هيفي الملا
لماذا أقرأ إذا كانت المعلومات لاتثبت في ذاكرتي ولاأستطيع استحضار كل الأفكار التي قرأتها في الرواية أو الكتاب المعرفي الذي فرغتُ منه.
سؤالٌ محيرٌ ، يقلقُ بعض القراء ويدفع بعضهم لترك القراءة للاعتقاد بعدمِ جدواها، أو إصابة البعض الآخر بالإحباط مع استمرار فعل القراءة .
ربما تجربة الإنسان الشخصية مع القراءة وتأثيراتها هي أكبر الدلائل وأكثرها إقناعاً، فأنا أعتبرُ نفسي قارئةً أولاً وأخيراً ، ومشوار القراءة لا أستطيع أن أرسمَ له خط بداية أو نهاية، ومدى تمدد أو تقلص، فهذا أمرٌ مرتبطٌ بحاجة الإنسان، وبرغبةٍ داخلية، وخصوصية قد تميزنا عن بعض البعض .
سألت نفسي أولاً، ومن ثم اخذتُ انطباعات بعض الأصدقاء القراء، وخرجتُ بهذه القواسم المشتركة بين ماذهبنا إليه.
القراءةُ فعلٌ يحقق السكون الداخلي والهدوء والرضا، والقراءة بالعقل الصرف لاتكفي، فالعقل ينسى، يسهو، يتشتت، ولكن القلب لايستطيعُ أن يتجاوز الأشياء التي تلامس المشاعر فيعملُ على حفظها، فالكتاب يجب أن يُحاور ويُقرأ من قبل العاطفة والعقل معاً.
لم يكن الهدف من القراءة يوماً الحفظ تلقائياً، حتى يشتكي بعض القراء من نسيان المعلومات، بل هو التخزين في العقل اللاواعي ، لنظهر آثار القراءة المتراكمة لاحقاً من خلال تصرفٍ ما أوحديث أو موقف حياتي أو تجربة معينة، فهي فعلٌ تراكمي تدريجي يعيدُ تشكيل أو تصقيل الشخصية لتجعل الإنسان قادراً على إبداء الرأي، لأنها ببساطة تغير الأسلوب وتعطي مفاهيم جديدة، وبالتالي تشكل حالة من التماهي فقد اردُ في سياق حدثٍ ما، بجملةٍ من كتاب أو اتذرعُ بالدفاع عن نفسي وفق نظرية محددة، ولا أدري إن كنتُ قرأتها يوماً في كتابٍ أعجبني، أم هي جملتي أنا ومن بنات أفكاري ووحي خيالي، لانفعالي السريع مع الموقف ولتأثير ماقرأته علي .
وهنا يستوقفني قولٌ للكاتب أنيس منصور :
“لاشيء يضيعُ، كل ماتقرؤه يفيدك، وكل ماتقرؤه موجودٌ في أعماقك، انت لاتعرف أين يبقى، و لاكيف، ولامتى يظهر بعد ذلك، ولكنه سوف ينفعل، وسوف يظهر “
ليس هناك إنسانٌ قادرٌ على حفظ رواية كما خطها مؤلفها، ولا حصر كل المعلومات التي وردت في كتاب فلسفي، ولا مراجعة كل المناهج والمدارس والنظريات الفلسفية من خلال كتاب ما، أو فهم المدارس والاتجاهات المتعددة من كتاب نقدي، لن نتخيلَ إننا قادرون على فعل ذلك، ولن نلزم أنفسنا ونعنفها على ذلك، بل لنترك أرواحنا على سجيتها، ولنطلق العنان لمشاعرنا وتفكيرنا محلقيَن في سماء القراءة دون شروط تعجيزية وقوانين إجبارية، فما أقرأه لايغادرني بل يسكن نفسي بشكلٍ أو بأخر .
اشتكى أحدُ الطلاب لشيخه، أن لديهِ مشكلة بعدم تذكر مايقرأ من كتب ، ردَّ عليه شيخهُ : أرأيتَ ياغلام ! إذا أكلتَ تمرةً! كم يبقى طعمها في فمك؟ فأجاب ليس مدة طويلة، فما يلبثُ أن يذهب، فقال الشيخ : أما فائدتها فلا تذهب، فإنها تنحلُ لجسمك وعظمك ودمك، كذلك الكتاب تنسى ماقرأته ربما ولكنه يظهرُ في شخصيتك وتفكيرك وعقلك وقلبك .
ربما يختلف طقسُ القراءة من قارئٍ لآخر، ربما تتفاوت الذاكرة القرائية كذلك، ربما يختلف الهدف من القراءة، لكن أظنُ أن كتابة مراجعة ذاتية مختصرة لكل كتاب في دفترٍ خاص تفيدُ كثيراً، وذلك طبعاً قبل قراءة القراءات المسبقة المعدة للكتب، لأنك وقتها ستتأثرُ بالكتاب بأسلوبهم لابأسلوبك وستتعاملُ مع الأحداث بمنطقهم لابمنطقك، تلك المراجعة لا أقصدُ بها مطلقاً دراسة نقدية أكاديمية منشورة وليس من السوءِ أن تفعل ذلك، وحتى تصبح قادراً على ذلك، تستطيعُ كتابة مراجعتك لنفسك، فهذا يساعدُ كثيراً على تثبيت فكرة الكتاب والرجوع إليه متى أردت، دون عناء قراءته كاملاً مرة أخرى، فالكتاب إذن يمنحنا المعرفة من خلال الرؤية الكاملة وليس المعلومات المتجزأة،
وأنا أقرأُ احياناً أتوقفُ، أحدثُ نفسي، ارددُ لنفسي قولاً جميلاً أو أقولُ فجأةً “أها هكذا إذن” أو أرسمُ خطوطاً في الهواء، صدقوا هذا ليس ضرباً من الجنون، بل طقس وطريقة استعادة لفكرة تكاد تفلتُ كقطٍ هاربٍ، وتطويقٌ حتى لاتضيع أو تتشابك مع فكرة أخرى .
القراءةُ ليستْ حالة سباقية، ولامدعاة غرور وفخر، وإن كنا نشاركُ مانقرأه، لأننا نؤمنُ بالقراءة كفعلٍ تشاركي مفيد وفاعل، لا رغبة رقمية نقطعُ بها اشواطاً نحو سقف معين، فمشاركة القارئ الحقيقي غيره بجميل الكتب التي يستفيد منها تعميمٌ للفائدة والحوار، إن كان ذلك من خلال صفحة شخصية أو نشرٍ أو ضمن نطاق مؤسساتي كنادٍ للقراءة مثلاً، وإن كان الهدفُ إحاطةَ النفس بهالة المثقف الجدي، فلن تلعب القراءة دورها ولن تبلغ مداها ولن تتعدى ذلك السور الوهمي ، ربما اقرأُ كتاباً كاملاً ليوحي لي بفكرةٍ يتيمةٍ، تعيدُ آلية خلية معطلة عندي، أو يعيد حيوية الماء لنهري الراكد، أو يعوضني عن خذلان، أو يزودني بإرادة احتاجها بين فترةٍ وأخرى.
فصفوةُ القولِ هي : إنَّ القراءةَ تبدلٌ وفعلٌ وسلوكُ حياةٍ إيجابي ولو تلمسنا آثار ذلك بشكلٍ تدريجي، بما تحدثه من تغييرات على طريقة التفكير، وديناميكية في التعامل مع المشاكل، وتصبح للإنسان ثقافة خاصة به، حتى في تعامله مع أبسط الأمور، حتى في طريقة مشيته وتسريحة شعره وهندامه وتعامله مع تفاصيل يومه الطويل .
قد يحلقُ الإنسان مع رواية ما، قد يلقي اللومَ على حظه الأعثر الذي لم يسعفه بحياة مماثلة يقرأ عنها، قد يرقصُ متمرداً كما زوربا ، قد يركل جثته الحية تحت عجلة قطار مثل كارنينا تولستوي، قد يمتطي حصان طروادة، قد يتجرأ على الحب والثورة وشرعنة ماهو غير منطقي حيناً، لكن بالإضافة إلى تلك الأجنحة والخيالات المحلقة، هناك قدمٌ ثابتة راسخة على الأرض، هناك عقلٌ واع يخزن المواقف، يفرزها، يستعين بها نحو نظرة واقعية فاحصة .
فعلُ القراءة عامٌ، ولكن لكل مقام مقال، ولكل زمان حكماء، ولكل مجتمع خصوصية، اقرأ لأعرف ذلك، اقرأ لأخذ من كل طيفٍ لون، ومن كل سماء تعلوني نجمة، ومن كل شجرة تمرة. لا تضيع ثمرة قراءة جادة، لأنها تعيدُ وتؤسسُ وتقوي.
وربما الأهم في زمن التناقضات والازدواجيات وعدم ثبات المعايير، أن يكون لنا فسحة للخلوة بالعالم، وفي اعتقادي يغني الكتاب عن الكثير من الخيبات، ويرمم الكثير من
الانهيارات، ويقابل بالحنان الكبير آثار وصدمة الصفعات .