عندما يصنع «القتيل» سرديته الخاصة

فراس حج محمد| فلسطين

استشهاد شيرين أبو عاقلة، رحمها الله، مراسلة قناة الجزيرة القطرية، كان أبعد من استشهاد، موت، قتل، إنهاء حياة، التوقف عن العمل، سقوط الكاميرا، انعدام البث. انفجرت كل هذه الدلالات ليصبح الاستشهاد شهادة ساردة ببلاغة معجزة، والموت حياة لأكثر من هذه الحياة، والقتل ارتفاع ورمزية، وإنهاء الحياة صار يحمل حياة مؤبدة في القلب والوعي والذاكرة، كما أنه لم يتوقف عمل شيرين بمقتلها، بل ظلت تنقل الحدث، لقد نقلته وهي مسجاة تنظر ببصيرتها من علو نعشها إلى الجنود المتصاغرين المدججين بالحقد والموت، يحاولون عبثا إطفاء عين الكاميرا لتتوقف عن العمل، فلم يسقط النعش، ولم تكفّ الكاميرا عن فعلها، وبقيت معنا على الهواء مباشرة مراسلة الجزيرة من جنين ونابلس ورام والقدس حتى وهي تقوم حيّة في قبرها شاهدة شهيدة.
حالة شيرين أبو عاقلة من أكثر الحالات التي تفلتت من برودة الموت إلى ألق الحياة، حتى وهي توضع في سياق الاختلاف العقائدي، لم تكن إلا لتعلو على هذا الجدل التافه في توقيته، والتافه في عرضه، فالله لجميع مخلوقاته، والخلق كلهم عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وشيرين من عيال الله وكانت من أنفع الخلق لعيال الخالق. لم يكن أحد يعرف أنها “مختلفة” وهي مرابطة في المسجد الأقصى وفي ساحاته، وهي تدافع عن غزة وترفع شارة النصر وتقول: “يا رب احم غزة”، شيرين منا وفينا نحن الذين نحب فلسطين وتاريخ فلسطين، وشهداء فلسطين، وعظماء فلسطين، وزعماء فلسطين الحقيقيين، وشهداء فلسطين، كل الشهداء، ولذلك فإننا أحببنا شيرين وسنظل نحبها، لأنها أشرف من كل زعمائنا، وأنقى من كل مثقفينها المدجنين، إنها لا تقل شرفا عن غسان كنفاني وباسل الأعرج وأبو علي مصطفى ودلال المغربي.
شيرين أبو عاقلة أنهضت المتنبي من مرقده ليقول فيها: “ولو أن النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال”، نعم لقد فضلت شيرين على كثير من الذكور الساعين إلى السلامة والانزواء ليتمتعوا كما تأكل الأنعام فالنار مثوى لهم، وكان لشيرين الضوء والمجد والخلود. 
كما أن شيرين أعادت أمير الشعراء ليقول في دمها المسفوك: “جرى في أرضها فيه حياة كمنهلّ السماء وفيه رزقُ”، وأعادت قول إبراهيم طوقان في الشهيد: “لا تسل عن سلامته روحه بين راحته”.
لقد نجح استشهاد شيرين أبو عاقلة من أن يبعث الشعر القديم، كأنه لم يقله قائلوه إلا فيها وحدها، فكانت عالية في حياتها وعالية في مماتها المجازي الذي أكبر من الحياة ذاتها فصار كما ينبغي له أن يصير: “علو في الحياة وفي الممات لعمرك تلك إحدى المعجزات”.
على الطرف المقابل، والنقيض لسردية شيرين أبو عاقلة، كان ثمة سردية هشة ميتة، تحاول أن تكون في جنين وفي القدس، لكنها لم تنجح، سردية تغتال الحياة والفرح، وتتمرد على كل ما هو قانوني لتصنع سرديتها البشعة المفضوحة في كل مرة بعين وقلب وفكر شرين أبو عاقلة. 
تنجح شيرين أبو عاقلة بهذا “الموت” أن تردّ المحتل إلى مربعه الأول الذي لم يغادره منذ النكبة الأولى الكبرى عام 1948، تعيد له التذكير بحقيقته؛ صغيرا، محاصرا، وغبيّا، وتافهاً جداً، ويخبط خبط عشواء، ليتردى ويعتدي على النعش ليحاول إسقاطه، إنه تصرف- عدا أنه صبياني- فهو غير أخلاقي، لم تحترم تلك الكائنات العبثية جلال الموت الراقد في النعش، ليتحول النعش إلى فصل من فصول سردية شيرين المناضلة بنفسها، إذ يأبى الله إلا أن يتم نور شيرين ومقاومتها وسرديتها من لحظة أن عانقت ثرى فلسطين في جنين وحتى مثواها الأخير في روضتها الصغيرة في المقبرة التي ترقد فيها بسلام وأمان واطمئنان. وهكذا بكل هذه البلاغة البعيد عن الإنشاء الفارغ من المعنى تصنع شيرين أبو عاقلة سرديتها الخاصة لصفع بها وجوه المحتلين ووجوه العالم الحرّ الذي يدعي احترام القيم الإنسانية، فسردية شيرين هي الفاضحة لكل ما هو مزيّف في العالم أجمع.
رحم الله شيرين أبو عاقلة التي لن تموت، وإنما رحلت إلى حياة أخرى، لكنها ستظل معنا، لتقول كان معكم من فلسطين شيرين أبو عاقلة، بل لتظل تقول: أنا شيرين أبو عاقلة، ها أنا معكم من القدس، وسأبقى في القدس، وبالفعل لقد بقيت في القدس بسرديتها المشرفة والعالية التي تجعل الاحتلال مجرد هامش غريب وبسيط، سيزول يوما طال الزمان أم قصر. “ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً”.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…