصطفى باشا بخلاف ذكر الأسماء في المصادر. ص 1).
وهو يشير، وتكملة لفكرة التقديم، ومسار البحث، إلى أن دراسته أجريت ( بالاستفادة من الكتب والمقالات المتعلقة بالموضوع ، وخاصة الأرشيف العثماني لرئاسة الوزراء. وفي هذا السياق ، على الرغم من أهمية أن تكون هذه الدراسة التي أعددناها هي الأولى ، فإننا نعتقد أنه سيتم القضاء على نقص مهم في هذا المجال من خلال تقديم مساهمات مهمة لعالم العلوم.).
طبعاً لا يغيبنَّ عن نظر الباحث، أي باحث، وسمعه وبصره، ما تكون عليه مصادره البحثية في طبيعة بنيتها، وموقعها، أي ما يجب التنبه إليه جهة المحتوى، وماالذي يجري تضمينه إياه، ومن يشكّل مادة الأرشيف في الحالة هذه، وتحديداً، حين تكون العلاقة بين المادة الأرشيفية وكاتبها ومن يكون المشرف والموجّه علاقة تضادية، كما في حال الدولة العثمانية، ولاحقاً التركية كامتداد شديد المركزة لها، والكرد غير المرحَّب بهم في أفضل الحالات في الفضاء السياسي. وفي ضوء ذلك يتم النظر إلى الكرد دون اسمهم، كما يقول تاريخهم، بمقدار ما تكون القبيلة كمفهوم، تعبيراً عن الصاق تهمة التخلف والبدائية بالكرد.
وما في ذلك من نسيان الناظر والمقيّم للموضوع لحقيقة تاريخية مجدداً، حيث إن العثمانيين أنفسهم كانوا عبارة عن تجمع قبائلي غاز ٍ تاريخياً .
ماالذي نشّط في أوجماز مخياله الاجتماعي والفكري البحثي الجامعي ؟
هناك ملخَّص للأطروحة:
(التعرف على القبائل التي تعتبر قوة مهمة في المنطقة ، وفهم هيكلة القبائل ؛ للكشف عن دور قبيلة ميران في شخص مصطفى باشا في حقيقة أنه على الرغم من إنشاء أفواج الحميدية لتوفير الأمن وسلطة الدولة في المنطقة ، إلا أن الأفواج خرجت عن السيطرة في بعض الأحيان وتحولت إلى صراع بين القبائل على السلطة. والتعرف على قبيلة ميران وكشف دورها التاريخي وانعكاساته على المنطقة. والتعرف على مصطفى باشا وكشف دوره وتأثيره في المنطقة ؛ الكشف عن دور قبيلة ميران ومصطفى باشا في أفواج الحميدية ؛ يهدف إلى سد فجوة الأدب الموجودة حول هذا الموضوع..بالإضافة إلى ذلك ، تم التطرق إلى مفهوم اللصوصية وأنشطتها ، كما تمت مناقشة العلاقات بين القبيلة واللصوصية. وأخيراً ، تم التطرق إلى إنشاء الأفواج الحميدية وأهدافها وآثارها في المنطقة ودراسة تأثير الكتائب على القبيلة وقطاع الطرق. في الجزء الثاني ، يتم التعامل مع قبيلة ميران ورئيس قبيلة ميران مصطفى باشا. وتم شرح إطار قبيلة ميران ومجال نفوذها وكيف أصبحت قوة إقليمية في شخص مصطفى باشا….وفي دراستنا ، تم إجراء مراجعة تفصيلية للأدبيات وتم تحليل العديد من الوثائق المتعلقة بقبيلة ميران وزعيم القبيلة مصطفى باشا من الأرشيف العثماني لرئاسة الوزراء. ونتيجة للمصادر التي تم فحصها ، تبين أن أفواج الحميدية حققت أهدافها إلى حد كبير وتأكدت من بقاء المنطقة في أيدي الدولة العثمانية ، وأن زعيم قبيلة ميران مصطفى باشا عزز هيمنته بإساءة استخدام القوة التي تمنحها الدولة. ).
لدينا إذاً مسوّغ البحث وأرضيته، والمستهدَف منه، ومكاشفة للمتحصّل من المعلومات، لتكون النتيجة، كما هي جلية: سلبية المزكّى في أداء المهمة الحميدية الطابع. وما هو ممكن تثبيته، في الغرض من دراسة كهذه، وهي المنتظَرة تسميتها: عدم الثقة بالقبيلة، مهما كان انضباطها،ومن يمثّلها، ففي أفضل الأحوال، تسيء إلى نفسها وإلى محيطها، كما هو حال دولة لها مؤسساتها بينها وبين تلك بون هائل، وهو ما يجب العمل بموجبه: تفكيك القبيلة، وصهرها في جسد الدولة السياسي والثقافي !
ولعل النظر في محتويات الأطروحة، وفي عناوين لافتة بهواجسها البحثية، يعطينا فكرة عن سعي الباحث إلى الإحاطة بموضوعه، ليحقق نصَاب المعنى:
مقدمة
الفصل الأول ، القبيلة، واللصوصية والكائب الحميدية
تعريف القبيلة
الإطار القبلي
القيادة في القبائل
نظام العقوبة في القبائل
بعض الامتيازات الممنوحة لزعيم القبيلة
تعريف اللصوصية
اللصوصية الاجتماعية
الانعكاسات السياسية والاقتصادية للصوصية
آثار الموقع الجغرافي على اللصوص
القبائل ومثلث اللصوص
بعض العقوبات الممنوحة للصوص
اللصوصية في حروب القبائل
مناطق الحميدية
أهداف كتائب الحميدية
تأسيس أفواج الحميدية ولوائحها
القبائل المشاركة في أفواج الحميدية
السلطان الثاني. أفواج الحميدية بعد عبد الحميد
الجزء الثاني: رأس قبيلة ميران والقبيلة مصطفى باشا
مدينة ميران
المكاسب الاقتصادية للقبيلة
تقوية قبيلة ميران
ميران مصطفى باشا
تشكيل رئيس العشائر وأنشطتها قبل أفواج الحميدية
كتائب مصطفى باشا الحميدية وضباطه
علاقات مصطفى باشا بالقبائل الأخرى
ابتزاز مصطفى باشا واعتداءاته على السكان المسلمين
اعتداءات وابتزازات مصطفى باشا ضد السكان غير المسلمين
شكاوي على مصطفى باشا
الإجراءات التي اتخذتها الدولة ضد اعتداءات مصطفى باشا
حادثة مصطفى باشا وسعيد النورسي
وفاته
قبيلة ميران بعد مصطفى باشا
استنتاج
المرفقات المراجع
ليبلغ عدد صفحات الأطروحة 112 صفحة.
في خريطة التوصيف
هذا الترتيب المدرسي، كما هو منظور إليه، يُراد من خلاله، الوقوف على كل نقطة بحثية على حدة. ويُلاحَظ أيضاً أن هناك تركيزاً على مفهوم اللصوصية، إلى جانب صلة الوصل بين قبيلة أو عشيرة ميران والسلب والنهب للآخرين والشكاوى المرفوعة ضد زعيمها، وما في ذلك من مثالب، يقصَد بها كيفية احتواء ما هو قبلي والإغلاق عليه تاريخياً بعد دراسته من جوانب شتى، باعتبارها غير مؤهلة لأن تستمر أكثر من الحد الذي بلغته وهي بحمولتها السلبية اجتماعياً !
ويسمح لنا ذلك بتوسيع دائرة العلاقة بين المعتبَر بداية، والمعتبَر نهاية للكتاب، حيث يسهل التعرف على مكوّناته، ثم إيجازه لإبراز المفاصل الفعلية له: القبيلة، وما تكونه اعتباراً، واللصوصية وصلة قرباها بالقبيلة، وموقع الاثنتين في الدولة: العثمانية هنا، والمشاكل المتفاقمة في ضوء ” الأدنى اجتماعية ” مقارنة بــ” الأعلى مجتمعية “: الدولة والرهان على هذه .
إن ما يتقدم به الباحث أوجماز لا يخفي هذا البعد المشدَّد عليه، وهو يقدّم الكرد قبائلياً:
(في مناطق شرق وجنوب شرق الأناضول وفي المناطق التي يعيش فيها الكرد بشكل مكثف ، مثل سوريا وإيران والعراق ، أثَّرت القبائل والمجموعات والمجتمعات الدينية المختلفة بعمق على المجتمع الكردي منذ العصور القديمة للتاريخ الكردي. وتم تنفيذ هذا التأثير حتى يومنا هذا من خلال مختلف التقاليد والعادات… وتنقسم تنظيمات القبائل الكردية إلى مجموعتين ، إما مستوطنة أو شبه بدوية ، حسب التركيبة الجغرافية التي توجد فيها. في حين أن القبائل المستقرة تعمل في الغالب في الزراعة والتجارة ، فإن القبائل البدوية أكثر صرامة من القبائل المستقرة وتتعامل بشكل أكبر مع تربية الحيوانات والتجارة. واعتمادًا على نمط حياة القبائل ، تأتي القبائل التي تمارس أنشطة اللصوصية عمومًا من قبائل البدو الرحل. في هذا الصدد ، تعتبر أنشطة قطع الطرق لدى القبائل الكردية شائعة جدًا. وقد حدثت مثل هذه الأنشطة إما بين القبائل المعادية أو كانت موجهة ضد أي منطقة أو بلدة أو قرية. كانت أنشطة اللصوصية أحد الأسباب الرئيسية للعداء بين القبائل ، فضلاً عن التسبب في حياة وممتلكات العديد من الأشخاص في المنطقة. نظرًا لأن الأفواج الحميدية تتكون في الغالب من القبائل الكردية ، فمن الأهمية بمكان ذكر هيكل الأفواج…. كان الهدف هنا هو ترسيخ سلطة الدولة في المنطقة من خلال الاستفادة من القوة العسكرية للقبائل. ومع ذلك ، بمرور الوقت ، خرجت السلطات الممنوحة لرؤساء القبائل عن السيطرة وبدأت السلطات القبلية ، التي اتخذت شكل اللصوصية بدلاً من سلطة الدولة ، في الظهور..وفي هذه الدراسة ، سيكون موضوعنا الرئيس هو قبيلة ميران وزعيم القبيلة مصطفى باشا. قبيلة ميران قبيلة مؤثرة في منطقة جنوب شرق الأناضول وشمال العراق ، حيث تعيش العديد من القبائل الكردية ، وهي ثالث أكبر قبيلة بنفوذها السياسي ، خاصة في شمال العراق ، بعد قبيلتي البرزاني والطالباني. وكان أشهر زعيم لهذه القبيلة ..مصطفى باشا ، الذي كان قائد فوج الفرسان الحميدية الثامن والأربعين ، وقتل في نزاع عام 1902. مصطفى باشا ، الذي أظهر أنشطة التنمر واللصوصية في وقت قصير … كان متورطاً في العديد من الحوادث المتناحرة. هناك العديد من الوثائق المتعلقة بأعمال اللصوصية التي قام بها في الجزيرة والمناطق المحيطة بها ، خاصة بسبب كثافة ونفوذ عشيرته. ونرى أن مصطفى باشا لم يمثل أمام المحكمة نتيجة جرائمه. في معظم وثائق الأرشيف التي فحصناها ، تم تقديم شكوى لمصطفى باشا عدة مرات ؛ ومع ذلك ، من المفهوم أنه لم تتم مقاضاته على الرغم من حقيقة أنه تم التحقيق معه عدة مرات. وأهم سبب لهذا هو الرابع. حقيقة أن قائد الجيش زكي باشا أساء واجبه وقام بحماية مصطفى باشا. خاصة أن مصطفى باشا وبعض المسئولين الذين ولدوا وعززوا عقليته ولم يحكموا عليه على الجرائم التي ارتكبها كانوا مسئولين عن جميع الجرائم في المنطقة. ص2 ).
إن كل ما تقدّم به يشكل توضيحاً مسبقاً وتسمية لما يمكنه القيام به، أي جهة الدخول في التفاصيل. وبالطريقة هذه، يجري خفْض سقف المساءلة، وحصره في قائد الألوية الحميدية، وليس ما يتعداه، وهذا يسبب إرباكاً للنص نفسه، وإعماء للعين الناظرة، لأن ليس هناك ما يكون غفلاً عن المكاشفة أو التسمية، وفي دولة لا يستهان بجهازها الأمني السري. وللسلطان عبدالحميد دون بقية السلاطين العثمانيين حظوته في افتتان الذاكرة الجماعية لنسبة كبيرة من المسلمين، ليس بصفته آخر السلاطين العثمانيين، وإنما جرّاء الإدارة التي فعّلها على مستوى إمبراطوري، والأجهزة التي وظَّفها بغية الاستقطاب.
وربما ما يمضي إليه حسن العلوي له مغزاه ومصداقية تاريخ، وهو أنه (بعد مائة عام على اعتلائه عرش السلطة العثمانية مازال عبدالحميد متداولاً في الشارع العربي. وشهرته لم تلتصق به عبثاً، فقد صع نظاماً سياسياً مثل الاستبداد في أزهى عصوره. وقد: أقام عبدالحميد أسس حكمه على العسس والاضطهاد فنشأ بذلك نظام أصبح فيه الجواسيس يؤلفو طبقة حاكة قوية من الأوباش الفاسدين لم يسأل أحد من أذاهم مهما كان كبير المنزلة…ويقدر علي الوردي جواسيس عبدالحميد في العاصمة بعشرين ألف وهي نسبة نسبة مرتفعة لو قيست إلى عدد سكان العاصمة آنذاك.) ” 7 ”
طبعاً، لا بد أن يكون وراء استمراره في الحكم ثلث القرن، ذلك الحضور النوعي للقوة الضاربة، خصوصاً وأن مقولة ” الرجل المريض ” حُمّلت بها الدولة العثمانية في عهده، ومن جهة ثانية، أن تشكيل الإيالات الحميدية التي حمَلت اسمه، عبَّر عن هذه الفترة القلقة والتي شهدت بداية النهاية لإمبراطورية القرون الأربعة، وهي تمثّل زمناً طويلاً، وفي هذا السياق يأتي التذكير بالكرد، ليس بوصفهم الأجدر في تمثيل القوة المجازة سياسياً، وإنما حيث تمت دراستهم، ونظِر في أمرهم باعتبارهم الأكثر أهلية لأن يمارسوا الدور المنوط بهم، فتكون قوتهم المشرعنة لحساب راعي الرجل المريض وليس سواه، من ناحية، وحيث إن السلطان العثماني يكون قد تخلّص من قوة لها حسابها، كردية العلامة، مقارنة بجملة القوى الأخرى والتي تخص شعوباً وأمماً وقوميات أخرى، تلك التي استبد بها الباب العالي، لتكون هراوة على رأس معارضها، وللكرد أنفسهم نصيب من هذه المعارضة، وبالتالي، ليكون لهم نصيب من ضربات الهراوة الموجهة من قبل كتائبه، من ناحية أخرى .
وحين يأتي موضوع القبيلة وتعريف القبيلة، وعبر صفحات تترى، فإن من المهم، هو الاكتفاء بما يفي الغرض، ولو في إشارة لافتة، نظراً لأن هناك كثرة في موضوعات تمحورت حولها، ومن ذلك عن أنها (نوع من التنظيم الاجتماعي القائم على القرابة ببنية تقليدية / أبوية لها بعض الخصائص الإقطاعية.ص 4 ) وهي (بنية تحمي تقاليد أعضائها وأسلوب حياتهم في مواجهة أي هجوم بسبب روابط الدم. ص 5 ).
وفي ضوء هذا المثار في التعريف، يأتي هذا التوضيح، وهو أن (هذا المفهوم متنوع للغاية في الكرد. لأن أساس الحياة الاجتماعية في الكرد يقوم على النظام القبلي. عندما تمتد الأسرة إلى ما وراء حدود روابط الدم وتنتشر في منطقة أوسع ، فإنها تتحول بطبيعة الحال إلى قبيلة. روابط الحب والعادات ، التي أضعفها توسع دائرة الأسرة ، تتحول هذه المرة إلى روابط التقاليد والعادات والدين والمصالح المشتركة داخل الإطار القبلي . في هذا الصدد ، يمكننا القول أن المثل العليا مهمة جدًا للكرد . ومع ذلك ، فإن هذا المثال لا يتعلق بفكرة الوطن ، بل بفكرة القبيلة. لذلك ، ليس لديهم ميل لأداء الخدمة العسكرية للدولة. إنهم لا يترددون في التضحية بأرواحهم وثرواتهم وأطفالهم من أجل هذا المثل الأعلى. لهذا السبب ، فإن بطولة الكرد في المعارك القبلية والتضحيات التي قدموها تستحق الثناء.ص6 ).
أليس من تقطيع لأوصال التاريخ في مثل هذه التوصيفات؟ أليس الذي قيل في القبيلة،كردياً، يحصر الكرد في نطاقها، كما لو أن قيامهم وقعودهم، أن جماع ثقافتهم، في وضعية ” مكانك راوح ” في عدم التفاعل مع المستجات؟ كيف يمكن ربط القبيلة بما هو تقليدي، وما يعنيه التقليد من الخروج على التاريخ الذي لا يؤمن بالمسلَّمات،ـ لينحصر فيها، وإنما بما يعنيه هو نفسه، وهو كونه تاريخاً، وليس من تاريخ إلا فيما يحرّكه ويتحرك به، وبذلك لا تتشرنق القبيلة، إنما تعيش تغيرات!
اختبار المفهوم الاجتماعي تاريخياً
انطلاقاً مما أثير حتى الآن بحثياً، كيف يمكن تفعيل مقولة المؤرخ والباحث في التاريخ هاكان أوزأغلو( بلغ الوعي الكوردي والقومية الكوردية الذروة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي. ويوجد حالياً شكل من الهوية الكوردية جنباً إلى جنب مع نظيراتها العربية والتركية والفارسية والأرمنية في الشرق الأوسط.. وقد: مرَّت الهوية الكوردية..، عبر مراحل غير منتظمة من التفاعل المونتولوجي والحواري والجدلي مع أطراف خارجية، غالباً ما كانت دولاً قوية محيطة بها.)” 8 “
هنا تبرز ملاحظة طريقة التفكير في الموضوع، وما يمكن أن يظهر به الموضوع خارج المفكَّر به، ليفصح عن مكنون الذات الكاتبة، وما في ذلك من عكس المعنى، حيث ينظَر إلى القبيلة بوصفها إمكاناً اجتماعياً بشرياً، إنما لا يتوقف عن التغير، ولو في ظهورات شكلية، أما في التاريخ، فالنصوص تظهر تحولات بنيوية تسمح بقراءة طبيعة التغيرات في أسبابها ومسبباتها، كما هو حال القبيلة في نطاق جغرافي معين، وديموغرافي محدد، حال الكرد .
وما يمكن قراءته في تاريخ تشكل الإمبراطورية العثمانية، يعزّز مثل هذه المقولة، حيث (كانت الإمبراطورية العثمانية، في حقيقة الأمر، كياناً استمر بعد انقضاء العصر الذي ينتمي إليه، وأثراً خلفته غزوات انطلقت من الشرق قبل ألف من السنين. فمنذ نحو السنة الألف للميلاد، تدفقت موجات من الفرسان الرحَّل من سهوب وصحارى وسط وشمال شرقي آسيا، فقهرت هذه الموجات شعوباً وفتحت أراضي، إذ هي تنهب الأرض غرباً. هؤلاء الغزاة الوثنيون عبدة الأرواح، الذين كانوا يتكلمون لغة أخرى أو أخرى من اللغات المغولية التركية، وقد اقتطعوا لأنفسهم إمارات وممالك، بينها إمبراطوريتا جنكيزخان وتيمورلنك.) ” 9 “
وهذا توصيف تاريخي لما كان عليه العثمانيون، في نشأتهم الأبوية ” البطرياركية الآسيوية، وبروزها السلالي، ثم تمنثيلها السلطوي الإمبرطوري على الأرض، دون نسيان هذه اللحظة التاريخية العميقة الأثر.
وحين نقرأ ما كتبه الباحث أوجماز ، بصدد بنية القبيلة الكردية، لا يغيبن عن الذهن ما هو مشترك بينها وأي قبيلة أخرى، وما يكون لكل منهما جانب التمايز، تجاوباً مع المؤثّر الجغرافي والتاريخي والثقافي كذلك(إذا نظرنا إلى الأطر القبلية للأكراد من الأسفل إلى الأعلى ، يمكننا أن نرى بسهولة أهمية الدور الذي تلعبه القرابة ، ويمكننا القول أن الأسر هي في أدنى مستوى من التنظيم. بعبارة أخرى ، تعني الملكية كلاً من “الأسرة” و “المجموعة النسبية التي تشترك في المنزل نفسه” و “العائلة”. في هذا السياق ، بالنسبة للقبائل ، فإن الشرط الأول للانتماء إلى قبيلة ، بعد أن تكون فردًا في الأسرة ، هو الانتماء إلى ممتلكات . ص 7 ).
وهذا التحديد يفيد في إضاءة الفكرة المتعلقة بالمسار الاجتماعي الكردي، حيث إنه من السهولة بمكان فهم آلية الانتقال، بطبيعتها العضوية، من نطاق الأب في الأسرة، إلى القائد في القبيلة، وأوسع منها، بالنسبة إلى الأبوية السلطوية على مستوى الدولة في المجتمعات الشرقية، حيث يكون المرجع للقانون، وليس العكس إجمالاً . الأشخاص الذين هم في أعلى آلية للقبائل هم الأشخاص الذين يطلق عليهم “آغا” أو “ريس”. يجب أن تكون هذه السلطة ، المعروفة بشخصية عظيمة ومهيبة ، على رأس التنظيم القبلي وأن تكون قادرة على التأثير على القبائل الأخرى عند الضرورة ؛ يجب أن تتمتع إدارة القبيلة أيضًا بسلطة تنفيذ واجبات مهمة مثل ضمان استمرارية النسب والحفاظ على تفوقها على القبائل الأخرى. ص13).
إن وجود الأب وباعتباره الأب الظور إليه على أنه السبب البيولوجي لوجود الأسرة ، وكرأسمال رمزي معتبَر، يعكس صورة العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة، وكيف أن هذه الصورة المصغّرة للأب، تكبر، وقد اتسع نطاق حكمها، جهة الأب السياسي على مستوى القبيلة والمجتمع، كما تقدَّم، فلا يعود من دور للأبناء إلا كملحقين، ولحمايته، بالمفهوم الواسع اجتماعياً، وحيث تتنوع الألقاب، وتمثيلاتها الاجماعية ( بغض النظرّ عن الطبقة العليا في المجتمع ، فإنه يعيد إلى الأذهان الشريحة الأكثر امتيازًا في المجتمع. يمثل هذا الجزء كتلة متجانسة. في الأكراد ، تشير هذه الطبقة العليا أحيانًا إلى اللوردات الإقطاعيين (أغا ، بيك ، ريس) الذين اكتسبوا القوة من التأثير والسلطة الممنوحة من ملكية الأراضي الكبيرة ، وأحيانًا المسؤولين الذين نشأوا في البيروقراطية المركزية ، وأحيانًا رجال الدين (الشيخ). السمة الأكثر وضوحا لفهم الطبقات العليا للحياة الاقتصادية في القبائل الكردية هي “الوعي العدواني”. ص 17 ).
من المتوقع، وكبداهة، وكما جاء في تقديم الأطروحة بداية، أن الذي يأتي شرحاً وإضاءة لكل متحوّل في الاسم: القبيلة، رئيس القبيلة، أو زعيمها، توسُّع القبيلة، ظهور التحالف القبلي، وموقع الأبوية فيها، على صعيد السلطة وحدودها، لا يُرى منحى البحث باتجاه المخطط له كردياً تحديداً، وللحديث عن عشيرة ميران وزعيمها مصطفى نايف باشا، إنما يتجه الذهن إلى الخارج، حيث تكون الأمثلة متوفرة للغاية، وليبقى الاختلاف قائماً على القوة وطبيعتها.
نقرأ جانباً لافتاً من هذه الأبوية المقدسة، على خلفية من الزعامة التي قيّض لها أن تنتشر سلطتها على مساحات واسعة، وكيف أن هذا الانتشار الإمبراطوري ضاعف من صورة الأب مؤلهاً، وليقول في نفسه ما يراه جديراً به(في نقش يعود إلى سنة 1538 م، بقلعة بندر سجَّل السلطان سليمان القانوني ما وصل إليه من قوة: ” أنا عبدالله وسلطان هذا العالم، ورأس ملة المسلمين بفضل الله علي. قدرة الله والسنة المعظمة لمحمد هي التي أرشدتني. أنا سليمان الذي يذكر اسمي في الخطبة بمكة والمدينة. في بغداد أنا الشاه، وفي بيزنطة أنا القيصر، في مصر أنا السلطان. أرسل سفني في مياه أوروبا والمغرب والهند. أنا السلطان الذي حاز تاج وعرش هنغاريا، وحوّل سكّانها إلى رعية مطيعة. تجرأ القائد بترو على التمرد ضدي ولكني دسته بحوافر حصاني وأخذت بلاده مولدافيا”..) ” 10 ” .
الكلام هنا يتكلَّم مفصحاً عن حدود قوته الهائلة، وهي القوة التي تعرَّف بنفسها إمبراطورياً، حيث تكون القبيلة في أصلها الأسري: العثماني، ماثلة في الأذهان، وتأثير ذلك في النظر إلى الآخرين، ورسم السياسة التي تتناسب مع الفعل الملموس سلطوياً على الأرض، حيث إن العثمانيين لم يدّخروا جهداً في إبراز صلة الوصل بين كونه من سلالة رجل أمكنه، في ظروف معينة، أن يشهد ذيوع صيته، وأن يتحول من بدوي آسيوي ” من آسيا الوسطى ” وهو أورطغرلي قبائلياً، ومن خلال انتصاره الساحق على البيزنطيين، إلى رمز تاريخي مقدس في نطاق دولة، اتسعت سلطها إلى نطاق القارات الثلاث: آسيا، أفريقيا، وأوربا، ولزمن طويل، كما جرى التأكيد عليها زعامة وسيادة ونفوذاً وقوة لها مأثرتها التاريخية (تعتبر الامبراطورية العثمانية من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ وأكبرها وأطولها عمراً. إذ شملت معظم الأراضي التي كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية الشرقية وأجزاء من شمالي البلقان والشاطىء الشمالي لالبحر الأسود وهي أجزاء لم تخضع يوماً لحكم الدولة البيزنطية.) ” 11 “، وعلى مستوى القوة وانتشار أثرها السلطوي على الأرض، لا يعود ممثلها ذلك الإنسان العادي، إنما المتعالي حتى على كونه من لحم ودم، على خلفية انتصاراته، وليكون له الحضور العملي، والمرجعي في مختلف التمثيلات التي تخص إدارة الدولة، حيث (كان السلطان العثماني رئيساً للدولة والقائد الأعلى للقوات العثمانية، ورئيس الهيئة الحاكمة- القولار- وفي الوقت نفسه رئيس الهيئة الدينية الإسلامية الحاكمة.) ” 12 .
هذا المكوّن الجمعي من الامتيازات، لا يفارق نسَب الأب، وقدرته على التصعيد بموقعه الشخصي، ومعرفته بالمقابل، لمدى تأثير القوة في سياقاتها الاجتماعية، في نفوس الآخرين، وهم يفتتنون بها، ويعظّمونه من خلالها .
إن هذه الرابطة السلالية بمأثورها الأبوي، ومن جهة واحدة، تعزز الفارق الكبير بين أن يكون أحدنا أباً، ولا يرى نفسه الوحيد في الأبوية، فهو ابن أساساً، وهناك نظراء له، ومن المعلوم، حتى جهة الحديث عن الأب، عن أنه معدوم الأثر إلا من خلال هذه ” اللقيا ” العضوية: حيث صار أباً، فهو موجود في ابنه هنا، أو من هو منجَب من خلاله عضوياً، وبذلك يكون فضل ظهوره وامتداده في التاريخ عائداً إلى الابن نفسه الذي يصبح بدوره أباً، وهكذا. إن ما يفصح عنه دوبريه له أثر فلسفي سهل الهضم (بمجرد أن يكون هناك أب، فهناك خداع للابن وسلب وارتهان. ولكن بمجرد أن يكون هناك إنسان، فلهذا الإنسان أب ” رعيّة، مواطن، مؤمن، مقاتل، محازب ” فأمام الذي لا مفر منه، لا بد من ترك شيء جانباً، في الحفظ، والترديد كل صباح أن الابن هو الذي يصنع الأب، وإن الإنسان هو الذي يصنع الآلهة، وليس الأب من يصنع الابن. ) ” 13 “
وحين نربط المقولة هذه بالواقع يجلي في مجاله الاجتماعي، وتظهر التباينات، بين الاقتصار على الأب وهو يتحول إلى طاغية، كما لو أن الابن غير موجود، وربط الأب بالابن، عبر ممارسة دستوية، ويتمثل القانون اجتماعياً، وهو ما ي العرف إليه، من خلال السلطة ويفية إدارتها، والعثمانيون حاضرون بتلك الأبوية الصارخة هنا.
لا يعود أي شكل من أشكال الإساءة إلى الغير: من ضرب، واجتياح لحدوده، وقتله، أو سلبه ماله، أو التحكم بمصيره عملاً لاأخلاقياً، إنما هو فعل مجاز ومشرعن، كما هو المقروء في تاريخه السياسي ومن خلال تابعيه وهم يشرّعون له ذلك.
تختفي هنا لصوصية الدولة، كما يختفي التشخيص المباشر ضمن مساحة جغرافية وسياسية واسعة، في ضوء النفوذ المعايَن لم يمثّلها، وكما يكن مكاشفة ذلك، وعلى أعلى مستوى، في ممارسات الدولة التركية، واعمادها على ميلشيات لا خفي إرهابها في العنف الممارس والمرئي ضد الكرد في عفرين وسري كانيه وكري سبي، كما تقدم آنفاً .
هذا التوسع في المقاربة الدلالية لأصل القبيلة، ليس لتقديم أي تبرير لما سنشهده في طبيعة سلوكيات عشيرة ميران، كنموذج بحثي، ومن موقع سوسيولوجي، وفي شخص زعيمها مصطفى نايف باشا، وإنما لئلا يعلق ذهن القارىء، أي قارىء، على أن التذكير بالقبيلة، يجد مهبطه التاريخي في القبيلة الكردية، وأن القبيلة الكردية تكون ما هو خارج عن السيطرة” وحتى تمثيلاً لما هو كردياً عموماً، في نظر مقسّميهم حدودياً “، وضرباً من القوة المدمرة، حيث تكون اللصوصية الوجه الأبرز فيها، حال القبيلة المذكورة، كما لو أنها مرض الدولة التاريخي الذي يتوجب عليها إعلان الحرب عليها، أو التشهير فيها، أو التعريف بها بأنها متمادية في المرسوم لها، وتسيء إلى الدولة ” البريئة الذمة ” سياسياً .
إزاء ذلك، تكون اللصوصية العلامة الفارقة للقبيلة هذه، تعميقاً للمفهوم، ولو أنه يحتاج إلى ضبط سوسيولوجي، كما هو المؤشر المنهجي البحثي الذي جرت تسميته في البداية، وما في ذلك من ” خلاف المقصود “: ما هو وليس هو !
” يتبع “