نوجين قدو
لطالما كانت تستهويني العناوين العريضة، تدقّ طبول فضولي، فأغرق في تفاصيلها، أحاول تجسيد كائن من روحٍ وجسد من خلال أبجدية اختُصرت بكلمتين أو أكثر!
أجد نفسي هنا رغم مرونتي في تطبيق ذلك، حائرة عندما تتحوّل الحرائق إلى وحي، والزيتون إلى آلهة سقطت إثر صراع الطواحين في مدن الاغتيال.
أجد نفسي أنهار على قمّة معرفتي في بحر حبريّ غارقٍ في الألم، بين عنوانٍ آخر يسطّر المعنى من خلال «خيمةُ حرب… حربُ أرقام». أخرج حينها عن فكرتي السابقة وانطباعي الأول عندما أجد نفسي محبطة، خارجة عن الحياة بقلم أسودَ وأمنيةً تنتظر على أعتاب الاستجابة دون رجاء، كان اسمها «لنعد صغاراً». ولكنها الحرب، أصابتنا في استقامتنا، وجعلت بعضهم يُبصر دون حاجته لعينيه، فيعبر عماؤه النور، لتبقى صرخات الجهل عالقة في حضيضها، مشوّهة، ملعونة بالظلام.
هو الظلام ذاته مَقرون بالظلم والجريمة، حينما صوّرت الأحياء بوجه امرأة، في «بقايا امرأة»، تلك التي ما كانت عنواناً فحسب بل شهادةً ولوحةً متكاملة وشاملة، تحكي عن واقعٍ ضَغِنٍ، سلب منها أول حرفين وعلّق مشنقة البحّة الأخيرة، ليكون الصمت هويّة تعريفها والحياة القسرية بكلّ ما تحملها من عذابات مسلكها وطريقها.
كنت مصرّة على تفسير العناوين حتى أسقطتني في مأزق حقيقي مع نفسي، مما جعلني أسير بين السطور لأتعرّف على شخصية الشاعر أكثر وعن كثب، من خلال هذا الكم الهائل من المأساة في جحيمه الحيّ «جحيم حيّ: ديوان شعر، صادر عام 2021م، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، في الأردن»، مولوده الأول. تساءلت مراراً مَن يكون إدريس؟! ما حاجته بالجحيم في الدنيا؟! ولمَ أصرّ على إحيائه؟!
وما حوّل فضولي إلى دهشة هو افتقار الديوان إلى إهداء، حيث اكتفى إدريس بنصف كلمة؛ كأنه يمهّد لانتفاضة شعرية، وحرب تتقطّع فيها أنفاسنا، بينما نخوض معه رحلة شاقّة مع الشعور الخام من القصيدة الأولى وحتى العشرين والأخيرة، وبين الصرخة والألف بين السطور والندبة وأختها في الحواشي والهوامش.
اختتم كلمته الناقصة، حيث شاء لها نصفاً وحيداً بقول وجّهه لأبيه، كانت الحقيقة هي حروف تشكيلها والألم مجدّداً قاب قوسيها، فقال:
«ما يقهرُ الروحَ يا أبي: غريبٌ يرَانا كِباراً، وقريبٌ يَرانا صِغاراً…، هو وجهُ العدالةِ القبيح».
كنت بين النصّ والآخر أتعرّف على شخصية جديدة وألم من منطلق لا يشبه الذي قبله سوى باستمراره، فكانت الطريق صوب النهاية مدبّبة ليس بحيرتي فحسب وإنما بالمخاطر، حيث توجّب عليّ الحذر الذي فقدته منذ القصيدة الأولى، التي بدأت ملتهبة بأوجاعه سرداً عندما تحرّر قسراً عن قافية قيّدت مسيرته بأغلالها من خوف، حيرة، رعب واستياء وفراغ جعله يتخبّط متمرّداً وصارخاً في سماء المعنى، يشهر سلاحه في صدر الدنيا بازدرائها التي ما أنصفت أحلامه ولا أجابت على تساؤلاته الغارقة بالأسى، ليطلق في الهواء صيحة عبثية:
أغيثوني من عطشي
فأنا الحريقُ، لا هو.
سأتركُ اتّهاماتٍ مُبلّلةً
بتبعيّة
بخنوع،
وبأمجادٍ زائلةٍ
تتراقصُ على أكتاف المَناجلِ.
هنا بدأت أرسم صورة إنسان منهك، وتحت كلمة إنسان وضعت ألف خطّ، فكانت رسالته النبيلة قد صارت في متناول الروح. وما أقدر المرء المثقّف على كتابة الرسائل بل وكتابة الدواوين الشعرية والروايات وجلّ الأصناف الأدبية التي لها أن تكون خالدة أيضاً. ولكن قلّ مَن غدا حقيقياً، يكتب بروحه (وبصدق)، وأؤكّد على هذه القيمة التي غدونا نحتاجها في العوالم الأدبية والفنّية المختلفة، بل وفي شتى مجالات حياتنا في عصر الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية منها وأيضاً المفتعلة. في زمن التكنولوجيا والكلمة سهلة التناول والانتشار، تلك التي لم نعد نستطيع تمييز صدقها من زيفها.
حارب إدريس سالم بمنطق وفكر سليم وعذب وليس فقط بشعوره، حتى الصفحة الأخيرة، وجاهد ليكون المنبع الأمين والمصدر الموثوق. إذاً عن أيّ حقيقة مجرّدة جاء ليخبرنا، ليزيل غشاوة أعيننا وأحياناً ليقفأ عيناً لم تعد صالحة للرؤية؟!
عن أنفسنا أولاً، عن الظلمة التي نعيشها، عن الخراب الذي نحفره لبعضنا البعض، عن البؤس الذي يحضّر لنا، عن أمّة وشعب، عن الضحايا عقب كلّ ذلك، عن الدسائس التي نعيش تحت سقفها، عن دين الفقر الذي نعبده، عن الكُرد يا سادة!
هكذا يولدُ الألمُ في مَدينتي
ذاك المُتذمّرُ الصّاخبُ.
هكذا نُطفئُ فراغاً مُعتكِفاً
نُفرِطُ بالأمل
وسطَ ركام العبثية
نجمعُ شظايا عديمةَ الشكلِ
جاهدين نحاولُ
رسمَ معالم روحِ الإنسانيةِ.
كم تعثّرت أنفاسي بينما كنت أقرأ عن خيباته المتكرّرة، تصاعد آماله في لحظة حالمة لتعود فتُرمى من قمة واقع بائس فرض على الكاتب والقارئ معاً حزناً جسيماً! كم حاول رغم عجزه حيال الأحداث الخارجة عن السيطرة وعن المعقول، أن تكون صرخة قلمه واضحة ونداؤه مسموعاً، وأن يبني صرحاً يصغي ويعتبر من انهياراتنا، فقال في ذلك في قصيدة «غناءُ الحجل»:
تعلّموا…
أن الاعتقالَ والاغتيالَ
لا يبنيان الأوطانَ
لا يزيلان الاستيطانَ
أن ألفَ طعنةِ خَنجرٍ من الشرّ
أرحمُ من طعنة غدرٍ واحدةٍ من الخير!
كان إدريس إلى جانب تمسّكه بإنسانيته، كردياً بجدارة، ينقب بين أدوات الكلمة عن شروح وافية ومغزى يصلح أن يكون وثيقة إثبات لكلّ مَن قصم ظهر انتماءه وسلب منه حقّه وحقّ شعبه في الصمود والبقاء بكرامة، بكبرياء، دون فقر وظلم، دون موت ودماء، دون أن تشفق قطط الأزقّة قبيل الفجر على صوت أمعائه التي تضوّرت جوعاً ساعة حربٍ ضارية، قرّرت أن تشنّ هجومها على سماء مدينته كوباني، لانتزاع خيار الاعتراف بقضيّته، لغته ووجوده كمواطن كردي وكائن بشري.
كانت جراحه بارزة في خضم سطوره حول فاجعة أرضه، حيث شُوهد في الحدث، وكان شاهداً أيضاً في فجوة من الظلم خَلقت من وصفه صدقاً وإبداعاً فنّياً لامسني بشدّة، إذ كما قال خليل مطران «الشاعر الحقّ مَن يجلو الشعور له شمساً من الوحي في داجٍ من الظلم». فكان لشعور الظلم تأثيره الطاغي على الشاعر ونصوصه، الظلم الذي عايشه خلال الحرب السورية التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، والحروب الأهلية بين شعبها وانتهاك حقوق القوميات «الشعب الكردي»، والهجمات التي شُنّت عليهم من كلّ حدب وصوب، كتنظيم داعش في مدينة كوباني وتدميره للعوالم وحرقه للذكريات ومحاولته إبادة السكان. أيضاً الحرب التركية وفصائلها المسلّحة التي احتلّت مدينة عفرين الكردية. تعاقبت هذه الويلات في حياة وذاكرة الشاعر وتتالت الفاجعات على الأرض، ممّا أثارت سخطه وغضبه اللذين جعلا منه ذاك الرماد الحاقد ليتقيّأ حبره نازفاً قائلاً:
إنها تخلعُ وجهَ الخارطةِ
من بدن العالم.
نحن الأمّة التي تميل كلّما رفعت رأسها، تسقط كلّما استقام طريقها، نحن شعب اعتاد أن يتقاسم الخسارة ويُطعن بها في سبيل موهوم بالنصر، مرّة بسكين القدر، ومائة مرّة بسيوف غادرة، وألف مرّة بخناجر جهلنا. أراد إدريس مراراً أن يخبرنا عن ذلك حينما كان يعلو جبهة القصيدة وأحياناً يفقد مفاتيحها إثر انشغاله بالفكرة، أيضاً كان يفقد صوته فتغيب عني موسيقى قصيدته، كنت أُرجع ذلك لمقدار التعب الذي شعر به أثناء صراخه، توسّلاته، توصياته، ورسائله المكتظّة بالحكمة والشعور.
لم يغب عني إطلاقاً أثر القصيدة الأخيرة «بقايا امرأة»، تلك التي أرشف من خلالها قضايا المرأة الشرقية جمعاء بواحدة، كانت هي بَروين، رمزاً للظلم والقهر الاجتماعي، بَروين التي اختصرت معاناة كلّ أنثى سواء بدموعها، بمشاعرها، بتفاوت حجم وشكل الظلم الذي عاشتها في حياتها مع غيرها من النساء. ولكنها القضية التي لا تزال تُطرح كلّ يوم وإلى جانب الحداثة التي نشهدها، إلا أن المأساة تُعاش وبكثرة ودون أدنى اعتبار للضحايا، جراء كلّ جريمة تحصل بحقّ المرأة. كانت بَروين الأنثى التي أحبّت يوماً فكان ذاك ذنبها الذي دفعت ثمنه غالياً، بزواجٍ قسري ومجتمع يلعن وجودها كلّ يوم بصورة رجل جلّاد وحياة فُرضت عليها لكونها امرأة.
ما بين الحبّ والحرب والمفارقات بين المرأة والرجل والتدهور الاجتماعي الذي ينشأ في الأوساط تنزلق الأشجان، كما أن «عدد النساء اللاتي يقتلهن الحزن أكثر من عدد الرجال الذين تقتلهم الحرب» كما يقول أنيس منصور، لذا تبقى المرأة هي الحلقة الأضعف في حلبات الصراع في شرقنا العاثر. هو ذاته المجتمع الذي لم يقبل الاختلاف، فصوّره بتسميات مريضة تنم عن جهل وتبعية كانت هي أسباب مآسينا، عندما كانت السخرية لا تواجه الخطايا وإنما الخلق الذي فقد بصره، حيث أراد سالم هنا أن يلفت نظرنا ويوجّه وعْينا إلى أن البصيرة تكمن في الروح الطاهرة، وأن المضي قدماً لا يتطلّب ساقين، بل إيماناً وعزيمة داخلية وإرادة تستطيع من خلالها ألا تشعر بالعجز وإنما تسير في دربٍ من دفءٍ ونور. فقال:
في أعماقهم ينعتوننا:
«ضريرٌ، مُعاقٌ!».
إنهم عقولٌ مَحجوبةٌ بالفِرَاء
لا يعلمون…
أنّنا نرى البهَاءَ دُجْنةً
والدُّجْنةَ بَهَاءً.
عايش إدريس من خلال قصائده العشرين شعور الألم والأمل، الحبّ والكره، الخذلان والمساندة والقهر الكبير، فكانت أشبه بسيمفونية تشرح انكساراته، وتصمت حيناً لتختبر صبرنا على الكرب ومقدار احتوائنا للمغزى، عبر سلّم موسيقي محكم بمهارة، يتنقل بين قرارها وجوابها بسلاسة العارف.
كان سؤالي مع نفسي يتكرّر دائماً حول ذلك بين السطور: من أين حصد هذه القدرة كلّها؟ لأكون صريحة، فقد استغرقت مني القراءة مرّات ومرّات، كان يتوجّب عليّ أن أحمل المعنى من جوانبه المتعدّدة، ولأقول أن الديوان رغم أنه الأول إلاّ أنه يستحقّ ذلك. فكم أُرهقَت أنفاسي سلسلة الوجع الواقعي تلك التي سطّرها لنا! وكم كان عصيّاً عليّ أن أستمرّ في إقامتي في مواطن الشعور، بل والأصعب كان عندما أوشكت على النهاية أثناء رغبتي بالمزيد! هذه هي العلاقة الشائكة بين المرء وآلامه، يطوي صفحتها دون أن يغفل عن كيّها بميسم الذاكرة بين الأحيان.
وهنا كان إدريس بشكل أو بآخر قد بدأ واضحاً بالنسبة لي كإنسان وكشاعر وهما لا يختلفان كثيراً بل يجتمعان كثيراً في الحقيقة، وهذا الجحيم الذي آلمني بشدّة، وأيضاً في السلام الذي قرأته وشعرت به في عيون الكلمات والمحبة بنقائها التي كان تلك الرسالة الشاملة والجادة، والتي خلقت هذه الكيمياء بين القارئ والكاتب وديوانه.
وهذا ما يوثّق رأيي عندما أقول أن للشعر وجهة يمتاز بها عن غيره من حيث اصطياد الشعور وتأثيره على المتلقّي، عندما يكون سليطاً ومجرّداً في بنية سليمة.