محمد حسين الداغستاني
يؤكد العديد من النقاد على أن المرحلة التجديدية في الشعر الكردي تعود الى بدايات القرن العشرين وهي وليدة نتاجات الشعراء أحمد خاني و شيخ نوري صالح ومن ثم عبدالله كوران ، فيما تشكل قصائد الشاعر شيركو بيكه س (1940 – 2013) إضافة إبداعية نوعية ذات تميز مبهر على إمتداد مسار الشعر الكردي المعاصر .
ورغم السيل العارم من المؤلفات التي أغنت الأدب الكردي الحديث بأسماء ونتاجات تتباين في مضامينها ومستوياتها الإبداعية فإن الناقد يجد في بعضها سمات فريدة تؤشر لإتجاهات وفضاءات رحبة غير تقليدية في مراميها ومقاصدها ، وتشكل محطة مهمة ليس في الشعر الكردي فحسب وإنما في مجمل المشهد الشعري العراقي والتي تمر أحياناً دون أن تستقطب الإهتمام والتركيز وقد تكون المجموعة الشعرية المكتوبة باللغة العربية والموسومة (عقارب الساعة التاسعة) للشاعر صلاح حمه أمين مثالاً على ذلك .
وبغض النظر عن التركيبة البنائية والفكرية للمجموعة التي صدرت عن الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في العام 2021 فإن النصوص الإنسانية التي أوردها الشاعر وجلها مستوحاة من فاجعة الأنفال تشي بتأثرها بأيات القرأن الكريم وأداب وفنون وكتابات لشعراء ومبدعين ينتمون الى جغرافيات مختلفة كقصيدة للشاعر الفرنسي رامبو أو أغنية للمغني المصري محمد نوح أو إرهاصات الأحداث المأساوية وهي بمجملها تؤطر الخارطة التي تفرز المسائل الحيوية التي تتصدى لها نصوص المجموعة وفي المقدمة منها قضية الوطن الموجوع .
وطنٌ
يضيف إليه حروف
ويهمش حروف
يمنعُ حروفاً من الصرف
ويستثني من الإعراب حروف
يجرجرُ خلفه حروفاً
وينصب حروف
يترك أحرفاً فوق رفوف
علقت بمساميرٍ حُدبٍ فوق جدارٍ هش
يخرجُ منها رأس تأريخٍ وشواهد
لاجدال في أن موضوعة الوطن ومتانة الروابط النفسية والمادية والمعنوية التي تبصم قصائد جل الشعراء هي في معضمها مصدرالإلهام والإنتماء اللصيق ونبع المشاعر الافياضة التي تحرك الوجدان والضمير إلا أنها في نصوص الشاعر صلاح لها آفاق غير محدودة بل ومؤلمة ناجمة عن أحداث وذكريات توحي بالقسوة والخوف والضياع النفسي :
خوفٌ وليل
قبجٌ يغردُ في قفص
ثلوجٌ وأمطارٌ لاتمطرُ في أوانها
عشبٌ يتبعُ خطوات الريح
فيسقطُ في زوبعة فنجان
طيورٌ وحمائم لاتستقر في ظل
فضاءٌ لايلتقي بأرضٍ
ولاببحار!
ويمعن الشاعر في معاناته مع حلمٍ يقارع أبواب السماء والأرض في مرثية نازفة تقطر ألماً ووجعاً ، يحفر أمام المتلقي هوة عميقة من المشاعر المتضاربة وتلون الآت من الزمن المعصور والمغلق باليأس والسأم :
تيهٌ من عتلةٍ معطوبة
فراديس وملائكة في قفص
إله يسدل ستار عينيه
ويدير ظهره لقادم من لهب
خزائن من ظلال وحقول من متاهات
مجهول يلوح بعصا من عدم
ومستقبل يرتعش أمام ناظور قناص ،
عتمة وغبار ، وسأم وفناء ،
عبث من صواب ، بوابات من مغاليق ،
شك وخيبة من أعمدة ووتد
ممر للأنبياء وموطن للشياطين .
ولاشك ان المرامي الساسية يتمدد على مساحة واسعة من نصوص المجموعة ، لكن هذا لم يحل دون أن تحمل ثناياها قضايا تثير إنتباه القارىء وربما الجدل وخاصة عندما يتناول الشاعر بصورة مباشرة قضايا الجسد والحواس والشهوات بجراءة متناهية في نصوص صادمة ، وهو في ذلك يتمسك بإدراجها في خانة حرية التعبير وإستحضار الفضاءات المفتوحة التي أتاحها الأدب المكشوف في الشعر المعاصر.
في وحشة الليل
أزرار مفتوحة وسيل مظاهرة
وأمواج من الشهوات في قفص
طبيعة تفتح وثاق رغبات قمطت
وعزلة تقود قطيع رغبات
نهدان يغازلان النجوم
وأماكن موبوءة بالفراغ
منها يرنو برعمك المتفتح
وأجد أن التعاطي الموضوعي مع النصوص الأكثر جرأة في المجموعة يجب ان يكون بعيدا عن التوصيفات المسبقة التي تفسر الحالة وفق قوالب وصفية جاهزة كزعم إثارة الغرائزوتهييج النشيء وما الى ذلك من طروحات غير دقيقة ، ذلك لأن النتاج الإبداعي الكردي تناول في كثير من نماذجه الشعرية الراقية موضوعات الجنس من منطلق فلسفي وتعبيري ، فهناك نقاد إعتبروا الشاعر الكبير أحمد الخاني وهو الشيخ الديني والمتصوف والعالم البارز من اعلام الحب الأفلاطوني ومن أهم دعاة العشق الإلهي السامي رائدا للأدب الجنسي منطلقين من نصوص أوردها في ملحمته الأدبية الشهيرة (مم وزين) منطلقا لهذا الزعم في حين أن مفهوم الجنس فيه جاء كما يرى نقاد آخرون كضرورة فنية تثير الخيال الإنساني وظاهرة حضارية راقية تقفز على الغرائز البهيمية وهذا أيضا ما أسس عليه صلاح حمه أمين في النصوص الجريئة للمجموعته .
وظيفة البنية اللغوية وبهدف تشكيل الصورة الشعرية للنص تسهم مفردات اللغة التي يوظفها الشاعر متجاوزا بصعوبة فخ المباشرة والتقريرية مستعينا بالجمل الاسمية باسراف في ستة عشر نص من مجموع عشرين نص تضمنته المجموعة ، ووفق تفسير النحو لهذه الظاهرة اللغوية فان الجملة الاسمية تدل على الاستمرارية والثبات ، فيما تدل الجملة الفعلية وخاصة تلك التي تبدأ بالفعل المضارع على استحضار الحال والكرار
طفح من رحيل
خيمة ، حصص ، عبوة زيت
خبز ، ورز ، حفنة احلام
وقمم من الوجع
بحر يتعرى ، يتدثر بثوب خطيئة ووهم
ظل يزحف خلفه شهداء
يتلفتون في كل لحظة للوراء
يبصقون في وجه حلم
تركهم دون ظلال !
وتأسيسا على ذلك فان البنية التركيبية في بناء الجملة في نصوص المجموعة افلحت لحد بعيد في تكوين الخطاب الشعري الهادف للشاعر ، وتاكيد مقاصده الفكرية والإنسانية التي يطرحها بكثافة لغوية وإحائية ظاهرة كما في نماذج مهمة ومعروفة في ديوان الشعر العربي ومنها قصائد الشاعر محمود درويش في استخدامه المفرط للجمل الاسمية قاصدا من وراء ذلك الاقتصاد اللغوي ، والتكثيف ، لكي يبدو النص اكثر حيوية وأمضى تأثيرا .
مدخل لباب حلم
ونافذة من غبار
عيون من عصافير
وحمائم
بقايا جسد قذفته سفينة نوح
وتأريخ يلفظ انفاسه الأخيرة نحو الفراغ
عتمة ضرير
وذبذبات تنذر بعاصفة من تراب
طقوس من سراب…
يقول أدونيس بأن الأثر المبدع له منظاره الشخصي الذي يناضل به الشاعر ، وبأن التمييز بين نوعين من الشعراء يفضي الى ان الاول يمكن وصفه بأن اللغة هي التي تكتبه فيما الثاني هو الذي يكتب اللغة ، وفي تقديري فإن صلاح حمه أمين نجح في هذه المجموعة بأخذ زمام تجربته الشعرية ، ومراميه ، وتداعيات قضيته التي تصدى لها بأسلوب بارع وظف خلاله نواة الحرف ، وقوة الكلمة ، والتعبير الحر المرئي للمكون الخفي دون وجل أو قيد .
________________
* نشرت هذه المقالة في الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية التالية :
1 ) جريدة (الزمان) العدد (7303) بتأريخ 18 / 6 / 2022
2 ) موقع (الحوالا المتمدن) الألكترونية العدد (7283) في 18 / 6 / 2022
3 ) مجلة (الگاردينيا) العدد ( ) في 20 / 6 / 2022 والتي تصدر في سويسرا
4 ) صحيفة (المثقف) العدد(5768) في 21 / 6 / 2022 والتي تصدر في مدينة سندني بأستراليا
5 ) مجلة TV العدد (13) والصادرة في شهر أيار 2022