شارع Lima.

عبداللطيف الحسيني.

“بعضُ الطيور إلى اﻷعشاش عائدةٌ
ما لم تجد في ربوع الهجر أحبابا.”
 دخلتُه طائراً كالغراب أو البوم يرقبُ ربعَ البشر ..شاربين البيرة أو
راقصين.للمرء أن يتخيّل رجلاً بنصف لسان مرميّاً بينَ عشرات اللغات ولا
يتقنُ واحدةً منها، يتمعّن في وشم ذلك الشاب، ويراقب فم تلك الفتاة
المرقرق بالنبيذ، ويقترب من ذاك الراقص.
الغريب حين يدخلُ مدينةً غريبةً تتحدّثُ بغير لغتِه عليه أن يتعرّف على
اﻷمكنة العامة المتاحة ﻷمثاله ويتحرّى علوّ اﻷبنية التي تبرق حمرةً
بجانبها كنيسة تلمعُ.
قلتُ سأبني ههنا بيتاً بجانب منزل حنّه آرندت المهجور…فقد تراني من
شرفتها أذوب برداً في زاوية الشارع فتشفق عليّ و تناديني ﻷدخل بيتها
متدثّراًً بمعطفها الصوف..وربما تنزع عن وجهي المتغضّن حبات المطر.
لا أريدُ بيتاً إلا ههنا أُمضي ليلتي معَها أتصفّح دفاترَها وأستنشق
سيكارتَها، لا أريدُ أن تقول لي شيئاً عن نفسها ﻷني أعرفُ كلّ شيءٍ. لقد
أعدتُ حياتي نصفَ قرن للخلف ﻷراها اﻵن.
قد يجمع اللهُ الشتيتين بعدَما.يظنّان كلّ الظن أن لا تلاقيا.
ربّما تمدُّ ذراعَها ﻷغفو فوقَها نصفَ قرن فاتني.
مَن رماني من تلك البلاد إلى هذي البلاد؟
“أهو ذنبُكَ أنك عشتَ يوماً في تلك البلاد”
تحملُها مكسورةً….مكسورٌ يحمل مدينةً مكسورةً.
أمرُّ في هذا الشارع، لكن عيني تخيّبني: أرى بدلَ النهر اﻷخضر ساقية يرمي
فيها طفلٌ حجراً على كلب أعرج يهربُ محتجّاً.
ألمسُ شجرةً تظلُّ خضراءَ طَوَالَ العام تحوّلُها عيني إلى عشبةٍ يابسة
الشكل والمضمون والمعنى.
……
قلتُ ﻷحد أصدقائي:كيف سأتخلّص من الحنين الذي يستبدُّ بي، إني أرى مدينتي
البعيدةَ في هذه المدينة التي تقيمُ فيّ؟
أجابني: عليك بالكتابة.
عملتُ بنصيحته….ها هي اﻷيّام تمرُّ أُلصقُ ليلي بنهاري وأنا أكتب دونَ
أن أنام دقيقةً واحدةً.نصيحتُه كانت وبالاً عليّ، نهاري و ليلي باتا
حنيناً يفجّرُ حنيناً.
“ساعاتُه اﻷيّامُ، أيّامُُه اﻷعوامُ، والعامُ نِير، العام جرحٌ ناغرٌ في الضمير”
….
إنّه شارعٌ واحدٌ مستقيم، أراه من اﻷعلى يظهر أمامي سيفٌ مستقيم يبرق.
أُحصي أيّامََ اﻷسبوع ﻷصلَ إلى مساء يومَي الجمعة والسبت ﻷكونَ عضواً في
هذا الفيضان البشريّ الذي لا ينتبه أحدٌ فيه إلى أحدٍ.
المشهد اﻷوّل:
هذا العازفُ الإسباني يتلحفُّ جلباً أحمرَحاملاً قيثارتَه…. يغنّي
ويعزفُ ويرقصُ ويبتسمُ للمارّة، ورائحة الحشيش والبيرة والنساء تغطّي
سماءَ هانوفر، يغنّي بكلّ اللغات اﻷوربيّة…وحدي لا أفهمُه، أظلُّ
يتيماً ..مرميّاً في زاوية مظلمة.
المشهد الثاني:
من البلاد اﻷكثر رعباً إلى البلاد اﻷكثر أمناً.حين أسهر في هذا الشارع
الذي ينهمر بالبشرحتى الصباح أتساءلُ: أليس لهذا الفيض البشريّ همومٌ أو
أمراض أو شكاوى؟ أنا الحرُّ المثقل بالقهر والهموم وتدورُ فيّ الظنونُ.
صرختُ بوجه أحدهم: أريد أن أصبح طائراً ﻷعود إلى بلادي. لم يفهمني..ظنّ
أنّ معتوهاً مرَّ به وقال…ما قال.
بعضُ الطيور إلى اﻷعشاش عائدةٌ
ما لم تجد في ربوع الهجر أحبابا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…