أسير الشغف (إلى أحمد الذي أبكاني من أول صفحة من ديوانه في جنّته التي لا يراها سواه)

صفاء أبو خضرة| الأردنّ

من قال إنّ الأسير هو محكوم تلدغُ حريّتهُ أفاعٍ حديديةٍ من كلّ صوب، وإنّ الوحدةَ هي عالمَهُ المنبسط تحتهُ وما من خياراتٍ أخرى ليتنفس؟
في “أنانهم”، عاشَ أحمد العارضة الكثير من الحيوات، وتربّص بتلك الأفاعي ليُثبت لنا ولكل من يقرأ ديوانه أنّها مجرد وهم ما إن ألقى عصاه حتى تبدّتْ مثلَ الضباب.
وإذا ما تأملنا العنوان، “أنا نَ هم”، وقد توقفت طويلا أمامهُ أرى شاعراً بجناحين من قلق ونشوة، سماؤه الاستعارة وأرضه المجاز، أيّ تجلّ كان يهيمُ فيهِ أحمد حتى انكشف إليهِ هذا العنوان، بل أيّ فلسفة مقمّطةٍ بالشعر حبانا بها لنعيش معه تلك الحرية التي يغفل عنها ولن يصل إليها الاحتلال يوماً، الحرية التي تنبع من الداخل، من ذواتنا وأنفسنا وأحلامنا وأفكارنا ومن حبنا لهذا الوطن العظيم فلسطين، من رسالتنا للعالم أنّ هذه الأرض لنا وتسري فينا سواء كنا خلف القضبان أو في اللجوء أو حتى تحتَ التُّراب، فهي الهالة التي تحيط أبناءها أينما حلّوا وتحضنهم جميعاً بطريقة أو بأخرى مدفوعين بكل ذلك الشغف.
ولم يكُفَ يذكرنا في كلّ حرفٍ وصورة أنهُ يحيا في المجاز والاستعارة ليدلنا على طريقة العيش التي يحياها الأسير خلف قضبان الظلم، بل ليمنحنا بوصلةً للبقاء على قيد الأمل والحلم، ويتجلى ذلك في قوله:
“ركوةُ ِهذا المساء المُشوّه 
تطعمُ بالهالِ أو بالقُرُنفل 
مجازاً يُزاوج بين التصوّر والافتراض”.
في ديوان أنانهم، تكشّفتْ أنا مغتربة من بين السطور، انسلختْ سلخاً عن ذاتها لتصنع ازدواجية ما بين الذات والآخر، أو بين الأنا والأنا المقابلة، لنرى أنّ شاعرنا لم يكن مغترباً عادياً، كانَ صوفياً ومريداً ونبيا وإلهاً ونرى ذلك بقوله:
“أنا صلصال ِّ رب الورد تُخطئني حبال الماء حيث أعيش في رمضاء هذا الكون ٍخاو في العراء
وقوله:
“أنا ربّ من الفخار مركونٌ كآنية من صفيح”.
كما نرى أن شاعرنا وصل بوعيه وإدراكه من عبثية الأشياء من حوله إلى تلك الفجوة الكبيرة ما بين الواقع الحقيقي والواقع المأمول مما شكّل تكوينه النفسي ودفعه إلى حالة من التوتر الدائم والقلق وفي مقطع يتجلى فيه يقول:
أنا لا ألتقي نصفي الصغير سوى مصافحة تقاسمني العبث”.
ونجد أن أحمد العارضة يمتلك رؤيا خاصة فلم تكن الكلمة لديه على حساب المضمون، بل كانَ لكلماته خلفية مظللة يتسنى للقارىء إن تأملها جيداً، رؤيتها واضحة جلية، ويظهر ذلك من خلال استحضاره لثلاث صور مأساوية من الأسطورة والتاريخ لمقاربتها مع مأساة الفلسطيني: مصرع الإله أدونيس، ومأساة صلب المسيح، ومأساة مصرع الحسين بن علي، أراد أن يرسم لنا من خلالهم ملامح الاغتراب والألم والبطولة والمقاومة وفي الأخير الانبعاث.
إننا أمام مجموعة شعرية تشبهُ تُلامس الماء للماء فيصدر ذلك الصوت الفضي الذي لا نسمعهُ بل نحسه، وتشبه في اغترابها تنهيدة آخر الليل عندما يكون القمر وحيداً وبعيداً في ضوئهِ، إننا أمام قصائد تقرع الأجراس لتنذرنا بشاعرٍ استوى على عرش القصيد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كانت الكتب متناثرة على أرضية الغرفة كما جثث جنود بعد معركة فاصلة. وقف “شيروان” -زعيم حزب “التحرير الديمقراطي”- يتأمل خراب مكتبته كقائد يزور ساحة هزيمة.

في الأمس القريب: كان على منبر مؤتمر دولي مرموق، يلقي خطاباً عن “الديمقراطية التشاركية” و”حقوق الشعوب في تقرير المصير”، صوته جهوري، حجته قوية، إيماءاته تملأ الشاشات. قال للعالم:…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

نصر محمد / المانيا

-يضم صورا شعرية جديدة مبتكرة ، لغة شعرية خاصة بعناق ، تعانق الأحرف بالابداع من أوسع أبوابه ، انها لا تشبه الشعراء في قصائدهم ولا تقلد الشعراء المعاصرين في شطحاتهم وانفعالاتهم وقوالبهم الشعرية

-مؤامرة الحبر يترك الأثر على الشعر واللغة والقارئ ، يشير إلى شاعر استثنائي ، يعرف كيف يعزف على أوتار اللغة…

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…